اشتراط الاطمئنان عند الحنفية
الاطمئنان داخل الصلاة عند الحنفية
يرى جمهور الحنفية أنَّ الاطمئنان في الركوع والسجود داخل الصلاة واجب وليس بركن، والفرق بين الركن والواجب عندهم، أنّ الركن عندهم مثل الفرض لا تتم الصلاة إلّا به، بينما الواجب إذا نُسيَ فإنّه يُجبَر بسجود السهو بدون العودة للإتيان به حين تذكُّره، ويرى كثير منهم أنه يكفي لجبرها السجود للسهو؛ فالطمأنينة إنما شرعت لإكمال ركن مقصود فصارت كطمأنينة القراءة.
وقد خالف بعض الحنفية -كأبي يوسف-، فقالوا برأي الشافعي ومن وافقه مِن المذاهب والفقهاء بأنَّ فرض الركوع وفرض السجود لا يتمَّان إلا مع الطمأنينة بمقدار تسبيحة واحدة، وثمرة الخلاف أنَّ المصلي إذا تعمَّد ترك التسبيحة الواحدة، فإنَّ صلاته جائزة عند جمهور الحنفية، ولكنه لو تركها عمداً فإنها لا تجوز عند أبي يوسف ومَن وافقه من الحنفية.
تحرير محل النزاع في الاطمئنان داخل الصلاة
السبب الأصلي للخلاف في المسألة ومحل نزاعها هو في تكييف الطمأنينة؛ هل هي ركن مستقل قائم بذاته، أم تعديل وتكميل لركن؟ فيرى جمهور الحنفية أنَّ الطمأنينة ليست ركناً قائماً بذاته بل تكميل لركن أي تكميل لركن الركوع، أو ركن القيام بعد الركوع، أو ركن السجود، أو ركن الجلسة بين السجدتين، فتعديل الأركان ليس بفرض عند أبي حنيفة ومَن وافقه من جمهور الحنفية، ولكنه ركن عند أبي يوسف.
كما تنازعوا في دلالة معنى كلٍّ من الركوع والسجود المفهومين من آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، فقد جعل جمهور الحنفية الآية دليلاً على عدم اشتراط الطمأنينة لصحة الصلاة، بحسب وجه الدلالة الآتي:
- (ارْكَعُوا): الركوع: هو الميلان، فنقول: ركعت النخلة أي: مالت، وظاهر الآية يقتضي جواز الأدنى؛ ولأنّه إنّما يتناوله اسم الركوع، فصار كما لو طول. "ولأنه ركن لا يتعقبه الخروج من الصلاة، فلم تجب فيه زيادة على ما يتناوله الاسم".
- (وَاسْجُدُوا): السجود هو وضع العضو الساجد على الأرض، تقول العرب: سجد البعير: إذ وضع جرانه -أي مقدمة عنقه- على الأرض، والطمأنينة دوامٌ على فعل السجود -ليس جزءاً من ماهية السجود-، والأمر بالفعل لا يقتضي الدوام على القيام بذلك الفعل بالضرورة.
رد الحنفية على احتجاج مخالفيهم بحديث المسيء لصلاته
تذكّر كتب الحديث أنَّ الرسول الكريم رأى رجلاً يصلي أمامه في المسجد، فلمّا انتهى من صلاته أمره النبي الكريم بإعادة صلاته، فأعادها، ثم أمره بإعادتها مرة ثانية، وبعد أن انتهى من الثانية أمره بإعادتها مرة ثالثة، ثم قال له بعد الثالثة: (إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا).
وهذا الحديث يُعد الدليل الأشهر لمخالفي الحنفية في مذهبهم بخصوص الطمأنينة داخل الصلاة، ووجه الدلالة فيه تصريح النبي الكريم باشتراط الاطمئنان عند الركوع، وعند الارتفاع من الركوع، وعند السجود، وعند الجلسة بين السجدتين، وقد رد جمهور الحنفية على احتجاج مخالفيهم -بمفهوم حديث الأعرابي المسيء لصلاته- بما سيأتي بيانه:
- لو لم تكن صلاة معتبرة لمنعه النبي الكريم عن إتمامها، ولما تركه إلى أن أتمها؛ لأنها لو كانت فرضاً لبطلت صلاته بمجرد تركه لها، وإتمامه لها سيكون حراماً، لكونه عبثا وبما أنَّ الرسول لم يمنعه، بل وتركه حتى أتمها، فقد دلَّ بأنَّ الطمأنينة ليست بفرض، وإنما أمره بالإعادة لجبر النقصان، وإنما قال: لم تصل، لعدم كمالها وتفاحش نقصانها.
- قول النبي الكريم للأعرابي: (فإذا فعلتَ ذلك فقد تمتْ صلاتُك، وإن انتقَصتَ منه شيئًا انتقصْتَ مِنْ صلاتِك)، فقد سماها النبي صلاة، والباطلة لا تُسمّى صلاة، وأيضاً فقد أقره النبي الكريم بعد أول ركعة، حتى أتمَّ صلاته كاملة، فلو كان عدم الطمأنينة مفسداً لفسدت بأول ركعة ولما حافظت على اسم: "صلاة".
- تقرير النبي الكريم لصلاة الأعرابي مِن بداية ركن الإحرام بالتكبير وحتى وصوله إلى ركن المفارقة بالتسليم دليلٌ على مشروعيتها؛ فالتقرير نوع مِن أنواع السنة النبوية التي هي المصدر الثاني في القوة من مصادر الأدلة الشرعية.
- قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، متواتر قطعي، بينما حديث الأعرابي المسيء لصلاته صحيح، ولكنه آحاد ظني، ولا يمكن للآحاد ظني الثبوت أن ينسخ المتواتر قطعي الثبوت، فكيف إذا كان المتواتر أقوى من الحديث دلالةً أيضاً، كما سبق بيانه في النقاط الثلاث السابقة. [4]