كيف تم ترتيب سور القرآن
كيف تم ترتيب سور القرآن الكريم
إن ترتيب سور القرآن الكريم كلُّها أمرٌ توقيفيٌّ من الله -تعالى- لا اجتهاد فيه، نزل به جبريل -عليه السّلام-، وأخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه بهذا التَّرتيب، وللعلماء على هذا الرأي عدَّة أدلَّة نوردها فيما يأتي:
- قول الله - تعالى- : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)، ويُفهم من هذه الآية أنَّ الله -تعالى- لم يترك ترتيب السُّور لاجتهاد البشر؛ لأنَّهم بطبيعة الحال تختلف آراؤهم ووجهات نظرهم.
- قول الصَّحابيِّ زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: (كُنَّا عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ نؤلِّفُ القرآنَ منَ الرقاعِ)، وهو أحد كُتَّاب الوحي ، وقد فسَّر العلماء مقصوده من كلمة التأليف أنَّهم كانوا يجتمعون عند رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يرتِّبون الآيات التي كانت تنزل متفرِّقةً وجمعها في سُوَرِها وترتيبها بأمرٍ منه -صلى الله عليه وسلم- وليس لهم رأيٌ في ذلك.
- إجماع الصَّحابة والعلماء جميعهم من زمن النَّبيِّ -عليه الصّلاة والسّلام- إلى زمننا هذا، ولم يُخالف أحدٌ هذا التّرتيب، ولذلك رجَّح العلماء هذا الرَّأي، بأنَّ ترتيب سور المصحف كان توقيفيَّاً، أنزله الله -تعالى- على جبريل -عليه السّلام-، فأنزله إلى محمَّد -صلّى الله عليه وسلّم-، وأمَّا السُّور التي لم يرد فيها دليلٌ على ترتيبها فقد يكون قد نزل فيها دليلٌ لكنَّه لم يصل للعلماء، ولم يجتهد أحدٌ في ذلك.
أما مصاحف الصَّحابة واختلاف ترتيب السور فيها فهو راجع إلى أنها مصاحف خاصَّة بهم وليست لعامَّة النَّاس، كتبوها لأنفسهم، وقد كانوا يدوِّنون فيها مسائل أخرى غير آيات القرآن الكريم، كالتَّفسييرات وبعض الأبيات الشِّعرية، كما أنَّ دوَّنوا هذه السُّور القرىن أيام الصحابة لم يكن مدوّنا بين دفتين كما هو في أيامنا بل كانوا يدونون بعض السور دون مراعاة للترنيب وغيره، ولذلك اعتمد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عندما جمع المُصحف الشَّريف ترتيب مصحف أبي بكر -رضي الله عنه-، ثمَّ أحرق النُّسخ الباقية كي لا تفترق الأمة، ويختلف النَّاس في ذلك.
حكم قراءة سور القرآن بالترتيب
إنَّ الالتزام في ترتيب السُّور أثناء تلاوة القرآن الكريم ليس بواجبٍ، بل يستحبُّ ذلك؛ لأنَّ الله -تعالى- لم يرتِّب هذه الآيات عبثاً، بل له حكمةٌ في ذلك، ويستحسن للمسلم ألَّا يخالف التَّرتيب ليلتمس هذه الحكمة الرَّبانيَّة، سواءً أثناء تلاوة القرآن الكريم للعبادة، أو في الصَّلاة، وتسمَّى قراءة السور على غير ترتيبها بالتَّنكيس في القرآن، أي قراءة السُّورة ثمَّ الرُّجوع للسُّورة التي تسبقها، وقد كره ذلك بعض الصَّحابة -رضي الله عنهم-، كما يستحبُّ في الصَّلوات قراءة السُّورة فالتي تليها، إلَّا في صلاة فجر يوم الجمعة؛ لورود الدَّليل بقراءة سورة السَّجدة في الرَّكعة الأُولى، وسورة الإنسان في الرَّكعة الثَّانية.
ترتيب نزول سور القرآن الكريم
إنَّ سور القرآن الكريم لم تُرتَّب على حسب وقت نزولها، بل كان ترتيبها كما أشرنا سابقاً بأمرٍ من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، كما أنَّ تاريخ نزول كلِّ سورةٍ غير معروفٍ غالباً؛ لأنَّ الصَّحابة لم ينقلوا وقت نزول كلِّ سورةٍ، فقد كان جلُّ اهتمامهم عند نزول الآية أو السُّورة حفظها وفهمها وتدوينها، ولم يلتفتوا لتاريخ نزول كلِّ سورةٍ، إلَّا أنَّ بعض الآيات كان نزولها متعلِّقاً ببعض الأحداث، كالآيات التي كانت تنزل بعد غزوةٍ ما، فتلك السُّور يمكن للعلماء التنبُّؤ تاريخها، وبناءً على ذلك تمَّ تقسيم السُّور إلى سورٍ مكيَّةٍ وسورٍ مدنيَّةٍ حسب وقت نزولها قبل الهجرة أو بعدها.
وإنَّه من المعلوم أنَّ القرآن لم ينزله الله -تعالى- دفعةً واحدةً على رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام-، بل كان جبريل -عليه السّلام- ينزل عليه الآيات على فترات، إمَّا للإجابة عن سؤالٍ معيَّنٍ، أو للتَّعليق على حدثٍ أو غزوةٍ، أو لتفصيل حكمٍ ما، أو للتَّشجيع في وقت الفتور، ومن ذلك استنتج العلماء السَّابقون الظُّروف التَّاريخيَّة التي تحيط بكلِّ سورةٍ، وعرفوا الوقت الهجريَّ لنزولها، وأنشأوا التَّقويم الهجريّ بدقَّةٍ متناهيةٍ، أمَّا فيما يتعلَّق بأوَّل وآخر ما نزل من القرآن الكريم، فتفصيله فيما يأتي:
أوَّل ما نزل من القرآن الكريم
أوَّل ما نزل من القرآن الكريم أول آيات سورة العلق ودليل ذلك، قول عائشة أمِّ المؤمنين -رضي الله عنها-: أنَّ أوَّل ما نزل من القرآن الآيات من سورة العَلَق: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)، وذلك في حديثها الذي يُفَصِّل نزول الوحي على رسول الله -عليه السّلام-، عندما أمره جبريل -عليه السّلام- بالقراءة، وأخبره رسول الله -عليه السّلام- أنَّه لا يستطيع القراءة، فنزلت تلك الآيات، فكانت أوَّل ما نزل من القرآن الكريم.
هناك من اعتبر أن أوائل آيات سورة المدثر وهي قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)، هي أول ما نزل في رسالة النبي لاحتوائها على أمر النبي بإنذار قومه، فتكون سورة العلق هي أوَّل ما نزل بالنُّبوَّة، بينما سورة المدَّثِّر أوَّل ما نزل من الرِّسالة، وتكون كِلا السُّورتين أوَّل ما نزل من النُّبوَّة ومن الرِّسالة، وذلك أخذا بقول الصَّحابي جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: أنَّ أوَّل ما نزل هي سورة المُدَّثِّر.
آخر ما نزل من القرآن الكريم
تعدَّدت آراء العلماء أيضاً في آخر ما نزل من آيات القرآن الكريم، نوضِّح هذه الآراء كما يأتي:
- خواتيم آية الرِّبا في سورة البقرة، قول الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، وهو رأي الصَّحابيِّ الجليل ابن عباس -رضي الله عنه- في روايةٍ له.
- سورة النَّصر ، وهو رأي آخر لابن عبَّاس -رضي الله عنه-، فقد فسَّر نزول سورة النَّصر عندما اجتمع مع كبار الصَّحابة، أنَّ في هذه السُّورة إشارةٌ لاكتمال أمور الدِّين واقتراب أجل النَّبي -عليه السَّلام-، ووافق عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- ابن عبَّاس في هذا.
ترتيب الآيات في السور القرآنية
أجمع علماء الأمَّة على أنَّ ترتيب آيات القرآن الكريم داخل السُّورة الواحدة هو أمرٌ توقيفيٌّ، لا مجال لأحدٍ بأن يجتهد في ذلك أو أن يُغيِّر من ترتيب آيات السُّورة تبعاً لرأيه، وإنَّ هذا التَّرتيب كان يَنزل به جبريل -عليه السّلام- ويأمره بوضع كلِّ آيةٍ في سُّورةٍ معيَّنةٍ على نحو ما هو عليه القرآن الآن، ثمَّ كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يبلِّغ ما نزل عليه لأصحابه، ويأمر كتَّاب الوحي بكتابة الآيات ويحدِّد لهم موضع الآيات في السُّورة، وكان رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- يقرأ القرآن على أصحابه على نفسِ هذا النَّسَق، سواءً في الصّلاة أو في خارجها، ولم يغيِّر موضعاً من القرآن إلى سورةٍ أُخرى، كما أنَّ جبريل -عليه السّلام- كان يعرض القرآن كاملاً على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في كلِّ عامٍ مرَّةً، وفي العام الذِّي توفيَ فيه النَّبيُّ عرضه عليه مرَّتين، بنفس الهيئة والتَّرتيب الموجود في كافَّة المصاحف الحاليَّة، واستدلَّ العلماء على كون ترتيب آيات السُّور أمراً توقيفيَّاً بأدلَّةٍ كثيرةٍ، نعرض بعضاً منها فيما يأتي:
- ما رُوي عن الصَّحابي زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنَّه قال: (فقَدْتُ آيَةً مِنَ الأحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا المُصْحَفَ، قدْ كُنْتُ أسْمَعُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقْرَأُ بهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مع خُزَيْمَةَ بنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِيِّ: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا ما عَاهَدُوا اللَّهَ عليه) فألْحَقْنَاهَا في سُورَتِهَا في المُصْحَفِ). ما يدلُّ على أنُّ لكلِّ آيةٍ من الآيات موضعاً محدَّداً لم يجتهد فيه الصَّحابة ولم يُغيِّروه.
- ما رُوي عن الصَّحابي عبدالله بن الزّبير -رضي الله عنهما- قال: (قُلتُ: لِعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُم ويَذَرُونَ أزْوَاجًا) قَالَ: قدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ أوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: يا ابْنَ أخِي لا أُغَيِّرُ شيئًا منه مِن مَكَانِهِ)، وهذا نصٌّ صريحٌ على عدم تَغيير الصَّحابة مواضع الآيات في سور القرآن الكريم.