من الذي نقط القرآن
من الذي نقط القرآن
المرحلة الأولى: أبو الأسود الدؤلي
تعدّدت آراء العلماء في أوّل من نقط القرآن الكريم، فقيل إنَّه أبو الأسود الدؤلي، وقيل يحيى بن يعمر، وقيل نصر بن عاصم الليثي، واشتُهر أبو الأسود الدؤلي بأنَّه أوّل من وضع مسائل النحو للغة العربية بأمرٍ من علي بن أبي طالب، وقد كان شديد الحرص على حفظ اللغة العربية لغة القرآن، وممّا يُروى في هذا السياق قصة القارئ الذي بدّل حركة كلمة "رسولُهُ" من الضمّ إلى الكسر في قوله -تعالى- من سورة التوبة : (أَنَّ اللَّـهَ بَريءٌ مِنَ المُشرِكينَ وَرَسولُهُ)، فمن هنا اشتعلت غَيْرَتُه على القرآن، وزادت رغبته في علاج مشكلة شيوع اللحن في قرآءة القرآن، وقال حينها: "عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله".
وقد سبق له أن طُلِب منه ذلك من قِبَل زياد والي البصرة، وعندما وقعت هذه الحادثة ذهب إلى زياد مُلبّياً له، فوضع طريقةً خاصةً لضبط كلمات المصحف، فوضع النقطة فوق الحرف لتدلّ على الفتحة، ونقطة تحت الحرف لتدل على الكسرة، ونقطة بين أجزاء الحرف لتدل على الضمة، ونقطتين فوق الحرف للدلالة على السكون. وقال السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن إنَّ أول من فعل ذلك هو أبو الأسود الدؤلي بأمرٍ من عبد الملك بن مروان، فالروايات كثيرة في ذلك، وكلّها تجتمع على أن أول من بدأ بفكرة تحسين رسم القرآن هو أبو الأسود الدؤلي، وهذا التحسين كان نحوياً، للتفريق بين الفتحة والضمة والكسرة.
ومهما اختلفت الرّوايات التي وردت في شأن أبو الأسود الدؤلي والدافع الذي حرّكه لضبط كلمات المصحف، فإنَّ هذا العمل الجسيم لا يمكن أن ينهض إلا باجتماع الأفراد معاً، ولكن يكفيه أنَّه كان الحلقة الأولى في سلسلة ضبط حركات القرآن وتجويد رسمه، كما أنَّه يُروى أنَّ يحيى بن يعمر هو من نقط القرآن، ولكن ليس هناك أي دليل قطعي على ذلك، ولا يمنع ذلك في أن يكون له يد في عمل الجماعة في تنقيط القرآن، والمقصود من تنقيط القرآن هو وضع نقاط لتشير إلى حركة الكلمة الإعرابية، ولا يُقصد بالتنقيط ما نعرفه الآن من وضع النقاط على الحروف، والسبب وراء وضع النقاط للنحو والإعراب هو للمنع من انتشار اللّحن عند قراءة القرآن.
المرحلة الثانية: يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم
كانت حروف اللغة العربية خاليةً من التنقيط على الحروف، فكانت جميع الحروف التي تتشابه بالرسم تتّخذ نفس الشكل، حتى قام يحيى بن يعمر بوضع نقط الإعجام، وقيل نصر بن عاصم اللّيثي، والإعجام هو وضع النقاط على الحروف للتفريق بينها، فنقطة تحت الباء، ونقطتان فوق التاء، وثلاثة نقاط فوق الثاء، وهكذا على جميع الحروف، وقيل إنَّ التنقيط بدأ قبل ذلك إبان خلافة معاوية ، وقد كان عمل نصر بن عاصم في تنقيط القرآن امتداداً لعمل أُستاذيه؛ أبي الأسود الدؤلي، ويحيى بن يعمر، وقيل إنَّ نصر بن عاصم كان أول من وضع النقاط على الحروف المتشابهة في القرآن، ولكن لا يوجد أيّ دليلٍ قطعي يجزم بذلك كما ذكرنا سابقاً.
ومهما تعدّدت الأسماء واختلفت الأقوال فإنَّ مرادهم كان واحداً في الحفاظ على القرآن من اللّحن والخطأ في قراءته، وحتى تكون قراءة القرآن الكريم سهلة مُيسّرة على النّاس. وقد كان يحيى بن يعمر قاضياً بمرو، فقام بتنقيط مصحفه تطبيقاً لِمَا تعلّمه من أستاذه أبي الأسود الدؤلي، ومن ثمَّ جاء دور نصر بن عاصم الذي قام بوضع النقاط لتمييز المتشابه من الحروف، وقد كان تكامل علم التنقيط والتشكيل في عهد الخليل بن أحمد الفراهيدي، بالإضافة إلى أنَّ التطورات ما زالت مستمرّة إلى هذا اليوم في تسهيل تدبّر القرآن الكريم وقراءته للنّاس.
وقام تلاميذ أبي الأسود الدؤلي بالتفنّن في تشكيل الحروف وتنقيطها، فمنهم من جعل النقطة مدوّرة الشكل، ومنهم من جعلها مطموسة الوسط، ومنهم من جعلها مدوّرة خالية من الدّاخل، وإذا كان الحرف ساكناً تركوه من غير تنقيط، أمّا إذا كان مُنوّناً فيضعون نقطتين فوقه أو تحته أو عن شماله، وفيما بعد تطوّرت الحركات فاتّخذت علامة الجرّة الأفقيّة فوق الحرف لتدلّ على أنّ الحرف ساكن، ووضعوا علامة القوس للدلالة على أنّ الحرف مشدد، والجرّة المتصلة فوق الألف للدلالة على أنّها للوصل إذا كان ما قبلها مفتوح، وتحتها إذا كان ما قبلها مكسور، وفي وسطها إذا كان ما قبلها مضموم.
حكم تنقيط القرآن
تعدّدت آراء العلماء في حكم التنقيط، فمنهم من قال بجواز ذلك لِما فيه من الضبط والبيان، ومنهم من قال بكراهة ذلك حرصاً على الحفاظ على القرآن بالشّكل الذي جمعه الصحابة فيه، ولو كان التنقيط أمراً ضرورياً لقام به الصحابة من قبل، لكنّ عامّة العلماء قالوا بأنّ تنقيط القرآن لا يُعدّ بدعة، بل إنّ فيه المصلحة والنّفع، فليس مكروهاً، أمّا بالنسبة لنقط الإعجام فكان لا بُدّ منه نظراً لكثرة الدّاخلين إلى الإسلام من الأعاجم، وكثرة التّصحيف في لغة العرب، لكنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا على درايةٍ باللغة العربية وعلومها؛ لذلك لم يكونوا بحاجةٍ إلى التنقيط والتشكيل، وعندما كثرت الفتوحات الإسلامية صارت الحاجة مُلحّة لتأسيس مبادئ علم النحو، ووضع علم القواعد والتنقيط والتشكيل.
سبب تنقيط القرآن
يُعرف التصحيف بأنَّه التغيير الذي يطرأ على الكلمة فيُغيّر من معناها، نظراً للتشابه في الرسم، وغالباً ما يحصل مع المبتدئين في القراءة، أو حتى بين كبار السن على سبيل الخطأ والوهم وسبق اللّسان، وهذا الأمر كان من أهم الأسباب الدّاعية إلى وضع علاماتٍ لتساعد النّاس في التفريق بين الحروف المتشابهة، حيث كانت المصاحف خاليةً من التنقيط حتى تحتمل جميع وجوه القراءات ، فكانوا يُميّزوا ذلك بسليقتهم اللغوية، واستمر ذلك الحال في عهد عثمان بن عفان بضعاً وأربعين سنة حتى خلافة عبد الملك، وفُتحت العديد من الأمصار، وكثر اللبس في قراءة بعض كلمات القرآن وحروفه نظراً للاختلاط بغير العرب.
واستمر الخطأ واللحن في القراءة؛ لأنَّ أبا الأسود الدؤلي شكَّل الحرف الأخير فقط من كل كلمة، فقام عبد الملك بن مروان بأمر الحجاج بن يوسف أن يهتم بهذا الأمر، فاختار نصر بن عاصم الليثي لعلاج هذه المشكلة، فعمَّم التشكيل الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي على باقي حروف الكلمة، ومن ثُمَّ عمل على عقد لجنة تتكون من نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر والحسن البصري، وكان هدفها حماية القرآن الكريم من التحريف والتصحيف، وكان ذلك في القرن الأول من قرون الإسلام، فساهم ذلك في حماية القرآن، وتلقّى الاستحسان والقبول من النّاس.