شرح قصيدة بركة المتوكل
شرح أبيات قصيدة بركة المتوكل
قصيدة بركة المتوكل؛ قصيدة من تأليف الشاعر البحتري أحد أبرز شعراء العصر العباسي ، قال القصيدة الآتية يصف بركة المتوكّل، ولم يُذكر زمان قول القصيدة، ولكنّه قالها في زمان المتوكل الذي حكم بين عامي (232هـ و247هـ)، وقد نظمها على البحر البسيط، وتُسمّى القصيدة في بعض الكتب "البركة الحسناء"، ويبلغ عدد أبياتها أربعين بيتًا، وشرحها فيما يأتي:
المقطع الأول
يا مَن رَأى البِركَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها
- وَالآنِساتِ إِذا لاحَت مَغانيها
بِحَسبِها أَنَّها مِن فَضلِ رُتبَتِها
- تُعَدُّ واحِدَةً وَالبَحرُ ثانيها
ما بالُ دِجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها
- في الحُسنِ طَورًا وَأَطوارًا تُباهيها
أَما رَأَت كالِئَ الإِسلامِ يَكلَؤُها
- مِن أَن تُعابَ وَباني المَجدِ يَبنيها
يُصوّر الشاعر في الأبيات الأولى البركة، ويُبدي إعجابه بها وبما يُحيط بها من منازل وجوارٍ وخضرة تلفت الأنظار وتخلب الألباب، فبدأ بالنداء لشدّ السامع ولفت انتباهه، ثمّ يُبالغ فيقول إنّها تنافس البحر وتفوقه وتتقدّم عليه في الجمال والحُسن، ويُؤكّد هذا المعنى حينما يقول إنّ دجلة يغار منها ويُحاول منافستها لما فيه من نار تكاد تحرقه غيرةً.
يعقب كلامه بعد ذلك ببيت يستفهم فيه عن نهر دجلة الذي يُحاول منافسة البحيرة، ألا يعلم أنّ الخليفة المتوكل، وقد منحه هنا صفة كالئ الإسلام بمعنى حاميه، هو من بنى تلك البركة وهو من يعتني بها، وهذا البيت مديح للخليفة وجاء معترضًا بين أبيات القصيدة.
المقطع الثاني
كَأَنَّ جِنَّ سُلَيمانَ الَّذينَ وَلوا
- إِبداعَها فَأَدَقّوا في مَعانيها
فَلَو تَمُرُّ بِها بَلقيسُ عَن عُرُضٍ
- قالَت هِيَ الصَرحُ تَمثيلًا وَتَشبيها
يُتابع البحتري عجبه من البركة؛ فيرى أنّه لشدّة إتقانها كأنّ الجنّ الذين كان يُكلّفهم سليمان -عليه السلام- بالأعمال الشاقّة هم الذين بنوها، ولذلك يرى أنّه لو جاءت بلقيس ملكة سبأ لاعتقدت أنّ هذه البركة في ذاتها الصرح الممرّد الذي كان قد أنشأه لها سليمان عليه السلام، وذلك يُوضح ثقافة البحتري وإلمامه بقصص القرآن الكريم.
وردت هذه القصة في سورة النمل في قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ}، فقد أمر سليمان -عليه السلام- ببناء قصر من قوارير وأجرى الماء تحته، وكلّ ذلك قد فعله الجن، ومن هُنا جاء تشبيه البحتري.
المقطع الثالث
تَنحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعجَلَةً
- كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها
كَأَنَّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً
- مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها
إِذا عَلَتها الصَبا أَبدَت لَها حُبُكًا
- مِثلَ الجَواشِنِ مَصقولًا حَواشيها
فَرَونَقُ الشَمسِ أَحيانًا يُضاحِكُها
- وَرَيِّقُ الغَيثِ أَحيانًا يُباكيها
إِذا النُجومُ تَراءَت في جَوانِبُها
- لَيلًا حَسِبتَ سَماءً رُكِّبَت فيها
يصف البحتري كيفيّة اجتماع الماء فيها؛ فيُشبّه الماء في قوّته واندفاعه ودخوله إلى البركة بالخيل وهي تركض، وقد أطلق لها صاحبها العنان، فتغدو راكضةً من دون أن يكبح جماحها أحد، ثمّ يُصوّر ماءها كأنّه الفضّة المصهورة إذ تسيل في مجاريها، ويُصوّر البحتري مرور ريح الصَّبا من فوقها فتترك فيها خطوطًا كأنّها الدروع لو أنّها تجمد.
ما تلبث هذه الخطوط أن تُمحى حين تصل إلى حواشي البحيرة، ثمّ يُصوّر أشعّة الشمس وهي تُلاعبها وكيف يهطل المطر عليها فيبدو كأنّه الدموع المنهمرة، وأمّا في اللّيل فإنّ الناظر إلى البركة لشدّة صفائها ليظنّ أنّ السماء بنجومها قد احتوتها تلك البركة لشدّة انعكاسها عليها.
المقطع الرابع
لا يَبلُغُ السَمَكُ المَحصورُ غايَتَها
- لِبُعدِ ما بَينَ قاصيها وَدانيها
يَعُمنَ فيها بِأَوساطٍ مُجَنَّحَةٍ
- كَالطَيرِ تَنفُضُ في جَوٍّ خَوافيها
لَهُنَّ صَحنٌ رَحيبٌ في أَسافِلِها
- إِذا اِنحَطَطنَ وَبَهوٌ في أَعاليها
صورٌ إِلى صورَةِ الدُلفينِ يُؤنِسُها
- مِنهُ اِنزِواءٌ بِعَينَيهِ يُوازيها
يصف البحتري اتساع هذه البركة فيقول: إنّ السمك الذي يسبح فيها لا يُمكنه بلوغ نهايتها لشدّة اتساعها وترامي أطرافها، فالسمك يُشبه الطير حين يهوي ويهبط داخل البركة بوساطة زعانفه التي صارت كالأجنحة تُساعده على بلوغ المسافات بسرعة.
عندما يهوي السمك إلى قاع البركة فإنّه يجد كذلك قاعًا واسعة فسيحة كأنها صحن الدار، وعندما يصعد إلى السطح يجد بهوًا واسعًا يتّسع لجميع الأسماك، ثمّ يصف تمثالًا لسمكة الدولفين في وسط البركة وهو يُصرف نظره نحو جهة أخرى، ممّا يبعث الطمأنينة عند الأسماك وعند الشاعر كذلك.
المقطع الخامس
تَغنى بَساتينُها القُصوى بِرُؤيَتِها
- عَنِ السَحائِبِ مُنحَلًّا عَزاليها
مَحفوفَةٌ بِرِياضٍ لا تَزالُ تَرى
- ريشَ الطَواويسِ تَحكيهِ وَيَحكيها
وَدَكَّتَينِ كَمِثلِ الشِعرَيَينِ غَدَت
- إِحداهُما بِإِزا الأُخرى تُساميها
يُتابع البحتري وصفه للبركة فيقول إنّ البساتين البعيدة عنها تستغني بها عن مياه الأمطار نظرًا إلى كثرة مياهها ووفرتها، وتلك الرياض المحيطة بها كأنّها تُحاكي ريش الطواويس لجمالها، بل ربّما شُبّه الطاووس بها، ثمّ يصف الدكّتين اللتين شُيدتا على البركة كأنّهما نجم الشِّعرَى الذي في السماء.
الأفكار الرئيسة في قصيدة بركة المتوكل
احتوت قصيدة البحتري على كثير من الأفكار الرئيسة في ثناياها، ومن ذلك ما يأتي:
- بيان عِظَم البركة وتشبيهها بالبحر.
- غيرة الأنهار من البركة الحسناء.
- صفاء ماء البركة ونقاؤه وتشبيهه بالفضة السائلة.
- اتساع حجم البركة وكونها مكانًا رحبًا للسمك.
- اجتماع الروابي حولها وسقايتها للبساتين البعيدة.
معاني المفردات في قصيدة بركة المتوكل
في القصيدة آنفة الذكر بعض المفردات التي تحتاج إلى شرح، ومن أبرزها ما يأتي:المفردة | معنى المفردة |
كالئ | رعى وحرس. |
السبائك | جمع مفرده سبيكة، وهو المعدن المصبوب بقالب معيّن، وأكثر ما تُستعمل للذهب والفضة. |
الصَّبا | هي الريح التي تأتي من قبل المشرق حين يستوي الليل والنهار. |
الجواشن | جمع مفرده جوشن، وهو الدرع الذي يُغطي الصدر. |
الرياض | جمع روضة، وهي الأرض الخضراء. |
مغانيها | هو البيت الذي غني أهله. |
الغيرى | الغَيرى مؤنث غيران من الغِيرة. |
الحسن | الحُسن هو الجمال، أو أي شيء يثير البهجة. |
تعاب | مشتقة من العيب، وهو ما يكون فيه نقيصة أو عيب. |
أدقوا | اتباع التفاصيل الدقيقة في العمل بغية إتقانه. |
الصرح | الصرح هو القصر العالي. |
معجلة | معجلة من العجلة وهي الإسراع. |
حبكًا | الثياب المحبوكة. |
مصقولًا | الصقل في الأصل هو الجلاء، وصقل السيوف إزالة الصدأ عنها وشحذها. |
حواشيها | الحواشي هي جوانب الشيء. |
رونق | الرونق هو الحسن والبهاء والإشراق. |
قاصيها | القاصي هو البعيد. |
دانيها | الداني من الدنو، وهو القرب. |
انحططن | انحططن يعني انحدرن. |
بهو | المكان الواسع من كل شيء. |
الصور الفنية في قصيدة بركة المتوكل
تتلخص الصور الفنية في قصيدة بركة المتوكل فيما يأتي:
- دجلة كالغيرى
شبّه الشاعر نهر دجلة في هذه العبارة بالمرأة التي تغار، فحذف المشبه به وأبقى على شيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية .
- تنحطّ وفود الماء معجلة كالخيل خارجة من حبل مجريها
شبه قوة الماء في البركة بالخيل وهي تركض، و نوع التشبيه هُنا تام الأركان ؛ حيث ذُكر فيه المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه.
- رونق الشمس يُضاحكها
شبه البركة بفتاة تُداعبها أشعة الشمس الخفيفة فتبتسم، فحذف المشبه به وأبقى على شيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية.