نبوة عيسى و معجزاته
مولد عيسى عليه السلام
كانت مريم -عليها السلام- أمّ عيسى منقطعةً عن أهلها وقومها، تعبد الله -تعالى- حين جاءها جبريل -عليه السلام- على هيئةِ رجلٍ فدخل عليها، فخافت منه مريم -عليها السلام- فطمأنها وأخبرها أنّه لن يمسّها بسوء، ثمّ بشّرها بأنّها ستحمل في بطنها نبيّاً من أنبياء الله، ومرّت أشهر الحمل يسيرةً على مريم حتى جاء موعد الوضع، وذكر الله -تعالى- حالها عند الوضع؛ فقال: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)، ولم تتأخّر رحمة الله -تعالى- لها فأُذن لعيسى -عليه السلام- أن ينطق لحظة مولده لُيطمئنها، حيث قال الله تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا*وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا*فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)، فكانت هذه هي المرة الأولى التي ينطق فيها عيسى -عليه السلام- في مهده.
ذهبت مريم -عليها السلام- إلى قومها تحمل ابنها بين يديها، فأنكر عليها القوم ذلك واتهمومها بالبغاء لعلمهم أنّها لم تكن متزوّجة، ولأنّ مريم كانت صائمةً لله -تعالى- عن الكلام، فلم تُجبهم بل أشارت إلى طفلها، فأنطق الله عيسى بن مريم مرّةً أخرى مدافعاً عن أمّه ومطمئناً لها، فقال: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا*وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا*وَبَرًّا بِوَالِدَتِي).
نبوّة عيسى وبشريّته
اتخذ النّصارى نبيّهم عيسى -عليه السلام- إلهاً لهم، عندما رأوا ما له من معجزات أيّده بها الله تعالى، فبالإضافة إلى أنّه كان يحيي الموتى ويُبرء الأكمه والأبرص بإذن الله، فإنّه كان قد وُلد دون أب، فتعلّلوا بذلك ليتخذوا عيسى -عليه السلام- إلهاً مع الله تعالى، لكنّ القرآن الكريم كان واضحاً في ذكر حقيقة عيسى -عليه السلام- في بشريّته أولاً، وفي نبوّته ثانياً، فقد قال الله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ)، فهو رسول من الله تعالى، وهو بشر هو وأمّه يأكلان الطعام كسائر البشر، وهذه المعجزات التي جاء بها كشفاء المرضى وإحياء الموتى، إنّما هي مُعجزة أيّده الله -تعالى- بها كما أيّد باقي أنبيائه بالمعجزات، وقد ورد في السنّة النبويّة ما يؤكّد نبوة عيسى -عليه السلام- بقول الرسول عليه السلام: (من شَهِدَ أن لا إله إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأنّ مُحَمَّداً عبدُه ورسولُه وأنّ عيسى عبدُ اللهِ وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه، وأن الجنةَ حَقٌّ وأن النارَ حَقٌّ، وأن البعثَ حَقٌّ أدخله اللهُ من أَيِّ أبوابِ الجنةِ شاء).
معجزات عيسى عليه السلام
تعدّدت معجزات نبيّ الله عيسى عليه السلام؛ فمنها ما كانت قبل نبوّته كولادته، ومنها ما أيّده الله -تعالى- بها أمام قومه، وفي ما يأتي تفصيل ذلك:
معجزات عيسى قبل نبوّته
تمثّلت المعجزات بأصل الحمل أوّلاً، ثمّ بظروف ولادة مريم عليها السلام، وفيما يأتي بيان ذلك:
- معجزة عيسى لحظة ولادته؛ حيث كانت ولادته بحدّ ذاتها معجزةً دون أب، كذلك فإنّ نداء عيسى -عليه السلام- لوالدته لحظة مولده ليطمئنها ويؤنسها كان معجزةً كذلك، حيث ورد في الآية الكريمة: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)، أي الرطب الصالح للأكل، وفي ذلك معجزة أيضاً؛ إذ قيل إنّ الوقت كان شتاء، وقيل إنّ النخلة كانت يابسةً لا رطب فيها.
- معجزة عيسى -عليه السلام- بالحديث إلى قومه وهو رضيعاً؛ فحينما ذهبت مريم -عليها السلام- تحمل ابنها وهي صائمة عن الكلام، فتسائلوا من أين أتى الطفل ومريم ليست متزوجة ، فأشارت مريم إليه دون أن تتكلّم، فأنطق الله عيسى -عليه السلام- ليخبر قومه بأنّه نبيّ الله.
معجزات عيسى وهو نبيّ مُرسل
تعدّدت المعجزات التي أيّد الله -تعالى- بها نبيّه عيسى عليه السلام، وقد ذكرت في القرآن الكريم في مواضع عدّة، منها قول الله تعالى: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، ومعجزات عيسى على النحو الآتي:
- التشكيل من الطين كهيئة الطير والنفخ فيه ليتحوّل إلى طائر يطير بإذن الله.
- شفاء الأكمه والأبرص بإذن الله.
- إحياء الموتى بإذن الله.
- إخبار الناس بما يخفون في بيوتهم بإذن الله.
إنّ عيسى -عليه السلام- بُعث في زمنٍ شهد تطوّر الطب وانتشار الأطباء، فكانت معجزة نبيّهم حول نفس اختصاصهم، فبالرّغم من حداثة العلم والطب حينذاك، إلّا أنّه لم يستطع أحد أن يشفي الأكمه والأبرص، أو أن يحيي ميّتاً إلّا بإذن الله سبحانه، وكان من مُعجزاته أيضاً أنّه أُنزل عليه وعلى من آمن معه مائدةً من السماء، فبعد أن أُمر الحواريون بصيام ثلاثين يوماً تقرّباً لله تعالى، وبعد أن التزموا هذا الأمر سألوا عيسى -عليه السلام- أن ينزل الله -تعالى- عليهم مائدة فطرهم من السماء لتكون عيداً لهم وفرحةً تبهج قلوبهم بعد أداء هذه العبادة ، وتكون لاطمئنان قلوبهم وزيادة اليقين عندهم، فخاف عيسى -عليه السلام- ألّا يؤودّوا شكرها، فألحّوا عليه الطلب، فتوجّه عيسى -عليه السلام- إلى مصلّاه داعياً سائلاً الله -تعالى- أن ينزّل لهم المائدة، قال الله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). فاستجاب الله -تعالى- دعوة عيسى وأنزل على الحواريين مائدةً من السّماء كما سألوه.