متى يجوز إجهاض الجنين شرعاً
حالات جواز الإجهاض
الخوف على حياة الأم
في المرحلة الأولى من الحمل
اتَّفق أهل العلم على جواز إجهاض الجنين في المرحلة الأولى من الحمل؛ أي قبل تمام الأربعين يوماً في حال كانت في إجهاضه مصلحة شرعيّة، أو دفعُ ضررٍ، بشرط توفُّر تقرير لجنة طبّية موثوقة تُؤكّد فيه أنّ في استمرار الحمل خَطَراً على حياة الأم، وذلك بعد استنفاد كافّة الوسائل المُتاحة لتلافي الأخطار.
إن نُفِخت الروح في الجنين
تعدّدت آراء أهل العلم في حُكم الإجهاض للضرورة، وبيان آرائهم فيما يأتي:
فقهاء المذاهب الأربعة
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكيّة، والشافعية، والحنابلة، بالإضافة إلى الظاهريّة إلى حُرمة الإجهاض بعد نَفْخ الروح لأيّ سبب من الأسباب؛ فقد وردت في كتاب البحر الرائق حالة تُبيّن ما سبق؛ وهي اعتراض جنين في بطن أمه بحيث يستحيل إخراجه إلّا بتقطيعه أرباعاً، وحياة أمّه في خطر إن لم يفعل الأطبّاء ذلك، فكان جواب الفقهاء بجواز العملية إن كان الطفل ميّتاً، أمّا إن كان حَيّاً فلا يجوز إجهاضه؛ لأنّ إحياء نفس بقَتل أخرى لم يَرد في الشَّرْع، واستدلّوا على قولهم بالعقل والقياس:
- فمِن العقل أنّ موت الأمّ بسبب الجنين موهوم لا يمكن تأكيده، كما أنّ الجنين بعد نَفْخ الروح أصبح آدميّاً لا يجوز قَتله لأمر موهوم و شُبهة غير مُؤكَّدة، بالإضافة إلى أنّ حياة الجنين وحياة أمّه مُستويتان في الاحترامية، ولم يَرد في الشَّرْع ما يُبيح قَتل نفس لإحياء أخرى.
- ومن القياس فقد تمثّل بعدم الأَخذ برُخصة الإكراه في القَتل؛ إذ لا يجوز للمسلم في حال إكراهه على قَتل مسلم آخر أن يقتله ليحفظ نفسه؛ لأنّ مَفسدة تعرُّضه للقَتل أخفّ من مَفسدة قَتله غيرَه، وعليه لا يجوز له الأَخذ برُخصة الإكراه، وإنّما يجب عليه الصبر والاحتساب.
بعض الفقهاء المعاصرين
خالف فريق من الفقهاء المُعاصرين، ومنهم: الدكتور صالح الفوزان، والدكتور عبدالفتاح محمود إدريس، والدكتور عباس شومان قول الجمهور، وذهبوا إلى جواز بل وجوب إجهاض الجنين في حال تأكَّد الخَطَر على حياة الأمّ عند استمرار الحَمل، كما جاء في كتاب (كشف الأسرار): "إذا خاف تلف النفس أو العضو جاز له الترخص بالمحرم لصيانة النفس أو العضو من التلف"، كما ورد في (فتح القدير): "ولأن الجنين بحكم الأعضاء، بدلالة أنه لا يكتمل أرشه، والأعضاء لو انفصلت بعد الموت لا تقوم".
واستدلّ الفقهاء المُعاصرون على رأيهم بالقواعد الفقهيّة الكُلّية، والقياس، كقاعدة (دَرء المَفاسد أولى من جَلب المَصالح)، وقاعدة (إذا تعارضَت مَفسدَتان رُوعِيت أعظمهما بارتكاب أخفّهما)، وقاعدة (ارتكاب أخفّ الضررَين، وأخفّ المَفسدتَين عند اجتماعهما)، وقاعدة (الضرورات تُبيح المَحظورات)، وبناء على ما سبق من القواعد، فقد جازت التضحية بالجنين لإنقاذ حياة الأمّ؛ فهي الأصل والجنين الفَرع.
بالإضافة إلى أنّ الأم استغرقت في حياتها؛ فهي عِماد الأسرة، ولها حقوق، وعليها واجبات، فلا تصحّ التضحية للحفاظ على جنين لم تستقلّ حياته، بل لم تتأكّد بعد؛ ذلك أنّ حياة الأمّ قطعيّة، بينما تُعَدّ حياة الجنين مُحتمَلة، ويُشار إلى أنّهم استدلّوا على جواز إجهاض الجنين للضرورة بالقياس على مسألة الاقتصاص للابن من والده؛ فقد ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّه قال: (سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: لا يُقادُ الوالدُ مِن ولدِه).
وقد أكَّد أهل العلم القائلين بجواز الإجهاض للضرورة على اشتراط وجود طبيبَين مُختصَّين أو أكثر؛ للتأكُّد من أنّ بقاء الجنين سيُؤدّي حَتماً إلى وفاة الأمّ.
تعرُّض الجنين لتشوُّهات شديدة
أجمع أهل العلم على عدم جواز إجهاض الجنين بسبب التشوُّهات بعد مرحلة نَفْخ الروح؛ لأنّه أصبح نَفْساً يُعَدّ قَتلها جريمة مُحرَّمة، بينما اختلفوا في حُكم إجهاض الجنين قبل نَفخ الروح فيه بسبب التشوُّهات الشديدة التي قد تُؤثّرفيه عقليّاً وحَرَكيّاً، فتمنعه من ممارسة حياته بعد الولادة بشكل طبيعيّ:
- ذهب فريق من الفقهاء المُعاصرين، ومنهم: الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ وهبة الزحيلي، ومجمع الفِقه الإسلاميّ في مكّة المُكرَّمة إلى جواز إسقاط الجنين في حال تعرُّضه لتشوُّهات شديدة غير قابلة للعلاج، مِمّا يمنعه من ممارسة حياته بشكل طبيعيّ، الأمر الذي يُسبّب الحزن والالم له ولأهله.
- بالإضافة إلى أعباء رعايته والاعتناء به، وتجدر الإشارة إلى أنّ قرار مَجمع الفِقه الإسلاميّ جاء فيه: "قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل، إذا أثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات، وبناءً على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية أن الجنين المشوه تشويها خطيراً غير قابل للعلاج، أو أنه إذ بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة وآلاما عليه وعلى أهله، فعندئذ يجوز إسقاطه بناءاً على طلب الوالدين".
- ذهب الفريق الآخر إلى حُرمة إسقاط الجنين بسبب التشوُّهات؛ لأنّ أغلب أخبار الأطبّاء مُجرَّد ظنون، كما أنّ الأصل احترام الجنين وتحريم إجهاضه.
حكم الإجهاض
جمهور الفقهاء
اتّفق جمهور الفقهاء على تحريم الإجهاض بعد نَفخ الروح في الجنين، والذي يكون بعد مئة وعشرين يوماً؛ لِما ورد عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فيه الرُّوحَ)، واعتبروا أنّ إجهاض الجنين بعد نَفْخ الروح فيه قَتلاً للنَّفْس، وأكّدوا على تحريم الإجهاض بعد نَفخ الروح حتى وإن شكَّل بقاء الجنين خطراً على أمّه.
كما نُقِل عن ابن عابدين أنّه قال: "لَوْ كَانَ الْجَنِينُ حَيًّا، وَيُخْشَى عَلَى حَيَاةِ الأُْمِّ مِنْ بَقَائِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَقْطِيعُهُ؛ لأَِنَّ مَوْتَ الأُْمِّ بِهِ مَوْهُومٌ، فَلاَ يَجُوزُ قَتْل آدَمِيٍّ لأَِمْرٍ مَوْهُومٍ"، أمّا إجهاض الجنين قبل نفخ الروح فقد اختلف فقهاء المذاهب في حُكمه؛ إذ ذهب فقهاء الحنفيّة إلى جواز الإجهاض بعُذر قبل نَفْخ الروح، قال ابن وهبان في ذلك: "إن إباحة الإسقاط محمولة على حالة الضرورة"، أمّا المالكية فقالوا بحُرمة الإجهاض قبل نَفخ الروح.
وقال الدريدر: "لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ الْمُتَكَوِّنِ فِي الرَّحِمِ وَلَوْ قَبْل الأَْرْبَعِينَ يَوْمًا"، وأوجبوا على الإجهاض الغُرّة، واستحسن مالك الكفّارة والغُرّة؛ والغرّة في الإجهاض هي: نصف عُشر الدِّية، وقد نُقِل عن الإمام مالك -رَحِمه الله- أنّه قال: "كُل مَا طَرَحَتْهُ الْمَرْأَةُ جِنَايَةٌ، مِنْ مُضْغَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ، مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ، فَفِيهِ الْغُرَّةُ)، وذهب الشافعية والحنابلة إلى تحريم الإجهاض قبل نَفْخ الروح؛ لأنّ النُّطفة بعد الاستقرار تكون مُهيَّأة لنَفْخ الروح والتخلُّق، وأوجبوا على الإجهاض قبل النَّفْخ الكفّارة والغُرّة.
دائرة الإفتاء الأردنيّة
أمّا في زماننا الحاضر، فقد ورد عن دائرة الإفتاء الأردنيّة تحريم الإجهاض في مراحله وأطواره جميعها، إلّا أنّ درجة التحريم والإثم المُترتِّب عليه تختلف باختلاف المراحل، لا سِيّما أنّ الإجهاض اعتداء على كائن حيّ ينمو ليكون نَفْساً مؤمنة بإذن الله؛ ولذلك تترتّب على الإجهاض كفّارة قَتل النَّفس.
مِمّا يدلّ على ذلك ما نُقِل عن الإمام الغزاليّ -رَحِمه الله- من قوله في كتاب إحياء علوم الدين: "وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيّاً"، إلّا أنّ إجهاض الجنين جائز قبل مُضِيّ مئة وعشرين يوماً من علوقه إن قرَّر الطبيب الثقة أنّ بقاءه يُعرّض حياة الأم لخَطَر الوفاة.
الدكتور يوسف القرضاوي
ومن أهل العلم المُعاصرين الذين كان لهم رأيٌ في حُكم الإجهاض الدكتور يوسف القرضاوي؛ إذ بَيَّن أنّ الأصل في حُكم الإجهاض هو الحُرمة، وتكون أقلّ مراتب الحُرمة قبل تمام الأربعين يوماً، وقد يجوز الإجهاض لعُذر مُعتبَر، أمّا بعد انقضاء الأربعين يوماً، فإنّ الحُرمة تشتدّ فلا يجوز بعدها الإجهاض إلّا لأعذار يُقدّرها الفقهاء.
وتتأكّد الحُرمة بعد نَفخ الروح، وفي هذه المرحلة لا يجوز الإجهاض إلّا للضرورة القُصوى؛ وهي عند تأكُّد الخَطر على حياة الأمّ؛ فالأمّ هي الأصل، والجنين هو الفرع، وقد أجمع أهل العلم، والفِقه، والطبّ، والقانون على عدم صحّة التضحية بالأصل من أجل الفرع.
حكم إجهاض الجنين من الزنا
في بداية الأمر، يتوجب على الزناة التوبة إلى الله -سبحانه وتعالى-، والابتعاد عن كل ما يقود إلى الفاحشة، وأما عن حكم الإجهاض هنا فإنه لا يختلف عن حكمه في حال الزواج الصحيح، وتجري عليه الأحكام ذاتها، فباتفاق العلماء لا يجوز إجهاض الجنين بعد نفخ الروح، إلا في حالات خاصة، وأما إجهاضه بعد أربعين يوماً، فمختلف في حكمه، كما بيناه سابقاً في هذا المقال، وتجب الدية على هذا الجنين.
حكم إجهاض الجنين لزراعة أعضائه لشخص آخر
جاء في كتاب الفقه الميسّر أنّ حكم استخدام الأجنة لغايات زرع الأعضاء كما يأتي:
- لا يجوز الإجهاض لاستخدام الجنين في زرع الأعضاء، بل يجب أن يكون إجهاضه طبيعياً غير متعمّداً، أو إجهاض لعذر شرعي واضح، أو لإنقاذ حياة الأم، فهذه هي الحالات التي يقتصر عليه الإجهاض.
- إذا كان هناك إمكانية لاستمرار حياة هذا الجنين؛ فالأولى علاجه والمحافظة على حياته، ولا يجوز الاستفادة من أعضائه إلا بعد موته وبالشروط والضوابط الشرعية، ويجب أن يشرف على عمليات زرع الأعضاء هيئة متخصّصة موثوقة.
- لا يجوز أن تكون عمليات زرع الأعضاء من الأجنة عمليات تجارية مادية إطلاقاً.
ضوابط جواز الإجهاض
قبل الوقوف على الحالات الضروريّة التي يجوز الإجهاض بسببها، تنبغي الإشارة إلى قاعدة الضرورة، وبيان ضوابطها، ومنها:
- استنفاد جميع الوسائل المُباحة في التعامُل مع الحالة قبل الأخذ برُخصة الضرورة.
- أن تكون أسباب الضرورة قائمة فعلاً لا مُتوقَّعة، بحيث يتأكّد الخوف من هلاك النَّفْس، أو المال، أو العقل استناداً إلى دلائل واقعة بالفِعل.
- أن تكون المَفْسدة المُترتِّبة على عدم الأَخذ بالرُّخصة واجتناب ارتكاب المَحظور للضرورة أكبر من المَفْسدة المُترتِّبة على أرتكاب المَحظور نفسه.
- كون المصلحة المُترتِّبة على الأَخذ بالرُّخصة وارتكاب المَحظور للضرورة أعظم من المصلحة المُترتِّبة على اجتناب المَحظور نفسه، إلى جانب الاقتصار على الحَدّ الأدنى الكافي لدَفع الضَّرَر مِمّا يُباح من المَحظور للضرورة، وأن تكون الضرورة مُلحّة، كالخوف على حياة إنسان، او عُضو منه.
عناية الإسلام بالأجنّة
شرع الله -تعالى- لعباده مجموعة من الأنظمة والقوانين التي تُحقّق لهم السعادة، وتقضي على نوازع الشرّ؛ إذ تُشكّل الشريعة الإسلاميّة، وخاصّة التشريع الجنائيّ الإسلاميّ القواعد الضروريّة لحماية حقوق الأفراد، وصيانة حُرمتها، وعدم المساس بها، مِمّا يُؤدّي إلى مجتمع عزيز مُطمئنّ، ينعم بالأمن والسلام فلا يعرف الجريمة، أو الفوضى، أو الانحراف، أو الشذوذ، ولا يقبل الظلم والعدوان، ولا مكان فيه للفساد والطغيان.
ومن الجدير بالذِّكر أنّ الإسلام اهتمّ بالإنسان في مراحل حياته جميعها، وفي مرحلة ما قَبل الولادة أيضاً؛ إذ وضع أحكاماً دقيقةً لحفظ الأجنّة ومراعاة حُرمتها وحقوقها؛ فحرَّم الإجهاض إلّا في الحالات التي سبق بيانها، ورخّص في تأجيل بعض العبادات، كصوم رمضان؛ حِفظاً للجنين ومراعاةً لصحّته.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الله -تعالى- ذَكَر الأجنّةَ في القرآن الكريم، وعَدّها من الآيات الكُبرى التي تدلّ على عجائب قُدرته، وعَظمة صُنعه، وهي أيضاً دليل على ألوهيّته، وبُرهان على البَعث والنشور؛ فقد قال: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ*يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِر* فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ).