تحليل قصيدة: متى يا كرام الحي لأبي مدين التلمساني
التأصيل لقصيدة مَتَـــى يا عريب الحَيِّ عَيْنِي تَراكُمُ
تعد القصيدة التي مطلعها "مَتَـــى يا عريب الحَيِّ عَيْنِي تَراكُمُ" للشاعر العظيم أبي مدين شعيب الغوث التلمساني إحدى القصائد الغزلية الجميلة التي عرفت في الأدب العربي، تتميز ببساطة اللفظ وعمق المعنى، والجمال في نقل المشاعر.
وهي من القصائد المغناة والتي تم التغيير في كلماتها لتناسب المستمع العربي الحديث؛ فنجدها مغناة على أنها "مَتَـــى يا كرامَ الحَيِّ عَيْنِي تَراكُمُ"، وهذا مغاير لما ورد في ديوان الشاعر.
من هو أبو مدين التلمساني
هو أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي التلمساني، شاعر صوفي أندلسي الأصل، ولد عام 509 هـ، وأقام في مدينة فاس، كان أبو مدين قائدًا اتبعه الناس، وكثر أتباعه حتى خافه السلطان يعقوب المنصور، قضى أواخر حياته في تلمسان -التي نسب إليها (التلمساني) - وتوفي فيها وقد قضى في هذه الدنيا ثمانين عامًا، عام 594 هـ.
تحليل قصيدة: متى يا عريب الحي لأبي مدين التلمساني
متى يا عُرَيبَ الحي عيني تراكمُ
- وأسمعُ من تلكَ الديار نداكمُ
ويجمعنا الدهر الذي حال بيننا
- ويحظى بكم قلبي وعيني تراكمُ
يخاطب الشاعر محبوبته بصيغة "عريب الحي" ويقصد بها أهل الحي، ولم يحددها الشاعر في أبياته، ويقول لها بعد مدة من الغياب (متى عيني تراكِ) وأسمع من دياركِ نداكِ وصوتكِ. ويجمعنا الزمان الذي أبعدني عنكِ وأراكِ وتكوني معي.
أمرُّ على الأبواب من غير حاجة
:::لعلي أراكُم أو أرى من يراكُم
يصف الشاعر حاله وتصرفاته في لحظة الشوق قائلاً إنه يمر على بيتها ومن أمام أبوابها دون حاجة لذهابه إلى ذلك المكان، متمنيًا رؤية المحبوبة أو حتى -لشدة اشتياقه لها- أن يرى أي شخص رآها.
سقاني الهوى كأساً من الحب صافياً
- فيا ليتهُ لمّا سقاني سقاكُم
فيا ليتَ قاضي الحبّ يحكمُ بينَنا
- وداعي الهوى لمّا دعاني دعاك مُ
يتابع الشاعر وصف حالة الحب التي يشعر بها بصورة فنية، وهي تشبيه الحب بالساقي الذي يصب الشراب للشاعر، وهذا الكأس هو حب الشاعر للمحبوبة حبًا صافيًا، وبذلك يتمنى الشاعر من الهوى أن يسقي المحبوبة من نفس الكأس، والتمني هنا يفيد أن الحب بينهما كان من طرف الشاعر فقط، وهو منقطع من طرف المحبوبة. وهو يرى في هذا ظلماً لحبه فيتمنى أن يحكم قاضي الحب بينهما وأن يدعوها داعي الحب إليه.
أنا عبدُكُم بل عبد عبدٍ لعبدكم
- ومملوكُكم من بيعكم وشراكمُ
كتبتُ لكم نفسي وما ملكت يدي.
- وإن قلَّت الأموالُ روحي فداكمُ
وهنا شريحة شعرية لها هدف واحد أدته بطرق مختلفة، فيرى الشاعر نفسه في ثنائية الحب مع المحبوبة عاشقًا لا يرى غيرها، فتجسد بعدة أشكال على النحو الآتي:
- العبودية
- وفيها زاد من الخضوع لها بأن جعل نفسه عبدًا خاضعًا لها، بل وزاد على ذلك بأن جعل نفسه عبدًا لعبيدها ولعبيد عبيدها، وهذا من باب العشق وفيه زيادة للخضوع وجاهزية لعمل أي شيء في سبيل التقرب.
- المملوك
- وقد زاد على ما ورد في النقطة السابقة بتصغير نفسه من دائرة الآدمية إلى دائرة الأشياء المادية التي تُباع وتُشترى، وهو من باب زيادة الخضوع التي بدأها في النقطة السابقة، وفي هذا إزالة لقدرته على اتخاذ قراره بنفسه فهو غرض يباع ويشترى بأمر صاحبه، وهو أيضًا بذلك محب ليس له قرار بترك حبيبته أو وصلها فيكون بذلك الحب هو السالب لإرادته بالتحرر.
- هبة النفس
- يتابع الشاعر في نفس طريق تذليل الذات نحو المحبوبة بالسير في سليلة العبودية ومن ثم المملوكية، ووجد الشاعر في المملوك ثمناً مادياً يستحقه؛ فشكل هذا الثمن المادية الذي يشترى به الشيء سبيلاً آخر للتذلل للمحبوبة، فأزال الشاعر الثمن المادي له ووهب نفسه وما يملك لها دون ثمن، وإن أصابه ما ليس بيده فانقطع عنه الرزق جعل حياته وروحه جاهزة ليعطيها إياها.
لساني بمجدكُم وقلبي بحبكُم
- وما نظرت عيني مليحاً سواكمُ
وما شرّف الأكوان إلّا جمالكُم
- وما يقصدُ العُشّاقُ إلّا سناكمُ
وإن قيل لي ماذا على اللَه تشتهي
- أقولُ رضي الرحمنِ ثم رضاكمُ
يطبع الشاعر في هذه الأبيات صورة واضحا للعاشق المتيم بمحبوبته، فهو لا يرى غيرها ولا يطلب من الله إلا رضاها، وفي هذا عشق واضح من الشاعر للمحبوبة وانتماء كبير لحبها.
ولي مقلةٌ بالدمع تجري صبيبةً
- حرامٌ عليها النومُ حتى تراكمُ
يصف الشاعر في هذا البيت حاله التعيسة، وهي حال مرتبطة بالأبيات السابقة التي تفيد أن الحب من طرفه هو لا من طرفها، وقد سببت هذه الحالة لدى الشاعر حزناً عظيماً اتصل بدمع عينيه المنهمر بشدة والرافض للتوقف، وقد زادت العين على نفسها بأن حرمت على نفسها النوم ما دامت المحبوبة غائبة لا تراها.
خذوني عظاماً محملاً أين سرتمُ
- وحيثُ حللتمُم فادفنوني حذاكمُ
ودوروا على قبري بطرف نعالكم
- فتحيا عظامي حيثُ أصغى نداكمُ
وقولوا رعاكَ اللَه يا ميتَ الهوى
- وأسكنَك الفردوسُ قربَ حماكُم
يصل الشاعر في هذه الأبيات إلى أقاصي التذلل و الحزن لفقد المحبوبة، فهو ميت دونها، ولكنه رغم موته يتمنى قربها ويطلب منها أن تدفنه بمكان قريب لها، ويطلب منها أيضا لشدة حبه لها أن تدوس بنعلها على قبره وهو ميت-وبذا أزال قدسية القبر والميت لأجلها- فتكون عودته للحياة بعد موته بسبب دوس النعال وسماع صوتها.
لم يتوقف الشاعر عند الموت في رغبته بوصل المحبوبة؛ بل زادها إلى الحياة الأخرى بأن يتمنى الدعاء له بأن يدخل الفردوس، والفردوس هنا لا يشكل علامة دينية لدى الشاعر؛ بل هو المكان الذي يكون بقرب المحبوبة.