شرح قصيدة (أجارتنا إن الخطوب تنوب)
شرح أبيات قصيدة (أجارتنا إن الخطوب تنوب)
مَن يبحر في أبيات هذه القصيدة ينوبه ما ينوب الشاعر من مشاعر مختلطة من الحزن، و الحنين ، والغربة، ومرارة الفراق، وقلق الموت، ولكن ما يخفف ثورة هذه الانفعالات جميعًا هو توهم الشاعر وجود مَن يساكنه، ويشاكيه، ويباكيه، والمتمثل بجارة تؤنسه في وحدته، وتقاسمه الهموم، فذلك ما يواسي الشاعر اليائس من استعادة قوته وألقه، بعدما هزمته الخطوب.
وقد اختار امرؤ القيس أن يخاطب جارته، لا حبيبته وهي جارة ميتة على غير عادة الشعراء، وذلك يقلل التفاعل الحاصل بينهما، فالجارة ليست طرفًا في قضية، ولا حكمًا عليها، بل هي المصغية لما يقول، والميتة التي لا حيلة لها، لا تمتلك القدرة ولا الإرادة على تغيير شيء من حال الشاعر، هي مجرد شاهد على المجريات والحوادث التي حلّت به، وحالها بذلك حال الديار.
اعتمدنا في هذا المقال نص هذه القصيدة كما أوردها المحقق عبد الرحمن المصطاوي، في تحقيقه لديوان امرئ القيس ، وهو النص الآتي:
شرح البيت الأول
أجارَتَنا إنَّ الخُطُوبَ تَنوبُ
- وإني مُقِيمٌ ما أقامَ عَسِيبُ
أخرج ابن عساكر عن الزيادي بأن امرئ القيس قال هذا البيت وهو يحتضر بأنقرة، بعدما رأى قبر امرأة غريبة، إذ يبدأ الشاعر بأسلوب نداء القريب مستخدمًا أداة النداء الهمزة، وهو بذلك يستعطفها ويقربها ليبتدر الكلام بطريقة ودية تمهد للانفعال الصخب الذي تمنحه كلمات مثل "خطوب" و"تنوب" الدالة على الكثرة والمبالغة.
ثم يبدأ الشاعر الشطر الثاني من البيت بمعنى يقابل المعنى الأول فالخطوب تنوب إليه واحدة تلو الأخرى وتتحرك باتجاهه، ولكنه مقيم وثابت مثل جبل عسيب يحاول مجابهتها وصدها، والعسيب يطلق على جريد النخل أيضًا، وهي الشجرة التي ترمز إلى الثبات والقرار والصمود.
يحتمل هذا الشطر معنى أن الشاعر يؤكد على قدرته وطول تحمله للخطوب ويحتمل معنى آخر أنه أراد مهما طال وقوفي وثباتي فإنني يومًا ما سأفني كما يفنى عسيب؛ لأن هذه الإقامة لا بد أن تنتهي.
شرح البيت الثاني
أجارَتَنا إنّا غَرِيبَانِ هَهُنَا
- وكُلُّ غَرِيبٍ للغَريبِ نَسيبُ
يعود امرؤ القيس مرة أخرى لنداء جارته، ويعزز الرابط بينهما بوصف آخر هو الغربة ، فكلاهما غريبان ينتسبان لبعضهما بهذه الصفة، فهي تعيش غربة عن الحياة الدنيا إلى عالم الموت، وهو في غربة عن موطنه في سبيل ثأره لقاتل أبيه، وقد ترك امرؤ القيس حياة الترف واللهو والمجون والتمتع بملك أبيه والعافية والقوة إلى حياة العجز والمرض الذي أصابه بعد غربته، والقروح التي فتكت ببدنه.
شرح البيت الثالث
فإن تَصِلِينَا فَالقَرَابَةُ بَيْنَنَا
- وإنْ تَصْرِمِينَا فالغَريبُ غريبُ
يقول امرؤ القيس مخاطبًا جارته في اللحد إنك إن وصلتنا ورددت جوابنا فذلك لأننا تجمعنا قرابة ممتدة إلى ما بعد الحياة، فكلنا ميتون وإن كنا أحياء فنحن إلى زوال وموت، وإن تصرمينا وتقطعي وصالنا فسنظل نعاني من الغربة، وكأن الجارة في هذا البيت أصبحت ترمز إلى الموت، وكأن الشاعر بدأ يتمنى قرب الموت.
شرح البيت الرابع
أجارَتَنا ما فاتَ لَيْسَ يَؤوبُ
- ومَا هُوَ آتٍ في الزَّمانِ قَرِيبُ
يعود الشاعر لنداء جارته الميتة ويذكرها بأن ما فاتها من حياة النعيم لن يرجع، وأن ما هو مقدَّر فيما تبقى من الحياة هو الأقرب والآتي حتمًا.
شرح البيت الخامس
ولَيْسَ غريباً مَن تَنائتْ ديارُهُ
- ولكنَّ مَنْ وارى التُّرابُ غَريبُ
يختتم الشاعر القصيدة بحكمة مفادها أن الغربة الحقيقية ليست الغربة عن الوطن والتنائي عنه، بل إن الغربة الحقيقية هي تلك التي يذوقها الميت عند مفارقته الحياة مفارقة طويلة.
ويبدو من هذا البيت أن الشاعر يعبّر عن رغبته في الموت ببراعة فهو ينسب التنائي إلى الديار "تناءت دياره" كأن الديار وأهلها هم من أقصوه وأبعدوه، لا بمقدوره القرب منها ولا العودة إليها، بعدما عاداه أهلها، ولكن قلبه يظل معلق بها، ووصفه منتسبًا إليها رغم تنائيها، وهذا ما يجعله قلقًا متزعزعًا، ولن يجد الراحة إلا بالموت الذي سيمنحه الاستقرار على صفة "غريب" بلا أمل بالعودة.
الأفكار الرئيسة في قصيدة (أجارتنا إن الخطوب تنوب)
الأفكار الرئيسة في قصيدة (أجارتنا إن الخطوب تنوب) فيما يأتي:
- فقدان الأمل من الحياة .
- الموازنة بين غربتين يعيشهما الإنسان: غربة الوطن وغربة الحياة.
- وصف قساوة كل منهما.
معاني قصيدة (أجارتنا إن الخطوب تنوب)
معاني القصيدة فيما يأتي:الكلمة | المعنى |
الخطوب | المصائب. |
يؤوب | يرجع. |
تنوب | تتوالى. |
تناءت | بعدت. |
عسيب | اسم جبل. |
من وارى التراب | الميت. |
الصور الفنية في قصيدة (أجارتنا إن الخطوب تنوب)
الصور الفنية في القصيدة فيما يأتي:
- "إن الخطوب تنوب"
شبه الخطوب وهو المصائب، بأناس يتناوبون في جلب الهم للشاعر، فتسلم الواحدة منهم الأخرى متوالية دون أن تتوقف.
- "وإني مقيمٌ ما أقام عسيب"
شبه الشاعر جبل عسيب برجل يطيل الوقوف والانتظار دون أن يحرز أي تقدم سوى التقدم نحو الفناء والموت بمرور الزمن.
- "ما فات ليس يؤوب، وما هو آت في الزمان قريب"
شبه الشاعر الماضي بالمسافر الذي لا تُرتجى عودته، وشبه المستقبل بمن ستلقاه حتمًا في الزمن القريب.
- "وليس غريبًا من تناءت دياره"
شبه الديار بالحبيبة التي تنأى عنه، ولكنه يظل معلقًا بها متأملًا عودتها.