مراحل ما بعد الموت
ما هي مراحل ما بعد الموت؟
خروج الروح وصعودها إلى السماء
بعد مَوت الإنسان تُفارق رُوحه جسده وتَصعد إلى السَّماء؛ فإن كان من أهل الصَّلاح والتَّقوى تُفتح له أبوب السَّماء حتى تصعد إلى الجِنان، ويَأمر الله -تعالى- أن تُوضع في طُيورٍ خُضر، وإن لم تكن كذلك عَادت إلى أسفل سَافلين، وهذا ما يُعرف بحركة الرُّوح من الصُّعود إلى السَّماء أو النُّزول إلى أسفل سافلين بحسب حال صَاحبها.
وقد أخبر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن لحظاتِ قبضِ الرُّوح وصُعودها .
فقال: (إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا كان في إقبالٍ مِنَ الآخِرةِ وانقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا نزَلَتْ إليه ملائِكةٌ بِيضُ الوُجوهِ كأنَّ وُجوهَهمُ الشَّمسُ، معَهم كفَنٌ مِن أكفانِ الجنَّةِ، وحَنوطٌ مِن حَنوطِ الجنَّةِ، فيجلِسُونَ مِنه مدَّ البصرِ، ثمَّ يجيءُ مَلَكُ الموتِ حتَّى يجلِسَ عند رأسِه فيقولُ: أيَّتُها النَّفسُ الطَّيِّبةُ اخرُجِي إلى مغفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضوانٍ، قال: فتخرُجُ تَسيلُ كما تَسيلُ القطرةُ مِن فِيِّ السِّقاءِ، فيأخُذُها فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يأخُذُوها، فيجَعُلونَها في ذلك الكفَنِ وذلك الحَنوطِ، فيخرُجُ منها كأطيَبِ نَفحةِ مِسكٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ، قال: فيصعَدُونَ بها فلا يمرُّونَ بها على ملأٍ مِنَ الملائِكةِ إلَّا قالوا: ما هذه الرُّوحُ الطَّيِّبةُ؟ فيقولونَ: فلانُ بنُ فلانٍ، بأحسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسمُّونَه في الدُّنيا، فينتَهُونَ به إلى السَّماءِ الدُّنيا فيستَفتِحُونَ له فيُفتَحُ له).
فتقوم الملائكة برفع الأرواح وتجعلها بين يديِّ الله -سُبحانه وتعالى-؛ فإن كانت من أهل الفلاح والسَّعادة يأمرهم الله -سبحانه- بأن يسيروا بها ليرى الإنسان الصالح مقعده من الجنَّة.
فتسير بها الملائكة في الجنَّة على قَدرِ ما يُغسل الميِّت، وعندما ينتهي تَغيسل المَيت وتَكفينه تعود إليه الرُّوح بين جسده وكَفنه، ولكنه عودٌ آخر غير التَّعلُّق الذي كان بين الجسد والرُّوح قبل مفارقته إياه في الدُّنيا، وغير تعلُّق الرُّوح بالجسد خلال النَّوم، وغير التَّعلُّق الذي يكون في القبر.
وعندما يُحمل في النَّعش يَسمع الكلام من حوله، سواءً كان خيراً أم شرَّاً، وعند وُصوله إلى المُصلَّى ودَفنه تُردُّ إليه الرُّوح، ويُقعَد في قبره بروحه وجسده، ويَدخل عليه المَلكان مُنكَر ونَكِير ليَسألاه.
وبِخروج الرُّوح يكون اليوم الآخر للإنسان -الذي فارقت رُوحه جَسده- قد بدأ، أمَّا البَعث ويوم الحَشر فيكونان لجَميع البشر في وقتٍ واحد.
ويبدأ اليوم الآخر لكلِّ إنسان من لحظة بداية النَّزع، ولحظات سَكرات المَوت، ومفارقة الدُّنيا والإقبال على الآخرة، ولذا يقول العلماء: "من مات فقد قَامت قِيامته"؛ أي انتهت مَحطَّة الُّدنيا بالنسبة إليه وبدأ مشوراه في طريق الدَّار الآخرة.
عالم البَرزخ
ذكر الله -سُبحانه وتعالى- عالم البَرزخ في كتابه الكريم قائلاً: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، وقد ورد في تفسير الطَّبري عدَّة تعاريفَ للبَرزخ منها: أنَّه ما يكون بعد الموت، أو ما يكون بين المَوت إلى البَعث، أو هو حجابٌ بين الميِّت والرُّجوع إلى الدُّنيا، ويكون بين الدُّنيا والآخرة.
وعرَّفه آخرون على أنَّه الحاجز بين الموت والرُّجوع إلى الدُّنيا، وعرَّفه عَطاء الخَرساني على أنَّه المُدَّة التي تكون ما بين الدُّنيا والآخرة.
ويُستخلصُ من جميع التَّعاريف المذكروة سابقاً أنَّ البَرزخ عبارةٌ عن الفاصِل بين الشَّيئين، أي الفاصلُ بين عالمِ الأجسام الكَثيفةِ المادِّية وعالم الأرواح المُجردة، أي بين الدُّنيا والآخرة.
وتَجدر الإشارة إلى أنَّ البرزخ يُعدَُ أوَّل أحوال الآخرة التي تأتي بعد المَوت -أي انفصال الرُّوح عن الجسد-.
وكلمة البَرزخ ليست مُرادفة للقَبر؛ لأنَّ البرزخ أعمُّ من القبر، فحتَّى من حُرقت جثته أو غَرقت فأكلها الحِيتان أو أكلتها السِّباع في الغابة، فتكُون كذلك في عالم البَرزخ وإن لم يُدفن الجَسد.
القبر
يُعرف القَبر على أنَّه الحُفرة الضَّيقة التي يُوضع بها الشَّخص بعد أن تُفارق روحه جَسده، ولا يُوجد بها أنيسٌ، ولا رفيقٌ، ولا جليس، إلَّا عمل الإنسان الصَّالح؛ فهو رفيقهُ، وأنيسُه، وجَليسه، ومُزيل وَحشته.
ويُعدُّ القبر المَصير المُشترك بين القويِّ والضَّعيف، والغنيِّ والفقير، والعزيزِ والذَّليل، وهو إمَّا أن يكون روضةً من رياض الجنَّة، أو حفرةً من حفر النِّيران، وكلُّ ذلك يتحدَّد من خلال عمل الإنسان، وما قدَّمه أثناء تواجده في الحياة الدَّنيا.
وبعد أن يُوضع الإنسان في قَبره، يتمُّ سؤاله من قبل المَكلين منكر ونكير.
كما جاء في قول الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (العَبْدُ إذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ، وتُوُلِّيَ وذَهَبَ أصْحَابُهُ حتَّى إنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أتَاهُ مَلَكَانِ، فأقْعَدَاهُ، فَيَقُولَانِ له: ما كُنْتَ تَقُولُ في هذا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولُ: أشْهَدُ أنَّه عبدُ اللَّهِ ورَسولُهُ، فيُقَالُ: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أبْدَلَكَ اللَّهُ به مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَيَرَاهُما جَمِيعًا، وأَمَّا الكَافِرُ - أوِ المُنَافِقُ - فيَقولُ: لا أدْرِي، كُنْتُ أقُولُ ما يقولُ النَّاسُ، فيُقَالُ: لا دَرَيْتَ ولَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بمِطْرَقَةٍ مِن حَدِيدٍ ضَرْبَةً بيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَن يَلِيهِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ).
ويكون سُؤال المَلكين في القَبر عن ثلاثةِ أُمور: الرَّب، والدِّين، والنَّبي مُحمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد جاء في الأحاديث السُّؤال عن الرَّب، وعن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، والسَّؤال عن الدِّين من جُملة هذه الأسئلة وداخلٌ بها، والثَّلاثة أمور كلُّها ثابتةٌ في السُنَّة عن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
وقد أجمع العُلماء على وُقوع السُّؤال في القبر، وأنَّه يتمُّ من قِبل المَلكين: مُنكر ونَكير، وأنَّهما من المَلائكة ولكن ليسا كخِلقة بقيِّة الملائكة؛ لأنَّهما خُلقا لهذا الغَرض.
كما تَواترت السُنَّة على وُقوع سُؤال القَبر، ومنها حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- السَّابق ذكره، وبناءً على إجابة الأسئلة الثلاثة يُحدَّدُ مَصير الشَّخص؛ فإمَّا أن يُوفَّق إلى الإجابة الصَّحيحة فيرى مَقعده من الجنَّة، وإلا رأى مَقعده من النَّار إن لم يوفَّق للإجابة الصَّحيحة، والتَّوفيق للإجابة الصَّحيحة يكون بناءً على عمل الإنسان في الحياة الدُّنيا.
البعث والنشور من القبور
يبدأُ اليوم الآخر بالبَعث؛ وهو إعادة الإنسان برُوحه وجسده، وعلى الصُّورة التي كان بها في الحياة الدُّنيا بعد أن تحلَّل جسده وصار عدماً تامّاً، ولا يملك أيُّ إنسان أن يَعرف هذه النَّشأة الأُخرى، لأنَّها تَحتلف تماماً عن النَّشأة الأولى.
وقد أورد الشَّرع أدلةً عديدة على البَعث وقدرة الله -سُبحانه وتعالى- على ذلك من خلال الإستدلال بالنَّشأة الأولى والخَلق الأوَّل: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)، ويكون البَعث عندما يُريد الله -سُبحانه وتعالى- ذلك؛ فيَخرج النَّاس عندها من قُبورهم حُفاةً عُراة، ويُساقُون إلى الموقف لمُحاسبتهم جميعاً، فيأخذ كلُّ إنسانٍ جَزاءه العادل بناءً على ما قَدمَّ من أعمال.
وقد جاء في القُرآن الكريم العديد من الآيات التي تُؤكِّد على البعث من القُبور وإحياء المُوتى، قال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ).
أمَّا بالنِّسبة للنُّشور؛ فالنُّشور لغةً يُفيد معنى الانتشار، والتَّفرُّق، والانبساط، وأمَّا في الاصطلاح: فيُراد به البَعث؛ وهو انتشار النَّاس من قبورهم إلى الموقف ليتمَّ مُحاسبتهم وجَزاؤهم.
ويُلاحَظ التَّرابط بين المعنى الُّلغويِّ والاصطلاحيِّ؛ فكلاهُما يفيد مَعنى نَشر الأموات من القُبور وإحياؤهم، وهو المراد في قول الله -سُبحانه وتعالى- في الآية الكريمة: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ)، وفي قول الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيَانَا بَعْدَ ما أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ).
ومن الآيات التي سَاقها الله -سبحانه وتعالى- في إثبات البَعث وإحياء المَوتى؛ يتبيَّن أنَّ هذه الأدلة احتوت في الأصل على قياسات عقليَّةٍ؛ مثل قِياس الأَولى، وقِياس المِثل، ودليلُ المُشاهدةِ وغيرها؛ فالبَعث وإن كان أمراً غًيبيَّاً لا حسيَّاً؛ إلا أنَّ أدلَّته عَقليةٌ، وقد تنوَّعت هذه الأدلَّة لإقامة الحُجَّة على النَّاس جميعاً.
ولأنَّ البعث وإحياء الموتى تعدّدت أدلَّته الشَّرعية الصَّحيحة؛ فيُعدُّ من المَسائل التي يجب على المُسلم الاعتقاد بها، فالشعور بضرورة استكمال الحياة الدنيا بالبعث أمر فطري لدى العقول السليمة.
كما أنَّ البَعث يُعدُّ من الأمور التي تكلَّمت بها جميعُ الأمم، ومن القضايا التي يُؤمن بها الغَالب الأعمُّ من النَّاس على اختلاف عَقائدهم واختلاف تَصوُّراتهم عن البعث ومراحله، ويكاد مُنكريه أن يكونوا قِلَّة قليلة، لأنَّ ذلك بخلاف الفِطرة البشريَّة التي تؤمن أنَّه لا بدَّ من أن يكون هناك بعثٌ وحساب، وأنَّنا لم نُخلق للعَبث والعَدم.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي قام بتفصيل المَسائل المتعلِّقة بالبَعث، والحساب، والنُّشور تفصيلاً دقيقاً من خلال النُّصوص الشَّرعية المختلفة من القرآن والسُنَّة، وبشكلٍ لا لَبسَ فيه ولا غُموض.