قصيدة محمود سامي البارودي في مدح الرسول
قصيدة محمود سامي البارودي في مدح الرسول
يقول فيها محمود سامي البارودي :
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمِ دارَةَ العَلَمِ
وَاحدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وَإِن مَرَرتَ عَلى الرَّوحاءِ فَامرِ لَها
أَخلافَ سارِيَةٍ هَتّانَةِ الدِّيَمِ
مِنَ الغِزارِ الَّلواتي في حَوالِبِها
رِيُّ النَّواهِلِ مِن زَرعٍ وَمِن نَعَمِ
إِذا اِستَهَلَّت بِأَرضٍ نَمنَمَت يَدُها
بُرداً مِنَ النَّورِ يَكسُو عارِيَ الأَكَمِ
تَرى النَّباتَ بِها خُضراً سَنابِلُهُ
يَختالُ في حُلَّةٍ مَوشِيَّةِ العَلَمِ
أَدعُو إِلى الدَّارِ بِالسُّقيا وَبِي ظَمَأٌ
أَحَقُّ بِالريِّ لَكِنّي أَخُو كَرَمِ
مَنازِلٌ لِهَواها بَينَ جانِحَتي
وَدِيعَةٌ سِرُّها لَم يَتَّصِل بِفَمي
إِذا تَنَسَّمتُ مِنها نَفحَةً لَعِبَت
بِيَ الصَبابَةُ لِعبَ الريحِ بِالعَلَمِ
أَدِر عَلى السَّمعِ ذِكراها فَإِنَّ لَها
في القَلبِ مَنزِلَةً مَرعِيَّةَ الذِمَمِ
عَهدٌ تَوَلّى وَأَبقى في الفُؤادِ لَهُ
شَوقاً يَفُلُّ شَباةَ الرَأيِ وَالهِمَمِ
إِذا تَذَكَّرتُهُ لاحَت مَخائِلُهُ
لِلعَينِ حَتّى كَأَنّي مِنهُ في حُلُمِ
فَما عَلى الدَهرِ لَو رَقَّت شَمائِلُهُ
فَعادَ بِالوَصل أَو أَلقى يَدَ السَلَمِ
تَكاءَدَتني خُطُوبٌ لَو رَمَيتُ بِها
مَناكِبَ الأَرض لَم تَثبُت عَلى قَدَمِ
في بَلدَةٍ مِثلِ جَوفِ العَير لَستُ أَرى
فيها سِوى أُمَمٍ تَحنُو عَلى صَنَمِ
لا أَستَقِرُّ بِها إِلّا عَلى قَلَقٍ
وَلا أَلَذُّ بِها إِلّا عَلَى أَلَمِ
إِذا تَلَفَّتُّ حَولي لَم أَجد أَثَراً
إِلا خَيالي وَلَم أَسمَع سِوى كَلِمي
فَمَن يَرُدُّ عَلى نَفسي لُبانَتَها
أَو مَن يُجيرُ فُؤادِي مِن يَدِ السَّقَم
لَيتَ القَطا حِينَ سارَت غُدوَةً حَمَلَت
عَنّي رَسائِلَ أَشواقي إِلى إِضَمِ
مَرَّت عَلَينا خِماصاً وَهيَ قارِبَةٌ
مَرَّ العَواصِفِ لا تَلوي عَلى إِرَمِ
لا تُدركُ العَينُ مِنها حينَ تَلمَحُها
إِلا مِثالاً كَلَمعِ البَرقِ في الظُّلَمِ
كَأَنَّها أَحرُفٌ بَرقِيَّةٌ نَبَضَت
بِالسِّلكِ فَانتَشَرَت فِي السَّهل وَالعَلَمِ
لا شَيءَ يَسبِقُها إِلّا إِذا اِعتَقَلَت
بَنانَتي في مَديحِ المُصطَفى قَلَمِي
مُحَمَّدٌ خاتَمُ الرُسلِ الَّذي خَضَعَت
لَهُ البَرِيَّةُ مِن عُربٍ وَمِن عَجَمِ
سَميرُ وَحيٍ وَمَجنى حِكمَةٍ وَنَدى
سَماحَةٍ وَقِرى عافٍ وَرِيُّ ظَمِ
قَد أَبلَغَ الوَحيُ عَنهُ قَبلَ بِعثَتِهِ
مَسامِعَ الرُسلِ قَولاً غَيرَ مُنكَتِمِ
فَذاكَ دَعوَةُ إِبراهيمَ خالِقَهُ
وَسِرُّ ما قالَهُ عِيسى مِنَ القِدَمِ
أَكرِم بِهِ وَبِآباءٍ مُحَجَّلَةٍ
جاءَت بِهِ غُرَّةً في الأَعصُرِ الدُّهُمِ
قَد كانَ في مَلَكوتِ اللَهِ مُدَّخراً
لِدَعوَةٍ كانَ فيها صاحِبَ العَلَمِ
نُورٌ تَنَقَّلَ في الأَكوانِ ساطِعُهُ
تَنَقُّلَ البَدرِ مِن صُلبٍ إِلى رَحِمِ
حَتّى اِستَقَرَّ بِعَبدِ اللَهِ فَاِنبَلَجَت
أَنوارُ غُرَّتِهِ كَالبَدرِ في البُهُمِ
وَاِختارَ آمِنَةَ العَذراءَ صاحِبَةً
لِفَضلِها بَينَ أَهلِ الحِلِّ وَالحَرَمِ
كِلاهُما فِي العُلا كُفءٌ لِصاحِبِهِ
وَالكُفءُ في المَجدِ لا يُستامُ بِالقِيَمِ
فَأَصبَحَت عِندَهُ في بَيتِ مَكرُمَةٍ
شِيدَت دَعائِمُهُ في مَنصِبٍ سِنمِ
وَحِينما حَمَلَت بِالمُصطَفى وَضَعَت
يَدُ المَشيئَةِ عَنها كُلفَةَ الوَجَمِ
وَلاحَ مِن جِسمِها نُورٌ أَضاءَ لَها
قُصُورَ بُصرى بِأَرضِ الشَّأمِ مِن أمَمِ
وَمُذ أَنى الوَضعُ وَهوَ الرَّفعُ مَنزِلَةً
جاءَت بِرُوحٍ بِنُورِ اللَهِ مُتَّسِمِ
ضاءَت بِهِ غُرَّةُ الإِثنَينِ وَاِبتَسَمَت
عَن حُسنِهِ في رَبيعٍ رَوضَةُ الحَرَمِ
وَأَرضَعَتهُ وَلَم تَيأَس حَليمَةُ مِن
قَولِ المَراضِعِ إِنَّ البُؤسَ في اليَتَمِ
فَفاضَ بِالدرِّ ثَدياها وَقَد غَنِيَت
لَيالياً وَهيَ لَم تطعَم وَلَم تَنَمِ
وَاِنهَلَّ بَعدَ اِنقِطاعٍ رِسلُ شارِفِها
حَتّى غَدَت مِن رَفِيهِ العَيشِ في طُعَمِ
فَيَمَّمَت أَهلَها مَملُؤَةً فَرَحاً
بِما أُتيحَ لَها مِن أَوفَرِ النِّعَمِ
وَقَلَّصَ الجَدبُ عَنها فَهيَ طاعِمَةٌ
مِن خَيرِ ما رَفَدَتها ثَلَّةُ الغَنَمِ
وَكَيفَ تَمحَلُ أَرضٌ حَلَّ ساحَتَها
مُحَمَّدٌ وَهوَ غَيثُ الجُودِ وَالكَرَمِ
فَلَم يَزَل عِندَها يَنمُو وَتَكلَؤُهُ
رِعايَةُ اللَهِ مِن سُوءٍ وَمِن وَصَمِ
حَتّى إِذا تَمَّ مِيقاتُ الرَّضاعِ لَهُ
حَولَينِ أَصبَحَ ذا أَيدٍ عَلَى الفُطُمِ
وَجاءَ كَالغُصنِ مَجدُولاً تَرِفُّ عَلى
جَبِينِهِ لَمحاتُ المَجدِ وَالفَهَمِ
قَد تَمَّ عَقلاً وَما تَمَّت رَضاعَتُهُ
وَفاضَ حِلماً وَلَم يَبلُغ مَدى الحُلُمِ
فَبَينَما هُوَ يَرعى البَهمَ طافَ بِهِ
شَخصانِ مِن مَلَكوتِ اللَهِ ذي العِظَمِ
فَأَضجَعاهُ وَشَقّا صَدرَهُ بِيَدٍ
رَفِيقَةٍ لَم يَبِت مِنها عَلى أَلَمِ
وَبَعدَ ما قَضَيا مِن قَلبِهِ وَطَراً
تَوَلَّيا غَسلَهُ بِالسَّلسَلِ الشَّبِمِ
ما عالَجا قَلبَهُ إِلّا لِيَخلُصَ مِن
شَوبِ الهَوى وَيَعِي قُدسِيَّةَ الحِكَمِ
فَيا لَها نِعمَةً لِلّهِ خَصَّ بِها
حَبيبَهُ وَهوَ طِفلٌ غَيرُ مُحتَلِمِ
وَقالَ عَنهُ بُحَيرا حِينَ أَبصَرَهُ
بَأَرضِ بُصرى مَقالاً غَيرَ مُتَّهَمِ
إِذ ظَلَّلَتهُ الغَمامُ الغُرُّ وَانهَصَرَت
عَطفاً عَلَيهِ فُروعُ الضَّالِ وَالسَّلَمِ
بِأَنَّهُ خاتَمُ الرُّسلِ الكِرامِ وَمَن
بِهِ تَزُولُ صُرُوفُ البُؤسِ وَالنِّقَمِ
هَذا وَكَم آيَةٍ سارَت لَهُ فَمَحَت
بِنُورِها ظُلمَةَ الأَهوالِ وَالقُحَمِ
ما مَرَّ يَومٌ لَهُ إِلّا وَقَلَّدَهُ
صَنائِعاً لَم تَزَل فِي الدَّهرِ كَالعَلَمِ
حَتّى اِستَتَمَّ وَلا نُقصانَ يَلحَقُهُ
خَمساً وَعِشرِينَ سِنُّ البارِعِ الفَهِمِ
وَلَقَّبَتهُ قُرَيشٌ بِالأَمينِ عَلى
صِدقِ الأَمانَةِ وَالإِيفاءِ بِالذِّمَمِ
وَدَّت خَديجَةُ أَن يَرعى تِجارَتَها
وِدادَ مُنتَهِزٍ لِلخَيرِ مُغتَنِمِ
فَشَدَّ عَزمَتَها مِنهُ بِمُقتَدِرٍ
ماضِي الجِنانِ إِذا ما هَمَّ لَم يخمِ
وَسارَ مُعتَزِماً لِلشَّأمِ يَصحَبُهُ
في السَّيرِ مَيسُرَةُ المَرضِيُّ فِي الحَشَمِ
فَما أَناخَ بِها حَتّى قَضى وَطَراً
مِن كُلِّ ما رَامَهُ في البَيعِ وَالسَّلَمِ
وَكَيفَ يَخسَرُ مَن لَولاهُ ما رَبِحَت
تِجارَةُ الدِّينِ في سَهلٍ وَفِي عَلَمِ
فَقَصَّ مَيسُرَةُ المَأمونُ قِصَّتَهُ
عَلَى خَديجَةَ سَرداً غَيرَ مُنعَجِمِ
وَما رَواهُ لَهُ كَهلٌ بِصَومَعَةٍ
مِنَ الرَّهابينِ عَن أَسلافِهِ القُدُمِ
في دَوحَةٍ عاجَ خَيرُ المُرسَلينَ بِها
مِن قَبل بعثَتِهِ لِلعُربِ وَالعَجَمِ
هَذا نَبِيٌّ وَلَم يَنزِل بِساحَتِها
إِلّا نَبيٌّ كَريمُ النَّفسِ وَالشِّيَمِ
وَسِيرَةَ المَلَكَينِ الحائِمَينِ عَلى
جَبِينِهِ لِيُظِلّاهُ مِنَ التّهَمِ
فَكانَ ما قَصَّهُ أَصلاً لِما وَصَلَت
بِهِ إِلى الخَيرِ مِن قَصدٍ وَمُعتَزَمِ
أَحسِن بِها وصلَةً في اللَّهِ قَد أَخَذَت
بِها عَلى الدَّهرِ عَقداً غَيرَ مُنفَصِمِ
فَأَصبَحا في صَفاءٍ غَير مُنقَطِعٍ
عَلى الزَّمانِ وَوِدٍّ غَير مُنصَرِمِ
وَحِينَما أَجمَعَت أَمراً قُرَيشُ عَلى
بِنايَةِ البَيتِ ذي الحُجّابِ وَالخَدَمِ
تَجَمَّعَت فِرَقُ الأَحلافِ وَاِقتَسَمَت
بِناءَهُ عَن تَراضٍ خَيرَ مُقتَسَمِ
حَتّى إِذا بَلَغَ البُنيانُ غايَتَهُ
مِن مَوضِعِ الرُّكنِ بَعدَ الكَدِّ وَالجشَمِ
تَسابَقوا طَلَباً لِلأَجرِ وَاِختَصَمُوا
فِيمَن يَشُدُّ بِناهُ كُلَّ مُختَصَمِ
وَأَقسَمَ القَومُ أَن لا صُلحَ يَعصِمُهُم
مِن اقتِحامِ المَنايا أَيّما قَسَمِ
وَأَدخَلوا حينَ جَدَّ الأَمرُ أَيدِيَهُم
لِلشَرِّ في جَفنَةٍ مَملُوءَةٍ بِدَمِ
فَقالَ ذُو رَأيِهِم لا تَعجَلُوا وَخُذُوا
بِالحَزم فَهوَ الَّذي يَشفِي مِنَ الحَزَمِ
لِيَرضَ كُلُّ امرِئٍ مِنّا بِأَوَّلِ مَن
يَأتي فَيَقسِطُ فِينا قِسطَ مُحتَكِمِ
فَكانَ أَوَّلَ آتٍ بَعدَما اِتَّفَقُوا
مُحَمَّدٌ وَهوَ في الخَيراتِ ذُو قَدَمِ
فَقالَ كُلٌّ رَضينا بِالأَمينِ عَلَى
عِلمٍ فَأَكرِم بِهِ مِن عادِلٍ حَكَمِ
فَأَعلَمُوهُ بِما قَد كانَ وَاِحتَكَمُوا
إِلَيهِ في حَلِّ هَذا المُشكِلِ العَمَمِ
فَمَدَّ ثَوباً وَحَطَّ الرُّكنَ في وَسَطٍ
مِنهُ وَقالَ اِرفَعُوهُ جانِبَ الرَّضَمِ
فَنالَ كُلُّ امرِئٍ حَظّاً بِما حَمَلَت
يَداهُ مِنهُ وَلَم يَعتِب عَلى القِسَمِ
حَتّى إِذا اِقتَرَبوا تِلقاءَ مَوضِعِهِ
مِن جانب البَيتِ ذي الأَركان وَالدّعمِ
مَدَّ الرَّسُولُ يَداً مِنهُ مُبارَكَةً
بَنَتهُ في صَدَفٍ مِن باذِخٍ سَنِمِ
فَليَزدَدِ الرُّكنُ تِيهاً حَيثُ نالَ بِهِ
فَخراً أَقامَ لَهُ الدُّنيا عَلَى قَدَمِ
لَو لَم تَكُن يَدُهُ مَسَّتهُ حِينَ بَنَى
ما كانَ أَصبَحَ مَلثُوماً بِكُلِّ فَمِ
يا لَيتَنِي وَالأَمانِي رُبَّما صَدَقَت
أَحظى بِمُعتَنَقٍ مِنهُ وَمُلتَزَمِ
يا حَبَّذا صِبغَةٌ مِن حُسنِهِ أَخَذَت
مِنها الشَّبِيبَةُ لَونَ العُذرِ وَاللمَمِ
كَالخالِ في وَجنَةٍ زِيدَت مَحاسِنُها
بِنُقطَةٍ مِنهُ أَضعافاً مِنَ القِيَمِ
وَكَيفَ لا يَفخَرُ البَيتُ العَتيقُ بِهِ
وَقَد بَنَتهُ يَدٌ فَيّاضَةُ النِّعَمِ
أَكرِم بِهِ وازِعاً لَولا هِدايَتُهُ
لَم يَظهَرِ العَدلُ في أَرضٍ وَلَم يَقُمِ
هَذا الَّذي عَصَمَ اللَّهُ الأَنامَ بِهِ
مِن كُلِّ هَولٍ مِنَ الأَهوالِ مُختَرِمِ
وَحِينَ أَدرَكَ سِنَّ الأَربَعينَ وَما
مِن قَبلِهِ مَبلَغٌ لِلعِلمِ وَالحِكَمِ
حَباهُ ذُو العَرشِ بُرهاناً أَراهُ بِهِ
آيات حِكمَتِهِ في عالَمِ الحُلُمِ
فَكانَ يَمضي لِيَرعى أُنسَ وَحشَتِهِ
في شاسِعٍ ما بِهِ لِلخَلقِ مِن أَرَمِ
فَما يمُرُّ عَلى صَخرٍ وَلا شَجَرٍ
إِلّا وَحَيّاهُ بِالتَّسليمِ مِن أَمَمِ
حَتّى إِذا حانَ أَمرُ الغَيبِ وَاِنحَسَرَت
أَستارُهُ عَن ضَميرِ اللَوحِ وَالقَلَمِ
نادى بِدَعوَتِهِ جَهراً فَأَسمَعَها
في كُلِّ ناحِيةٍ مَن كانَ ذا صَمَمِ
فَكانَ أَوَّلُ مَن في الدِّين تابَعَهُ
خَدِيجَةٌ وَعَلِيٌّ ثابِتُ القَدَمِ
ثُمَّ اِستَجابَت رِجالٌ دُونَ أُسرَتِهِ
وَفي الأَباعِدِ ما يُغني عَنِ الرَّحِمِ
وَمَن أَرادَ بِهِ الرَّحمنُ مَكرُمَةً
هَداهُ لِلرُّشدِ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ
ثُمَّ اِستَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ مُعتَزِماً
يَدعُو إلى رَبِّهِ في كُلِّ مُلتَأَمِ
وَالنّاسُ مِنهُم رَشيدٌ يَستَجِيبُ لَهُ
طَوعاً وَمِنهُم غَوِيٌّ غَيرُ مُحتَشِمِ
حَتّى اِستَرابَت قُرَيشٌ وَاِستَبَدَّ بِها
جَهلٌ تَرَدَّت بِهِ في مارِجٍ ضَرِمِ
وَعَذَّبوا أَهلَ دِينِ اللَّهِ وَاِنتَهَكوا
مَحارِماً أَعقَبَتهُم لَهفَةَ النَّدَمِ
وَقامَ يَدعُو أَبو جَهلٍ ع شِيرَتَهُ
إِلى الضَّلالِ وَلَم يَجنَح إِلى سَلَمِ
يُبدِي خِدَاعاً ويُخفِي ما تَضَمَّنَهُ
ضَمِيرُهُ مِن غَراةِ الحِقد وَالسَّدَمِ
لا يَسلَمُ القَلبُ مِن غِلٍّ أَلَمَّ بِهِ
يَنقى الأَدِيمُ وَيَبقى مَوضِعُ الحَلَمِ
وَالحِقدُ كَالنّارِ إِن أَخفَيتَهُ ظَهَرَت
مِنهُ عَلائِمُ فَوقَ الوَجهِ كَالحُمَمِ
لا يُبصِرُ الحَقَّ مَن جَهلٌ أَحاطَ بِهِ
وَكَيفَ يُبصِرُ نُورَ الحَقِّ وَهوَ عَمِ
كُلُّ امرِئٍ وَاجِدٌ ما قَدَّمَت يَدُهُ
إِذا اِستَوى قائِماً مِن هُوَّةِ الأَدَمِ
وَالخَيرُ وَالشَّرُّ في الدُّنيا مُكافَأَةٌ
وَالنَّفسُ مَسؤولَةٌ عَن كُلِّ مُجتَرَمِ
فَلا يَنَم ظالِمٌ عَمّا جَنَت يَدُهُ
عَلى العِبادِ فَعَينُ اللَّهِ لَم تَنَمِ
وَلَم يَزَل أَهلُ دِين اللَّهِ في نَصَبٍ
مِمّا يُلاقُونَ مِن كَربٍ وَمِن زَأَمِ
حَتّى إِذا لَم يَعُد في الأَمر مَنزَعَةٌ
وَأَصبَحَ الشَّرُّ جَهراً غَيرَ مُنكَتِمِ
سارُوا إِلى الهِجرَةِ الأُولى وَما قَصَدوا
غَيرَ النَّجاشِيِّ مَلكاً صادِقَ الذِّمَمِ
فَأَصبَحُوا عِندَهُ في ظِلِّ مَملَكَةٍ
حَصِينَةٍ وذِمامٍ غَيرِ مُنجَذِمِ
مَن أَنكَرَ الضَّيمَ لَم يَأنَس بِصُحبَتِهِ
وَمَن أَحاطَت بِهِ الأَهوالُ لَم يُقِمِ
وَمُذ رَأى المُشرِكون الدّين قَد وضَحَت
سَماؤُهُ وَاِنجَلَت عَن صِمَّةِ الصِّمَمِ
تَأَلَّبُوا رَغبَةً في الشَّرِّ وَائتَمَرُوا
عَلى الصَّحيفَةِ مِن غَيظٍ وَمِن وَغَمِ
صَحِيفَةٌ وَسَمَت بِالغَدرِ أَوجُهَهُم
وَالغَدرُ يَعلَقُ بِالأَعراضِ كَالدَّسَمِ
فَكَشَّفَ اللَّهُ مِنها غُمَّةً نَزَلَت
بِالمُؤمِنينَ وَرَبِّي كاشِفُ الغُمَمِ
مَن أَضمَرَ السُّوءَ جازاهُ الإِلَهُ بِهِ
وَمَن رَعى البَغيَ لَم يَسلَم مِنَ النِقَمِ
كَفى الطُّفَيلَ بنَ عَمرٍو لُمعَةٌ ظَهَرَت
فِي سَوطِهِ فَأَنارَت سُدفَةَ القَتَمِ
هَدى بِها اللَّهُ دَوساً مِن ضَلالَتِها
فَتابَعَت أَمرَ داعِيها وَلَم تَهِمِ
وَفِي الإِراشِيِّ لِلأَقوامِ مُعتَبَرٌ
إِذ جاءَ مَكَّةَ فِي ذَودٍ مِنَ النّعَمِ
فَباعَها مِن أَبي جَهلٍ فَماطَلَهُ
بِحَقِّهِ وَتَمادى غَيرَ مُحتَشِمِ
فَجاءَ مُنتَصِراً يَشكُو ظُلامَتَهُ
إِلى النَّبِيِّ ونِعمَ العَونُ في الإِزَمِ
فَقامَ مُبتَدِراً يَسعى لِنُصرَتِهِ
وَنُصرَةُ الحَقِّ شَأنُ المَرءِ ذِي الهِمَمِ
فَدَقَّ بابَ أَبي جَهلٍ فَجاءَ لَهُ
طَوعاً يَجُرُّ عِنانَ الخائِفِ الزَّرِمِ
فَحِينَ لاقى رَسُولَ اللَّهِ لاحَ لَهُ
فَحلٌ يَحُدُّ إِلَيهِ النابَ مِن أَطَمِ
فَهالَهُ ما رَأى فَاِرتَدَّ مُنزَعِجاً
وَعادَ بِالنَّقدِ بَعدَ المَطلِ عَن رَغَمِ
أَتِلكَ أَم حِينَ نادى سَرحَةً فَأَتَت
إِلَيهِ مَنشُورَةَ الأَغصانِ كَالجُمَمِ
حَنَت عَلَيهِ حُنُوَّ الأُمِّ مِن شَفَقٍ
وَرَفرَفَت فَوقَ ذاكَ الحُسنِ مِن رَخَمِ
جاءَتهُ طَوعاً وَعادَت حينَ قالَ لَها
عُودِي وَلو خُلِّيت لِلشَّوقِ لَم تَرِمِ
وَحَبَّذا لَيلَةُ الإِسراءِ حِينَ سَرى
لَيلاً إِلى المَسجِدِ الأَقصى بِلا أَتَمِ
رَأَى بِهِ مِن كِرامِ الرُّسلِ طائِفَةً
فَأَمَّهُم ثُمَّ صَلَّى خاشِعاً بِهِمِ
بَل حَبَّذا نَهضَةُ المِعراجِ حينَ سَما
بِهِ إِلى مَشهَدٍ في العزِّ لَم يُرَمِ
سَما إِلى الفَلَك الأَعلى فَنالَ بِهِ
قَدراً يَجِلُّ عَن التَّشبيهِ في العِظَمِ
وَسارَ في سُبُحاتِ النُّورِ مُرتَقِياً
إِلى مَدارِجَ أَعيَت كُلَّ مُعتَزِمِ
وَفازَ بِالجَوهَرِ المَكنونِ مِن كَلِمٍ
لَيسَت إِذا قُرِنَت بِالوَصفِ كَالكَلِمِ
سِرٌّ تَحارُ بِهِ الأَلبابُ قاصِرَةً
وَنِعمَةٌ لَم تَكُن في الدَّهرِ كَالنِّعَمِ
هَيهاتَ يَبلُغُ فَهمٌ كُنهَ ما بَلَغَت
قُرباهُ مِنهُ وَقَد ناجاهُ مِن أَمَمِ
فَيا لَها وصلَةً نالَ الحَبيبُ بِها
ما لَم يَنَلهُ مِنَ التَّكريمِ ذُو نَسَمِ
فاقَت جَميعَ اللَّيالي فَهيَ زاهِرَةٌ
بِحُسنِها كَزُهُورِ النّارِ في العَلَمِ
هَذا وَقَد فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ عَلى
عِبادِهِ وَهَداهُم واضِحَ اللَّقَمِ
فَسارَعُوا نَحوَ دِينِ اللَّهِ وَاِنتَصَبُوا
إِلى العِبادَةِ لا يَألُونَ مِن سَأَمِ
وَلَم يَزَل سَيِّدُ الكَونَينِ مُنتَصِباً
لِدَعوَةِ الدِّين لَم يَفتر وَلَم يَجِمِ
يَستَقبِلُ النّاسَ في بَدوٍ وَفي حَضَرٍ
وَيَنشُرُ الدِّينَ في سَهلٍ وَفي عَلَمِ
حَتّى اِستَجابَت لَهُ الأَنصارُ وَاِعتَصَمُوا
بِحَبلِهِ عَن تَراضٍ خَيرَ مُعتَصمِ
فَاِستَكمَلَت بِهِمُ الدُنيا نَضارَتَها
وَأَصبَحَ الدينُ في جَمعٍ بِهِم تَمَمِ
قَومٌ أَقَرُّوا عِمادَ الحَقِّ وَاِصطَلَمُوا
بِيَأسِهِم كُلَّ جَبّارٍ وَمُصطَلِمِ
فَكَم بِهِم أَشرَقَت أَستارُ داجِيَةٍ
وَكَم بِهِم خَمَدَت أَنفاسُ مُختَصِمِ
فَحينَ وافى قُرَيشاً ذِكرُ بَيعَتِهِم
ثارُوا إِلى الشَّرِّ فِعلَ الجاهِلِ العَرِمِ
وَبادَهُوا أَهلَ دِينِ اللَهِ وَاِهتَضَمُوا
حُقُوقَهُم بِالتَّمادِي شَرَّ مُهتَضَمِ
فَكَم تَرى مِن أَسيرٍ لا حِراكَ بِهِ
وَشارِدٍ سارَ مِن فَجٍّ إِلى أَكَمِ
فَهاجَرَ الصَّحبُ إِذ قالَ الرَّسُولُ لَهُم
سيرُوا إِلى طَيبَةَ المَرعِيَّةِ الحُرَمِ
وَظَلَّ في مَكَّةَ المُختارُ مُنتَظِراً
إِذناً مِنَ اللَهِ في سَيرٍ وَمُعتَزَمِ
فَأَوجَسَت خيفَةً مِنهُ قُرَيشُ وَلَم
تَقبَل نَصيحاً وَلَم تَرجع إِلى فَهَمِ
فَاِستَجمَعَت عُصَباً في دارِ نَدوَتِها
تَبغي بِهِ الشَّرَّ مِن حِقدٍ وَمِن أَضَمِ
وَلَو دَرَت أَنَّها فِيما تُحاوِلُهُ
مَخذولَةٌ لَم تَسُم في مَرتَعٍ وَخِمِ
أَولى لَها ثُمَ أَولى أَن يَحيقَ بِها
ما أَضمَرَتهُ مِنَ البَأساءِ وَالشَّجَمِ
إِنّي لَأَعجَبُ مِن قَومٍ أُولي فِطَنٍ
باعُوا النُّهى بِالعَمى وَالسَّمعَ بِالصَّمَمِ
يَعصُونَ خالِقَهُم جَهلاً بِقُدرَتِهِ
وَيَعكُفُونَ عَلى الطاغُوتِ وَالصَّنَمِ
فَأَجمَعُوا أَمرَهُم أَن يَبغتُوهُ إِذا
جَنَّ الظَّلامُ وَخَفَّت وَطأَةُ القَدَمِ
وَأَقبَلُوا مَوهِناً في عُصبَةٍ غُدُرٍ
مِنَ القَبائِلِ باعُوا النَّفسَ بِالزَّعَمِ
فَجاءَ جِبريلُ لِلهادِي فَأَنبأَهُ
بِما أَسَرُّوهُ بَعدَ العَهدِ وَالقَسَمِ
فَمُذ رَآهُم قِياماً حَولَ مَأمَنِهِ
يَبغُونَ ساحَتَهُ بِالشَّرِّ وَالفَقَمِ
نادى عَلِيّاً فَأَوصاهُ وَقالَ لَهُ
لا تَخشَ وَالبَس رِدائي آمِناً وَنَمِ
وَمَرَّ بِالقَومِ يَتلُوُ وَهوَ مُنصَرِفٌ
يَس وَهيَ شِفاءُ النَّفسِ مِن وَصَمِ
فَلَم يَرَوهُ وَزاغَت عَنهُ أَعيُنُهُم
وَهَل تَرى الشَّمس جَهراً أَعيُنُ الحَنَمِ
وَجاءَهُ الوَحيُ إِيذاناً بِهِجرَتِهِ
فَيَمَّمَ الغارَ بِالصِّدِّيقِ في الغَسَمِ
فَما اِستَقَرَّ بِهِ حَتّى تَبَوَّأَهُ
مِنَ الحَمائِمِ زَوجٌ بارِعُ الرَّنَمِ
بَنى بِهِ عُشَّهُ وَاِحتَلَّهُ سَكناً
يَأوي إِلَيهِ غَداةَ الرّيحِ وَالرّهَمِ
إِلفانِ ما جَمَعَ المِقدارُ بَينَهُما
إِلّا لِسِرٍّ بِصَدرِ الغارِ مُكتَتَمِ
كِلاهُما دَيدَبانٌ فَوقَ مَربأَةٍ
يَرعَى المَسالِكَ مِن بُعدٍ وَلَم يَنَمِ
إِن حَنَّ هَذا غَراماً أَو دَعا طَرَباً
بِاسمِ الهَديلِ أَجابَت تِلكَ بِالنَّغَمِ
يَخالُها مَن يَراها وَهيَ جاثِمَةٌ
في وَكرِها كُرَةً مَلساءَ مِن أَدَمِ
إِن رَفرَفَت سَكَنَت ظِلّاً وَإِن هَبَطَت
رَوَت غَليلَ الصَّدى مِن حائِرٍ شَبِمِ
مَرقُومَةُ الجِيدِ مِن مِسكٍ وَغالِيَةٍ
مَخضُوبَةُ الساقِ وَالكَفَّينِ بِالعَنَمِ
كَأَنَّما شَرَعَت في قانِيءٍ سربٍ
مِن أَدمُعِي فَغَدَت مُحمَرَّةَ القَدَمِ
وَسَجفَ العَنكَبُوتُ الغارَ مُحتَفِياً
بِخَيمَةٍ حاكَها مِن أَبدَعِ الخِيَمِ
قَد شَدَّ أَطنابَها فَاِستَحكَمَت وَرَسَت
بِالأَرضِ لَكِنَّها قامَت بِلا دِعَمِ
كَأَنَّها سابِريٌّ حاكَهُ لَبِقٌ
بِأَرضِ سابُورَ في بحبُوحَةِ العَجَمِ
وَارَت فَمَ الغارِ عَن عَينٍ تُلِمُّ بِهِ
فَصارَ يَحكي خَفاءً وَجهَ مُلتَثِمِ
فَيا لَهُ مِن سِتارٍ دُونَهُ قَمَرٌ
يَجلُو البَصائِرَ مِن ظُلمٍ وَمِن ظُلَمِ
فَظَلَّ فيهِ رَسولُ اللَّهِ مُعتَكِفاً
كَالدُرِّ في البَحر أَو كَالشَمسِ في الغُسَمِ
حَتّى إِذا سَكَنَ الإِرجاف وَاِحتَرقَت
أَكبادُ قَومٍ بِنارِ اليَأسِ وَالوَغَمِ
أَوحى الرَّسولُ بِإِعدادِ الرَّحيلِ إِلى
مَن عِندَهُ السِّرُّ مِن خِلٍّ وَمِن حَشَمِ
وَسارَ بَعدَ ثَلاثٍ مِن مَباءَتِهِ
يَؤُمُّ طَيبَةَ مَأوى كُلِّ مُعتَصِمِ
فَحِينَ وَافى قُدَيداً حَلَّ مَوكِبُهُ
بِأُمِّ مَعبَدَ ذاتِ الشَّاءِ وَالغَنَمِ
فَلَم تَجِد لِقِراهُ غَيرَ ضائِنَةٍ
قَدِ اقشَعَرَّت مَراعِيها فَلَم تَسُمِ
فَما أَمَرَّ عَلَيها داعِياً يَدَهُ
حَتّى اِستَهَلَّت بِذِي شَخبينِ كَالدِّيَمِ
ثُمَّ اِستَقَلَّ وَأَبقى في الزَّمانِ لَها
ذِكراً يَسيرُ عَلَى الآفاق كَالنَّسَمِ
فَبَينَما هُوَ يَطوي البِيدَ أَدرَكَهُ
رَكضاً سُراقَةُ مِثلَ القَشعَمِ الضَّرِمِ
حَتّى إِذا ما دَنا ساخَ الجَوادُ بِهِ
في بُرقَةٍ فَهَوى لِلسَّاقِ وَالقَدَمِ
فَصاحَ مُبتَهِلاً يَرجُو الأَمانَ وَلَو
مَضى عَلى عَزمِهِ لانهارَ في رَجَمِ
وَكَيفَ يَبلُغُ أَمراً دُونَهُ وَزَرٌ
مِنَ العِنايةِ لَم يَبلُغهُ ذُو نَسَمِ
فَكَفَّ عَنهُ رَسولُ اللَّهِ وَهوَ بِهِ
أَدرى وَكَم نِقَمٍ تفتَرُّ عَن نِعَمِ
وَلَم يَزَل سائِراً حَتّى أَنافَ عَلى
أَعلامِ طَيبَةَ ذاتِ المَنظَرِ العَمَمِ
أَعظِم بِمَقدَمِهِ فَخراً وَمَنقبَةً
لِمَعشَرِ الأَوسِ وَالأَحياءِ مِن جُشَمِ
فَخرٌ يَدُومُ لَهُم فَضلٌ بِذِكرَتِهِ
ما سارَت العِيسُ بِالزُّوّارِ لِلحَرَمِ
يَومٌ بِهِ أَرَّخَ الإِسلامُ غُرَّتَهُ
وَأَدرَكَ الدِّينُ فيهِ ذِروَةَ النُّجُمِ
ثُمَّ اِبتَنى سَيِّدُ الكَونَينِ مَسحِدَهُ
بُنيانَ عِزٍّ فَأَضحى قائِمَ الدّعَمِ
وَاِختَصَّ فيهِ بِلالاً بِالأَذانِ وَما
يُلفى نَظيرٌ لَهُ في نَبرَةِ النَّغَمِ
حَتّى إِذا تَمَّ أَمرُ اللَّهِ وَاِجتَمَعَت
لَهُ القبَائِلُ مِن بُعدٍ وَمِن زَمَمِ
قامَ النَّبِيُّ خَطيباً فيهِمُ فَأَرى
نَهجَ الهُدى وَنَهى عَن كُلِّ مُجتَرَمِ
وَعَمَّهم بِكِتابٍ حَضَّ فيهِ عَلى
مَحاسِنِ الفَضلِ وَالآدابِ وَالشِّيمِ
فَأَصبَحُوا في إِخاءٍ غَيرِ مُنصَدِعٍ
عَلى الزَّمانِ وَعِزٍّ غَيرِ مُنهَدِمِ
وَحِينَ آخى رَسُولُ اللَّهِ بَينَهُمُ
آخى عَلِيّاً وَنِعمَ العَونُ في القُحَمِ
هُوَ الَّذي هَزَمَ اللَّهُ الطُغاةَ بِهِ
كفي كُلِّ مُعتَرَكٍ بِالبِيضِ مُحتَدِمِ
فَاِستَحكَم الدِّينُ وَاِشتَدَّت دَعائِمُهُ
حَتّى غَدا واضِحَ العِرنينِ ذا شَمَمِ
وَأَصبَحَ الناسُ إِخواناً وَعَمَّهُمُ
فَضلٌ مِنَ اللَّهِ أَحياهُم مِنَ العَدَمِ
هَذا وَقَد فَرَضَ اللَّهُ الجِهادَ عَلى
رَسُولِهِ لِيَبُثَّ الدِّينَ في الأُمَمِ
فَكانَ أَوَّلُ غَزوٍ سارَ فيهِ إِلى
وَدّانَ ثُمَّ أَتى مِن غَيرِ مُصطَدَمِ
ثُمَّ اِستَمَرَّت سَرايا الدِّينِ سابِحَةً
بِالخَيلِ جامِحَةً تَستَنُّ بِاللُّجُمِ
سَرِيَّةٌ كانَ يَرعاها عُبَيدَةُ في
صَوبٍ وَحَمزَةُ في أُخرى إِلى التَّهَمِ
وَغَزوَةٌ سارَ فيها المُصطَفى قُدُماً
إِلى بُواطٍ بِجَمعٍ ساطِعِ القَتَمِ
وَمِثلَها يَمَّمَت ذاتَ العُشيرَةِ في
جَيشٍ لُهامٍ كَمَوجِ البَحرِ مُلتَطِمِ
وَسارَ سَعدٌ إِلى الخَرّارِ يَقدُمُهُ
سَعدٌ وَلَم يَلقَ في مَسراهُ مِن بَشَمِ
وَيَمَّمَت سَفَوان الخَيلُ سابِحَةً
بِكُلِّ مُعتَزِمٍ لِلقَرنِ مُلتَزِمِ
وَتابَعَ السَّيرَ عَبدُ اللَّهِ مُتَّجِهاً
تِلقاءَ نَخلَةَ مَصحُوباً بِكُلِّ كَمِي
وَحُوّلَت قِبلَةُ الإِسلامِ وَقتَئِذٍ
عَن وِجهَةِ القُدسِ نَحوَ البَيتِ ذي العِظَمِ
وَيَمَّمَ المُصطَفى بَدراً فَلاحَ لَهُ
بَدرٌ مِنَ النَّصرِ جَلَّى ظُلمَةَ الوَخَمِ
يَومٌ تَبَسَّمَ فيهِ الدِّينُ وَاِنهَمَلَت
عَلَى الضَّلالِ عُيونُ الشِّركِ بِالسَّجَمِ
أَبلَى عَلِيٌّ بِهِ خَيرَ البَلاءِ بِما
حَباهُ ذُو العَرشِ مِن بَأسٍ وَمِن هِمَمِ
وَجالَ حَمزَةُ بِالصَّمصامِ يَكسؤُهُم
كَسأً يُفَرِّقُ مِنهُم كُلَّ مُزدَحَمِ
وَغادَرَ الصَّحبُ وَالأَنصارُ جَمعَهُمُ
وَلَيسَ فيهِ كَمِيٌّ غَيرُ مَنهَزِمِ
تَقَسَّمَتهُم يَدُ الهَيجاءِ عادِلَةً
فَالهامُ لِلبِيض وَالأَبدانُ لِلرَّخَمِ
كَأَنَّما البِيضُ بِالأَيدي صَوالِجَةٌ
يَلعَبنَ في ساحَةِ الهَيجاءِ بِالقِمَمِ
لَم يَبقَ مِنهُم كَمِيٌّ غَيرُ مُنجَدِلٍ
عَلى الرّغامِ وَعُضوٌ غَيرُ مُنحَطِمِ
فَما مَضَت ساعَةٌ وَالحَربُ مُسعَرَةٌ
حَتّى غَدا جَمعُهُم نَهباً لِمُقتَسِمِ
قَد أَمطَرَتهُم سَماءُ الحَربِ صائِبَةً
بِالمَشرَفِيَّةِ وَالمُرّانِ كَالرُّجُمِ
فَأَينَ ما كانَ مِن زَهوٍ وَمِن صَلَفٍ
وَأَينَ ما كانَ مِن فَخرٍ وَمِن شَمَمِ
جاؤُا وِللشَّرِّ وَسمٌ في مَعاطِسِهِم
فَأُرغِمُوا وَالرَّدى في هَذِهِ السِّيَمِ
مَن عارَضَ الحَقَّ لَم تَسلَم مَقاتِلُهُ
وَمَن تَعَرَّضَ لِلأَخطارِ لَم يَنَمِ
فَما اِنقَضى يَومُ بَدرٍ بِالَّتي عَظُمَت
حَتّى مَضى غازِياً بِالخَيلِ في الشُّكُمِ
فَيَمَّمَ الكُدرَ بِالأَبطالِ مُنتَحِياً
بَني سُلَيمٍ فَوَلَّت عَنهُ بِالرَّغَمِ
وَسارَ في غَزوَةٍ تُدعى السَّويقَ بِما
أَلقاهُ أَعداؤُهُ مِن عُظمِ
زادِهِمِ ثُمَّ اِنتَحى بِوُجُوهِ الخَيل ذَا أَمرٍ
فَفَرَّ ساكِنُهُ رُعباً إِلى الرَّقَمِ
وَأَمَّ فرعاً فَلَم يَثقَف بِهِ أَحَداً
وَمَن يُقيمُ أَمامَ العارِضِ الهَزِمِ
وَلَفَّ بِالجَيشِ حَيَّي قَينُقاعَ بِما
جَنَوا فَتَعساً لَهُم مِن مَعشَرٍ قَزَمِ
وَسارَ زَيدٌ بِجَمعٍ نَحوَ قَردَةَ مِن
مِياهِ نَجدٍ فَلَم يَثقَف سِوى النَّعَمِ
ثُمَّ اِستَدارَت رَحا الهَيجاءِ في أُحُدٍ
بِكُلِّ مُفتَرِسٍ لِلقِرنِ مُلتَهِمِ
يَومٌ تَبَيَّنَ فيهِ الجِدُّ وَاِتَّضَحَت
جَلِيَّةُ الأَمرِ بَعدَ الجَهدِ وَالسَّأَمِ
قَد كانَ خُبراً وَتَمحيصاً وَمَغفِرَةً
لِلمُؤمِنينَ وَهَل بُرءٌ بِلا سَقَمِ
مَضى عَلِيٌّ بِهِ قُدماً فَزَلزَلَهُم
بِحَملَةٍ أَورَدَتهُم مَورِدَ الشَّجَمِ
وَأَظهَرَ الصَّحبُ وَ الأَنصارُ بَأسَهم
وَالبَأسُ في الفِعلِ غَيرُ البَأسِ فِي الكَلِمِ
خاضُوا المَنايا فَنالُوا عِيشَةً رَغَداً
وَلَذَّةُ النَّفسِ لا تَأتِي بِلا أَلَمِ
مَن يَلزَمِ الصَّبرَ يَستَحسِن عَواقِبَهُ
وَالماءُ يَحسُنُ وَقعاً عِندَ كُلِّ ظَمِ
لَو لَم يَكُن فِي اِحتِمالِ الصَّبرِ مَنقَبةٌ
لَم يَظهَرِ الفَرقُ بَينَ اللُّؤمِ وَالكَرَمِ
فَكانَ يَوماً عَتِيدَ البَأسِ نالَ بِهِ
كِلا الفَريقَينِ جَهداً وَارِيَ الحَدَمِ
أَودى بِهِ حَمزَةُ الصِّندِيدُ فِي نَفَرٍ
نالوا الشَّهادَةَ تَحتَ العارِضِ الرَّزِمِ
أَحسِن بِها مَيتَةً أَحيَوا بِها شَرَفاً
وَالمَوتُ في الحَربِ فَخرُ السّادَةِ القُدُمِ
لا عارَ بِالقَومِ مِن مَوتٍ وَمِن سَلَبٍ
وَهَل رَأَيتَ حُساماً غَيرَ مُنثَلِمِ
فَكانَ يَوم جَزاءٍ بَعدَ مُختَبَرٍ
لِمَن وَفا وَجَفا بِالعِزِّ وَالرَّغَمِ
قامَ النَّبِيُّ بِهِ في مَأزِقٍ حَرِج
تَرعى المَناصِلُ فيهِ مَنبِتَ الجُمَمِ
فَلَم يَزَل صابِراً في الحَربِ يَفثَؤُها
بِالبِيضِ حَتّى اِكتَسَت ثَوباً مِنَ العَنَمِ
وَرَدَّ عَينَ اِبنِ نُعمان قَتادَةَ إِذ
سالَت فَعادَت كَما كانَت بِلا لَتمِ
وَقَد أَتى بَعدَ ذا يَومُ الرَّجِيعِ بِما
فِيهِ مِنَ الغَدرِ بَعدَ العَهدِ وَالقَسَمِ
وَثارَ نَقعُ المَنايا في مَعُونَةَ مِن
بَني سُلَيمٍ بِأَهلِ الفَضلِ وَالحِكَمِ
ثُمَّ اِشرَأَبَّت لِخَفرِ العَهدِ مِن سَفَهٍ
بَنُو النَّضيرِ فَأَجلاهُم عَنِ الأُطُمِ
وَسارَ مُنتَحِياً ذاتَ الرِّقاعِ فَلَم
تَلقَ الكَتائِبُ فيها كَيدَ مُصطَدَمِ
وَحَلَّ مِن بَعدِها بَدراً لِوَعدِ أَبِي
سُفيانَ لَكِنَّهُ وَلّى وَلَم يَحُمِ
وَأَمَّ دَومَةَ في جَمعٍ وَعادَ إِلى
مَكانِهِ وَسَماءُ النَّقعِ لَم تَغِمِ
ثُمَّ اِستَثارَت قُرَيشٌ وَهيَ ظالِمَةٌ
أَحلافَها وَأَتَت في جَحفَلٍ لَهِمِ
تَستَمرِئُ البَغيَ مِن جَهلٍ وَما عَلِمَت
أَنَّ الجَهالَة مَدعاةٌ إِلى الثَّلَمِ
وَقامَ فيهم أَبُو سُفيانَ مِن حَنَقٍ
يَدعُو إِلى الشَّرِّ مثلَ الفَحلِ ذِي القَطَمِ
فَخَندَقَ المُؤمِنُونَ الدّارَ وَاِنتَصَبُوا
لِحَربِهِم كَضَواري الأُسدِ في الأَجَمِ
فَما اِستَطاعَت قُرَيشٌ نَيلَ ما طَلَبَت
وَهَل تَنالُ الثُّرَيّا كَفُّ مُستَلِمِ
رامَت بِجَهلَتِها أَمراً وَلَو عَلِمَت
ماذَا أُعِدَّ لَها في الغَيبِ لَم تَرُمِ
فَخَيَّبَ اللَّهُ مَسعاها وَغادَرَها
نَهبَ الرَّدى وَالصَّدى وَالرِّيحِ وَالطَّسَمِ
فَقوَّضَت عُمُدَ التَّرحالِ وَاِنصَرَفَت
لَيلاً إِلى حَيثُ لَم تَسرَح وَلَم تَسُمِ
وَكَيفَ تَحمَدُ عُقبى ماجَنَت يَدُها
بَغياً وَقَد سَرَحَت في مَرتَعٍ وَخِمِ
قَد أَقبَلَت وَهيَ في فَخرٍ وَفي جَذَلٍ
وَأَدبَرَت وَهيَ في خِزيٍ وَفي سَدَمِ
مَن يَركَبِ الغَيَّ لا يَحمَد عَواقِبَهُ
وَمَن يُطِع قَلبُهُ أَمرَ الهَوى يَهِمِ
ثُمَّ اِنتَحى بِوُجُوهِ الخَيلِ ساهِمَةً
بَني قُرَيظَةَ في رَجراجَةٍ حُطَمِ
خانُوا الرَّسُولَ فَجازاهُم بِما كَسَبُوا
وَفِي الخِيانَةِ مَدعاةٌ إِلى النِّقَمِ
وَسارَ يَنحُو بَني لِحيانَ فَاِعتَصَمُوا
خَوفَ الرَّدى بِالعَوالي كُلَّ مُعتَصَمِ
وَأَمَّ ذا قَرَدٍ في جَحفَلٍ لَجِبٍ
يَستَنُّ في لاحِبٍ بادٍ وَفي نَسَمِ
وَزارَ بِالجَيشِ غَزواً أَرضَ مُصطَلِقٍ
فَما اتَّقُوهُ بِغَيرِ البِيضِ في الخَدَمِ
وَفي الحُدَيبِيَةِ الصُّلحُ اِستَتَبَّ إِلى
عَشرٍ وَلَم يَجرِ فيها مِن دَمٍ هَدَمِ
وَجاءَ خَيبَرَ في جَأواءَ كَالِحَةٍ
بِالخَيلِ كَالسَّيلِ وَالأَسيافِ كَالضَّرَمِ
حَتّى إِذا اِمتَنَعَت شُمُّ الحُصونِ عَلى
مَن رامَها بَعدَ إِيغالٍ وَمُقتَحَمِ
قالَ النَّبِيُّ سَأُعطِي رايَتِي رَجُلاً
يُحِبُّنِي وَيُحِبُّ اللَّهَ ذا الكَرَمِ
ذا مرَّةٍ يَفتَحُ اللَّهُ الحُصونَ عَلَى
يَدَيهِ لَيسَ بِفَرّارٍ وَلا بَرِمِ
فَما بَدا الفَجرُ إِلّا وَالزَّعيمُ عَلى
جَيشِ القِتالِ عَلِيٌّ رافِعُ العَلَمِ
وَكانَ ذا رَمَدٍ فَاِرتَدَّ ذا بَصَرٍ
بِنَفثَةٍ أَبرَأَت عَينَيهِ مِن وَرَمِ
فَسارَ مُعتَزِماً حَتّى أَنافَ عَلى
حُصُونِ خَيبَرَ بِالمَسلُولَةِ الخُذُمِ
يَمضِي بِمُنصُلِهِ قُدماً فَيَلحَمُهُ
مَجرى الوَريدِ مِنَ الأَعناقِ وَاللِّمَمِ
حَتّى إِذا طاحَ مِنهُ التُّرسُ تاحَ لَهُ
بابٌ فَكانَ لَهُ تُرساً إِلى العَتَمِ
بابٌ أَبَت قَلبَهُ جَهداً ثَمانِيَةٌ
مِنَ الصَّحابَةِ أَهلِ الجِدِّ وَالعَزَمِ
فَلَم يَزَل صائِلاً في الحَربِ مُقتَحِماً
غَيابَةَ النَّقعِ مِثلَ الحَيدَرِ القَرِمِ
حَتّى تَبَلَّجَ فَجرُ النَّصرِ وَاِنتَشَرَت
بِهِ البَشائِرُ بَينَ السَّهلِ وَالعَلَمِ
أَبشِر بِهِ يَومَ فَتحٍ قَد أَضاءَ بِهِ
وَجهُ الزَّمانِ فَأَبدى بِشرَ مُبتَسِمِ
أَتى بِهِ جَعفَرُ الطَّيّارُ فَاِبتَهَجَت
بِعَودِهِ أَنفُسُ الأَصحابِ وَالعُزَمِ
فَكانَ يَوماً حَوى عِيدَينِ في نَسَقٍ
فَتحاً وَعَود كَرِيمٍ طاهِرِ الشِّيَمِ
وَعادَ بِالنَّصرِ مَولى الدِّينِ مُنصَرِفاً
يَؤُمُّ طَيبَةَ فِي عِزٍّ وَفِي نِعَمِ
ثُمَّ اِستَقامَ لِبَيتِ اللَّهِ مُعتَمِراً
لِنَيلِ ما فاتَهُ بِالهَديِ لِلحَرَمِ
وَسارَ زَيدٌ أَميراً نَحوَ مُؤتَةَ في
بَعثٍ فَلاقى بِها الأَعداءَ مِن كَثَمِ
فَعَبَّأَ المُسلِمُونَ الجُندَ وَاِقتَتَلُوا
قِتالَ مُنتَصِرٍ لِلحَقِّ مُنتَقِمِ
فَطاحَ زَيدٌ وَأَودى جَعفَرٌ وَقَضى
تَحتَ العَجاجَةِ عَبدُ اللَّهِ في قُدُمِ
لا عارَ بِالمَوتِ فَالشَّهمُ الجَرِيءُ يَرى
أَنَّ الرَّدى في المَعالي خَيرُ مُغتَنَمِ
وَحِينَ خاسَت قُرَيشٌ بِالعُهُودِ وَلَم
تُنصِف وَسارَت مِن الأَهواءِ في نَقَمِ
وَظاهَرَت مِن بَني بَكرٍ حَليفَتَها
عَلى خُزاعَةَ أَهلِ الصِّدقِ فِي الذِّمَمِ
قامَ النَّبِيُّ لِنَصرِ الحَقِّ مُعتَزِماً
بِجَحفَلٍ لِجُمُوعِ الشِّركِ مُختَرِمِ
تَبدُو بِهِ البِيضُ وَالقَسطالُ مُنتَشِرٌ
كَالشُّهبِ في اللَّيلِ أَو كَالنّارِ فِي الفَحَمِ
لَمعُ السُّيُوفِ وَتَصهالُ الخُيولِ بِهِ
كَالبَرقِ وَالرَّعدِ في مُغدَودِقٍ هَزِمِ
عَرمرَمٌ يَنسِفُ الأَرضَ الفَضاءَ إِذا
سَرى بِها وَيَدُكُّ الهَضبَ مِن خِيَمِ
فِيهِ الكُماةُ الَّتي ذَلَّت لِعِزَّتِها
مَعاطِسٌ لَم تُذَلَّل قَبلُ بِالخُطُمِ
مِن كُلِّ مُعتَزِمٍ بِالصَّبرِ مُحتَزِمٍ
لِلقِرنِ مُلتَزِمٍ في البَأسِ مُهتَزِمِ
طالَت بِهِم هِمَمٌ نالُوا السِّماكَ بِها
عَن قُدرَةٍ وَعُلُوُّ النَّفسِ بِالهِمَمِ
بِيضٌ أَساوِرَةٌ غُلبٌ قَساوِرَةٌ
شُكسٌ لَدى الحَربِ مِطعامونَ في الأُزُمِ
طابَت نُفُوسُهُمُ بِالمَوتِ إِذ عَلِمُوا
أَنَّ الحَياةَ الَّتي يَبغُونَ في العَدَمِ
ساسُوا الجِيادَ فَظَلَّت في أَعِنَّتِها
طَوعَ البَنانَةِ في كَرٍّ وَمُقتَحَمِ
تَكادُ تَفقَهُ لَحنَ القَولِ مِن أَدَبٍ
وَتَسبِقُ الوَحيَ وَالإِيماءَ مِن فَهَمِ
كَأَنَّ أَذنابَها في الكَرِّ أَلوِيَةٌ
عَلَى سَفِينٍ لِأَمرِ الرِّيحِ مُرتَسِمِ
مِن كُلِّ مُنجَرِدٍ يَهوي بِصاحِبِهِ
بَينَ العَجاجِ هوِيَّ الأَجدَلِ اللَّحِمِ
وَالبِيضُ تَرجُفُ في الأَغمادِ مِن ظَمَأٍ
وَالسُّمرُ تَرعدُ في الأَيمانِ مِن قَرَمِ
مِن كُلِّ مُطَّرِدٍ لَولا عَلائِقُهُ
لَسابَقَ المَوتَ نَحوَ القِرنِ مِن ضَرَمِ
كَأَنَّهُ أَرقَمٌ في رَأسِهِ حُمَةٌ
يَستَلُّ كَيدَ الأَعادي بِابنَةِ الرَّقَمِ
فَلَم يَزَل سائِراً حَتّى أَنافَ عَلى
أَرباضِ مَكّةَ بِالفُرسانِ وَالبُهَمِ
وَلَفَّهم بِخَمِيسٍ لَو يَشُدُّ عَلى
أَركانِ رَضوى لَأَضحى مائِلَ الدِّعَمِ
فَأَقبَلوا يَسأَلُونَ الصَّفحَ حِينَ رَأَوا
أَنَّ اللَّجاجَةَ مَدعاةٌ إِلى النَّدَمِ
رِيعُوا فَذَلُّوا وَلَو طاشُوا لَوَقَّرَهُم
ضَربٌ يُفَرِّقُ مِنهُم مَجمَعَ اللِّمَمِ
ذاقُوا الرَّدى جُرَعاً فَاِستَسلَمُوا جَزَعاً
لِلصُّلحِ وَالحَربُ مَرقاةٌ إِلى السَّلَمِ
وَأَقبَلَ النَّصرُ يَتلُو وَهوَ مُبتَسِمٌ
المَجدُ لِلسَّيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ
يا حائِرَ اللُّبِّ هَذا الحَقُّ فَامضِ لَهُ
تَسلَم وَهَذا سَبِيلُ الرُّشدِ فَاِستَقِمِ
لا يَصرَعَنَّكَ وَهمٌ بِتَّ تَرقُبُهُ
إِنَّ التَّوَهُّمَ حَتفُ العاجِزِ الوَخِمِ
هَذا النَّبيُّ وَذاكَ الجَيشُ مُنتَشِرٌ
مِلءَ الفَضا فَاِستَبق لِلخَيرِ تَغتَنِمِ
فَالزَم حِماهُ تَجِد ما شِئتَ مِن أَرَبٍ
وَشِم نَداهُ إِذا ما البَرقُ لَم يُشَمِ
وَاحلُل رِحالَكَ وَانزِل نَحوَ سُدَّتِهِ
فَإِنَّها عصمَةٌ مِن أَوثَقِ العِصمِ
أَحيا بِهِ اللَّهُ أَمواتَ القُلوبِ كَما
أَحيا النَّباتَ بِفَيضِ الوابِلِ الرَّذِمِ
حَتّى إِذا تَمَّ أَمرُ الصُلحِ وَاِنتَظَمَت
بِهِ عُقودُ الأَماني أَيَّ مُنتَظَمِ
قامَ النَّبِيُّ بِشُكرِ اللَّهِ مُنتَصِباً
وَالشُّكرُ فِي كُلِّ حالٍ كافِلُ النِّعَمِ
وَطافَ بِالبَيتِ سبعاً فَوقَ راحِلَةٍ
قَوداءَ ناجِيَةٍ أَمضى مِنَ النَّسَمِ
فَما أَشارَ إِلى بُدٍّ بِمِحجَنِهِ
إِلّا هوَى لِيَدٍ مَغلُولَةٍ وَفَمِ
وَفِي حُنَينٍ إِذ اِرتَدَّت هَوازِنُ عَن
قَصدِ السَّبيلِ وَلَم تَرجِع إِلى الحَكَمِ
سَرى إِلَيها بِبَحرٍ مِن مُلَملَمَةٍ
طامي السّراة بِمَوجِ البِيضِ مُلتَطِمِ
حَتّى اِستَذَلَّت وَعادَت بَعدَ نَخوَتِها
تُلقي إِلى كُلِّ مَن تَلقاهُ بِالسَّلَمِ
وَيَمَّمَ الطّائِفَ الغَنّاءَ ثُمَّ مَضى
عَنها إلى أَجَلٍ في الغَيبِ مُكتَتَمِ
وَحِينَ أَوفى عَلى وادِي تَبُوكَ سَعى
إِلَيهِ ساكِنُها طَوعاً بِلا رَغَمِ
فَصالَحُوهُ وَأَدَّوا جِزيَةً وَرَضُوا
بِحُكمِهِ وَتَبيعُ الرُشد لَم يَهِمِ
أَلفى بِها عَينَ ماءٍ لا تَبِضُّ فَمُذ
دَعا لَها اِنفَجَرَت عَن سائِغٍ سَنِمِ
وَراوَدَ الغَيثَ فَاِنهَلَّت بَوادِرُهُ
بَعدَ الجُمودِ بِمُنهَلٍّ وَمُنسَجِمِ
وَأَمَّ طَيبَةَ مَسروراً بِعَودَتِهِ
يَطوي المَنازِلَ بِالوَخّادَةِ الرُّسُمِ
ثُمَّ اِستَهَلَّت وُفُودُ الناسِ قاطِبَةً
إِلى حِماهُ فَلاقَت وافِرَ الكَرَمِ
فَكانَ عامَ وُفودٍ كُلَّما اِنصَرَفَت
عِصابَةٌ أَقبَلَت أُخرى عَلى قَدَمِ
وَأَرسَلَ الرُّسلَ تَترى لِلمُلوكِ بِما
فِيهِ بَلاغٌ لِأَهلِ الذِّكرِ وَالفَهَمِ
وَأَمَّ غالِبُ أَكنافَ الكَديدِ إِلى
بَني المُلَوَّحِ فَاِستَولى عَلى النَّعَمِ
وَحِينَ خانَت جُذامٌ فَلَّ شَوكَتَها
زَيدٌ بِجَمعٍ لِرَهطِ الشِّركِ مُقتَثِمِ
وَسارَ مُنتَحِياً وادي القُرى فَمَحا
بَني فَزارَةَ أَصلَ اللُّؤمِ وَالقَزَمِ
وَأَمَّ خَيبَرَ عَبدُ اللَّهِ في نَفَرٍ
إِلى اليَسِير فَأَرداهُ بِلا أَتَمِ وَيَمَّمَ
اِبنُ أُنَيسٍ عُرضَ نَخلَةَ إِذ
طَغا اِبنُ ثَورٍ فَاصماهُ وَلَم يَخِمِ
ثُمَّ اِستَقَلَّ اِبنُ حِصنٍ فَاِحتَوَت يَدُهُ
عَلى بَني العَنبَرِ الطُّرّارِ وَالشُّجُمِ
وَسارَ عَمرو إِلى ذات السلاسل في
جَمعٍ لُهامٍ لِجَيشِ الشِّركِ مُصطَلِمِ
وَغَزوَتانِ لِعَبدِ اللَّهِ واجِدَةٌ
إِلى رِفاعَةَ وَالأُخرى إِلى إِضَمِ
وَسارَ جَمعُ اِبنِ عَوفٍ نَحوَ دَومَةَ كَي
يَفُلَّ سَورَةَ أَهلِ الزُّورِ وَالتُّهَمِ
وَأَمَّ بِالخَيلِ سيفَ البَحرِ مُعتَزِماً
أَبُو عُبَيدَةَ في صُيّابَةٍ حُشُمِ
وَسارَ عَمرو إِلى أُمِّ القُرى لِأَبي
سُفيانَ لَكِن عَدَتهُ مُهلَةُ القِسَمِ
وَأَمَّ مَديَنَ زَيدٌ فَاِستَوَت يَدُهُ
عَلى العَدُوِّ وَساقَ السَّبيَ كَالغَنَمِ
وَقامَ سالِمُ بِالعَضبِ الجُرازِ إِلى
أَبي عُفَيكٍ فَأَرداهُ وَلَم يَجِمِ
وَاِنقَضَّ لَيلاً عُمَيرٌ بِالحُسامِ عَلى
عَصماءَ حَتّى سَقاها عَلقَمَ العَدَمِ
وَسارَ بَعثٌ فَلَم يُخطِئ ثُمامَةَ إِذ
رَآهُ فَاحتازَهُ غُنماً وَلَم يُلَمِ
ذاكَ الهُمامُ الَّذي لَبّى بِمَكَّة إِذ
أَتى بِها مُعلِناً في الأَشهُرِ الحُرُمِ
وَبَعثُ عَلقَمَةَ اِستَقرى العَدُوَّ ضُحىً
فَلَم يَجِد في خِلالِ الحَيِّ مِن أَرمِ
وَرَدَّ كُرزٌ إِلى العَذراءِ مَن غَدَرُوا
يَسارَ حَتّى لَقَوا بَرحاً مِنَ الشَّجَمِ
وَسارَ بَعثُ اِبنِ زَيدٍ لِلشَّآمِ فَلَم
يَلبَث أَنِ انقَضَّ كَالبازي عَلى اليَمَمِ
فَهَذِهِ الغَزَواتُ الغُرُّ شامِلَةً
جَمعَ البُعُوثِ كَدُرٍّ لاحَ في نُظُمِ
نَظَمتُها راجِياً نَيلَ الشَّفاعَةِ مِن
خَيرِ البَرايا وَمَولى العُربِ وَالعَجَمِ
هُوَ النَّبِيُّ الَّذي لَولاهُ ما قُبِلَت
رَجاةُ آدمَ لَمّا زَلَّ في القِدَمِ
حَسبِي بِطَلعَتِهِ الغَرّاءِ مَفخَرَةً
لَمّا اِلتَقَيتُ بِهِ في عالَمِ الحُلُمِ
وَقَد حَباني عَصاهُ فَاِعتَصَمتُ بِها
في كُلِّ هَولٍ فَلم أَفزَع وَلَم أَهِمِ
فَهيَ الَّتي كانَ يَحبُو مِثلَها كَرَماً
لِمَن يَوَدُّ وَحَسبِي نسبَةً بِهِمِ
لَم أَخشَ مِن بَعدِها ما كُنتُ أَحذَرُهُ
وَكَيفَ وَهيَ الَّتي تُنجي مِنَ الغُمَمِ
كَفى بِها نِعمَةً تَعلُو بِقيمَتِها
نَفسِي وَإِن كُنتُ مَسلوباً مِنَ القِيَمِ
وَما أُبَرِّئُ نَفسي وَهيَ آمِرَةٌ
بِالسُوءِ ما لَم تَعُقها خيفَةُ النَّدَمِ
فَيا نَدامَةَ نَفسي في المَعادِ إِذا
تَعَوَّذَ المَرءُ خَوفَ النُطقِ بِالبَكمِ
لَكِنَّني وَاثِقٌ بِالعَفو مِن مَلِكٍ
يَعفُو بِرَحمَتِهِ عَن كُلِّ مُجتَرِمِ
وَسَوفَ أَبلُغُ آمالي وَإِن عَظُمَت
جَرائِمي يَومَ أَلقى صاحِبَ العَلَمِ
هُوَ الَّذي يَنعَشُ المَكرُوبَ إِذ عَلِقَت
بِهِ الرَّزايا وَيُغني كُلَّ ذي عَدَمِ
هَيهاتَ يَخذُلُ مَولاهُ وَشاعِرَهُ
في الحَشرِ وَهوَ كَريمُ النَّفسِ وَالشِّيَمِ
فَمَدحُهُ رَأسُ مالي يَومَ مُفتَقَرِي
وَحُبُّهُ عِزُّ نَفسي عِندَ مُهتَضَمِي
وَهَبتُ نَفسِي لَهُ حُبّا وَتَكرِمَة
فَهَل تَراني بَلَغتُ السُّؤلَ مِن سَلَمي
إِنِّي وَإِن مالَ بي دَهري وَبَرَّحَ بي
ضَيمٌ أَشاطَ عَلى جَمرِ النَّوى أَدَمي
لثابِتُ العَهدِ لَم يَحلُل قُوى أَمَلِي
يَأسٌ وَلَم تَخطُ بِي في سَلوَةٍ قَدَمي
لَم يَترُكِ الدَّهرُ لي ما أَستَعِينُ بِهِ
عَلى التَّجَمُّلِ إِلّا ساعِدي وَفَمِي
هَذا يُحَبِّرُ مَدحي في الرَّسولِ وَذا
يَتلُو عَلى الناسِ ما أُوحيهِ مِن كَلِمِي
يا سَيِّدَ الكَونِ عَفواً إِن أَثِمتُ فَلي
بِحُبِّكُم صِلَةٌ تُغنِي عَنِ الرَّحِمِ
كَفى بِسَلمانَ لِي فَخراً إِذا انتَسَبَت
نَفسي لَكُم مِثلَهُ في زُمرَةِ الحَشَمِ
وَحسنُ ظَنِّي بِكُم إِن مُتُّ يَكلَؤُني
مِن هَولِ ما أَتَّقي فِي ظُلمَةِ الرَّجَمِ
تَاللَّهِ ما عاقَني عَن حَيِّكُم شَجَنٌ
لَكِنَّنِي مُوثَقٌ في رِبقَةِ السَّلَمِ
فَهَل إِلى زَورَةٍ يَحيا الفُؤادُ بِها
ذَرِيعَةٌ أَبتَغيها قَبلَ مُختَرَمِي
شَكَوتُ بَثِّي إِلى رَبِّي لِيُنصِفَني
مِن كُلِّ باغٍ عَتِيدِ الجَورِ أَوهكمِ
وَكَيفَ أَرهَبُ حَيفا وَهوَ مُنتَقِمٌ
يَهابُهُ كُلُّ جَبّارٍ وَمُنتَقِمِ
لا غَروَ إِن نِلتُ ما أَمَّلتُ مِنهُ فَقَد
أَنزَلتُ مُعظَمَ آمالي بِذي كَرَمِ
يا مالِكَ المُلكِ هَب لِي مِنكَ مَغفِرَةً
تَمحُو ذُنُوبي غَداةَ الخَوفِ وَالنَّدَمِ
وَاِمنُن عَلَيَّ بِلُطفٍ مِنكَ يَعصِمُني
زَيغَ النُّهى يَومَ أَخذِ المَوتِ بِالكَظَمِ
لَم أَدعُ غَيرَكَ فِيما نابَني فَقِني
شَرَّ العَواقِبِ وَاِحفَظنِي مِنَ التُّهَمِ
حاشا لِراجيكَ أَن يَخشى العِثارَ وَما
بَعدَ الرَّجاءِ سِوى التَّوفيقِ لِلسَّلَمِ
وَكَيفَ أَخشى ضَلالاً بَعدَما سَلَكَت
نَفسِي بِنُورِ الهُدى في مَسلَكٍ قِيَمِ
وَلِي بِ حُبِّ رَسُولِ اللَّهِ مَنزِلَةٌ
أَرجُو بِها الصَّفحَ يَومَ الدِّينِ عَن جُرُمِي
لا أَدَّعي عِصمَةً لَكِن يَدِي عَلِقَت
بِسَيِّدٍ مَن يَرِد مَرعاتَهُ يَسُمِ
خَدَمتُهُ بِمَديحي فَاِعتَلَوتُ عَلى
هامِ السِّماكِ وَصارَ السَّعدُ مِن خَدَمِي
وَكَيفَ أَرهَبُ ضَيماً بَعدَ خِدمَتِهِ
وَخادِمُ السَّادَةِ الأَجوادِ لَم يُضَمِ
أَم كَيفَ يَخذُلُنِي مِن بَعدِ تَسمِيَتِي
بِاسمٍ لَهُ في سَماءِ العَرشِ مُحتَرَمِ
أَبكانِيَ الدَّهرُ حَتّى إِذ لَجِئتُ بِهِ
حَنا عَلَيَّ وَأَبدى ثَغرَ مُبتَسِمِ
فَهوَ الَّذي يَمنَحُ العافِينَ ما سَأَلُوا
فَضلاً وَيَشفَعُ يَومَ الدِّينِ في الأُمَمِ
نُورٌ لِمُقتَبِسٍ ذُخرٌ لِمُلتَمِسٍ
حِرزٌ لِمُبتَئِسٍ كَهفٌ لِمُعتَصِمِ
بَثَّ الرَّدى وَالنَّدى شَطرَينِ فَاِنبَعَثا
فِيمَن غَوى وَهَدى بِالبُؤسِ وَالنِّعَمِ
فَالكُفرُ مِن بَأسِهِ المَشهورِ في حَرَبٍ
وَالدِّينُ مِن عَدلِهِ المَأثُورِ في حَرَمِ
هَذا ثَنائِي وَإِن قَصَّرتُ فيهِ فَلي
عُذرٌ وَأَينَ السُّها مِن كَفِّ مُستَلِمِ
هَيهاتَ أَبلُغُ بِالأَشعارِ مدَحتَهُ
وَإِن سَلَكتُ سَبيلَ القالَةِ القُدُمِ
ماذا عَسى أَن يَقُولَ المادِحُونَ وَقَد
أَثنى عَلَيهِ بِفَضلٍ مُنزلُ الكَلِمِ
فَهاكَها يا رَسُولَ اللَّهِ زاهِرَةً
تُهدِي إِلى النَّفسِ رَيّا الآسِ وَالبَرَمِ
وَسمتُها بِاسمِكَ العَالي فَأَلبَسنَها
ثَوباً مِنَ الفَخرِ لا يَبلى عَلى القِدَمِ
غَرِيبَةٌ في إِسارِ البَينِ لَو أَنِسَت
بِنَظرَةٍ مِنكَ لاستغنَت عَنِ النَّسَمِ
لَم أَلتَزِم نَظمَ حَبّاتِ البَديعِ بِها
إِذ كانَ صَوغُ المَعانِي الغُرِّ مُلتَزمِي
وَإِنَّما هِيَ أَبياتٌ رَجَوتُ بِها
نَيلَ المُنى يَومَ تَحيا بَذَّةُ الرِّمَمِ
نَثَرتُ فِيها فَرِيدَ المَدحِ فَاِنتَظَمَت
أَحسِن بِمُنتَثِرٍ مِنها وَمُنتَظِمِ
صَدَّرتُها بِنَسِيبٍ شَفَّ باطِنُهُ
عَن عِفَّةٍ لَم يَشِنها قَولُ مُتَّهِمِ
لَم أَتَّخِذهُ جُزافاً بَل سَلَكتُ بِهِ
فِي القَولِ مَسلَكَ أَقوامٍ ذَوي قَدَمِ
تابَعتُ كَعباً وَحَسّاناً وَلِي بِهِما
في القَولِ أُسوَةُ بَرٍّ غَيرِ مُتَّهَمِ
وَالشِّعرُ مَعرَضُ أَلبابٍ يُروجُ بِهِ
ما نَمَّقَتهُ يَدُ الآدابِ وَالحِكَمِ
فَلا يَلُمنِي عَلى التَّشبِيبِ ذُو عَنَتٍ
فَبُلبُلُ الرَّوضِ مَطبُوعٌ عَلَى النَّغَمِ
وَلَيسَ لِي رَوضَةٌ أَلهُو بِزَهرَتِها
في مَعرَضِ القَولِ إِلّا رَوضَةُ الحَرَمِ
فَهيَ الَّتِي تَيَّمَت قَلبي وَهِمتُ بِها
وَجداً وَإِن كُنتُ عَفَّ النَّفسِ
لَم أَهِمِ مَعاهِدٌ نَقَشَت في وَجنَتيَّ لَها
أَيدِي الهَوى أَسطُراً مِن عَبرَتِي بِدَمِ
يا حادِيَ العِيسِ إِن بَلَّغتَني أَمَلي
مِن قَصدِهِ فَاِقتَرِح ما شِئتَ وَاِحتَكِمِ
سِر بِالمَطايا وَلا تَرفَق فَلَيسَ فَتىً
أَولى بِهَذا السُّرى مِن سائِقٍ حُطَمِ
وَلا تَخَف ضَلَّةً وَاِنظُر فَسَوفَ تَرى
نُوراً يُريكَ مَدَبَّ الذَّرِ فِي الأَكَمِ
وَكَيفَ يَخشى ضَلالاً مَن يَؤُمُّ حِمى
مُحَمَّدٍ وَهوَ مِشكاةٌ عَلَى عَلَمِ
هَذِي مُنايَ وَحَسبي أَن أَفوزَ بِها
بِنِعمَةِ اللَّهِ قَبلَ الشَّيبِ وَالهَرَمِ
وَمَن يَكُن راجِياً مَولاهُ نالَ بِهِ
ما لَم يَنَلهُ بِفَضلِ الجِدِّ وَالهِمَمِ
فاسجُد لَهُ وَاِقترِب تَبلُغ بِطاعَتِهِ
ما شِئتَ في الدَّهرِ مِن جاهٍ وَمِن عِظَمِ
هَوَ المَليكُ الَّذي ذَلَّت لِعِزَّتِهِ
أَهلُ المَصانِعِ مِن عادٍ وَمِن إِرَمِ
يُحيي البَرايا إِذا حانَ المَعادُ كَما
يُحيي النَّباتَ بِشُؤبوبٍ مِنَ الدِّيَمِ
يا غافِرَ الذَّنبِ وَالأَلبابُ حائِرَةٌ
في الحَشرِ وَالنارُ تَرمي الجَوَّ بِالضَّرَمِ
حاشا لِفَضلِكَ وَهوَ المُستَعاذُ بِهِ
أَن لا تَمُنَّ عَلى ذِي خَلَّةٍ عَدِمِ
إِنّي لَمُستَشفِعٌ بِالمُصطَفى وَكَفى
بِهِ شَفِيعاً لَدى الأَهوالِ وَالقُحَمِ
فَاقبَل رَجائِي فَمالي مَن أَلوذُ بِهِ
سِواكَ في كُلِّ ما أَخشاهُ مِن فَقَمِ
وَصَلِّ رَبِّ عَلى المُختارِ ما طَلَعَت
شَمسُ النَّهارِ وَلاحَت أَنجُمُ
الظُّلَمِ وَالآلِ وَالصَّحبِ وَالأَنصارِ مَن تَبِعُوا
هُداهُ وَاِعتَرَفوا بِالعَهدِ وَالذِّمَمِ
وَامنُن عَلى عَبدِكَ العانِي بِمَغفِرَةٍ
تَمحُو خَطاياهُ في بَدءٍ وَمُختَتَمِ
نبذة عن محمود سامي البارودي
هو محمود سامي البارودي ولد في عام 1839م في مدينة دمنهور في مصر، والده حسني حسن بيك من أمراء المدفعية، وأصبح مديرًا لبربر ودنقلة، لذا فهو ينحدر من أسرة ذات نفوذ وسلطان وجاه، يُذكر أنّه تلقى تعليمه الأولي في بيت أهله، ثم التحق بالمدرسة الحربية، وبعد تخرج منه انخرط في الحياة الاجتماعية والعلمية، وانكبّ على قراءة الشعر العربي القديم وخزّن في ذاكرته الكثير منه.
من قصائد محمود سامي البارودي
كان محمود سامي البارودي من الشعراء المكثرين في قول الشعر، ومن أبرزِ قصائدهِ ما يأتي:
- قصيدة سلوا عن فوادي قبل شد الركائب.
- قصيدة من صاحب العجز لم يظفر بما طلبا.
- قصيدة هو البين حتى لا سلام ولا رد.