حكم العزلة الاجتماعية في الإسلام
حكم العزلة الاجتماعية عن الأقارب والأرحام
تُعرَّف العزلة الاجتماعية بأنها الانقطاع عن مخالطة الناس، ويكون ذلك بعدم التحدُّث والجلوس معهم، وتفضيل الإنسان الوحدة على ذلك، وقد أمر الله -تعالى- المسلمين بصلة الأرحام وخاصة الوالدَيْن، وأثنى على الواصلين المخالطين لأرحامهم، المُحسنين إليهم، الصابرين على أذاهم، فقال -تعالى-: (وَالَّذينَ يَصِلونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيَخشَونَ رَبَّهُم وَيَخافونَ سوءَ الحِسابِ).
وحذّر الله -تعالى- من قطع الأرحام بعزلتها وعدم مخالطتها والسؤال عنها، فقال -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُولَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، وعن جبير بن مطعم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ).
ويُفهم من هذه النصوص الشريفة أنّ العزلة وعدم مخالطة الأرحام والأقارب وخاصة الوالدَين محرمة شرعاً، فمخالطة الوالدَين والأقارب والإحسان إليهم وإعانتهم من باب شكر النعمة وحفظها ورد الجميل؛ فلولا الوالدان والأهل والأقارب ما وَجَد الإنسان للحياة معنى، ولما وصل لحاله الذي وصل إليه من التقدّم والنجاح.
حكم العزلة الاجتماعية عن المجتمع من غير الأقارب
الحكم الأول: أفضلية عدم العزلة
يرى الكثير من الفقهاء أنّ مخالطة الناس في المجتمع، ومعاملتهم، وتحمّلهم، والصبر عليهم أفضل من العُزلة؛ بل قد تكون واجبة إذا اقتضى الأمر، وهذا ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة الكرام والخلفاء الراشدون، وكذلك كان التابعون من بعدهم، وعلماء المسلمين وأخيارهم.
ومن فوائد المخالطة الحصول على المنافع ونفع المسلمين، وحضور شعائر الإسلام الجماعية؛ كالصلاة، والحج، والعمرة، وصلاة العيدين، وغيرها، وتكثير سواد المسلمين، و عيادة المريض وتشييع الجنائز، وغير الكثير من الطاعات التي تفوت على المسلم بعزلته عن الناس، يقول الغزالي -رحمه الله-: "فإن وجدت جليساً يذكرك بالله في رؤيته وسيرته فالزمه، ولا تفارقه واغتنمه، ولا تستحقره، فإنها غنيمة العاقل، وضالة المؤمن".
واستدلّوا على ذلك بما يأتي:
- قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).
- قوله -تعالى-: (وَأَلَّفَ بَينَ قُلوبِهِم لَو أَنفَقتَ ما فِي الأَرضِ جَميعًا ما أَلَّفتَ بَينَ قُلوبِهِم وَلـكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَينَهُم إِنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ)، وقوله -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المؤمنُ الَّذي يخالطُ النَّاسَ ويصبرُ على أذاهم أعظمُ أجرًا منَ المؤمنِ الَّذي لاَ يخالطُ النَّاسَ ولاَ يصبرُ على أذاهم).
الحكم الثاني: العزلة المحرمة
العزلة المحرمة في المجتمع تكون عندما يقدر المسلم على مساعدة الناس وتقديم الخير لهم ولا يُقدِم على ذلك، فيتعمد العزلة مع علمه بحاجتهم، فذلك لا يجوز، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما آمَن بي مَن بات شبعانَ وجارُه جائعٌ، إلى جنبِه وهو يعلَمُ به).
الحكم الثالث: أفضلية العزلة
إذا كان المسلم في مجتمعٍ تَكْثُرُ فيه الفِتن والمعاصي، ويخاف على نفسه من الوقوع في أنواع المحرمات إذا خالط الناس؛ كمن سافر لعملٍ أو دراسةٍ أو مهمةٍ؛ فقد ذكر الفقهاء أن الأفضل له اعتزال الفتن والفساد، ولا يخالط الناس إلا بالقدر الذي يتجنّب فيه الفتنة والمعصية، إلا إن كان له القدرة على التغيير وإزالة الفساد والفتنة، فيسعى على إزالتها بقدر استطاعته.
حكم العزلة في الحالة المَرَضية
إنْ كانت عزلة المسلم للناس بسبب حالةٍ مرضية أصابته؛ كالأمراض النفسية التي يُعاني فيها المريض حُبّاً للانعزال، وخوفاً من مخالطة الناس، فهذه حالة تستوجب العلاج عند المختصين، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها حينها.
وعلى صاحب هذه الأمراض أن يأخذ بالأسباب ويسعى إلى العلاج؛ ليكون فرداً فاعلاً في المجتمع، وإن كانت العزلة بسبب مرضٍ يسبب العدوى وينقل المرض، فهي واجبة؛ لأنها ضرورية ومؤقتة، ولأن الخلطة في حال المرض المُعدي مضرّة بالناس، وهي محرمة.