ما هي حجة الوداع
حجّة الوداع آخر حجة حجّها الرسول
تُعرَّف حجّة الوداع بأنّها: الحجّة التي ودّع فيها النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- الصحابةَ -رضي الله عنهم-؛ إذ كان يقول لهم أثناء أدائه مناسك الحجّ: (يا أَيُّها الناسُ خُذُوا عَنِّي مناسكَكم، فإني لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بعد عامي هذا)، وكانت حجّة الوداع في العام العاشر للهجرة، وتُوفّي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في شهر ربيع الأوّل من العام الحادي عشر للهجرة.
وقد تعددت الآراء في عدد المرّات التي حجّ فيها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؛ فقِيل إنّه -عليه الصلاة والسلام- حجّ مرّةً واحدةً في الإسلام؛ وهي حجّة الوداع، ولم يرد ما يُثبت أنّه حجّ قبل الهجرة، أو لم يحجّ، بل ورد ما يدلّ على أنّه حجّ مرّةً واحدةً بعد الهجرة.
وذلك بدليل ما ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنّه قال: (إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ في النَّاسِ في العَاشِرَةِ، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ برَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ).
وقِيل إنّه -عليه الصلاة والسلام- حجّ قبل البعثة وبعدها، إلّا أنّه لم يرد ما يُؤكّد عدد مرّات حجّه، ويمكن القول إنّ الثابت والصحيح أنّه -عليه الصلاة والسلام- حجّ مرّةً واحدةً بعد الهجرة؛ وهي حجّة الوداع.
صفة حجّة الوداع
فرض الله -سبحانه وتعالى- الحجّ في أواخر العام التاسع للهجرة، وأَذِن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالخروج إلى الحجّ في العام العاشر للهجرة، وفيما يأتي بيان صفة حجّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لحجة الوداع:
- خرج -عليه الصلاة والسلام- في الخامس والعشرين من ذي القعدة من المدينة المُنوَّرة باتّجاه مكّة، ولمّا وصل ميقات ذي الحُليفة اغتسلَ للإحرام، وتطيَّب، ولَبِس الرداء والإزار، ثمّ صلّى في المسجد، وأهلَّ بالحجّ والعُمرة، وأخذ يُلبّي قائلاً: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لكَ).
- إلى أن وصل إلى ذي طوى بالقُرب من مكّة المُكرَّمة، فنزل وبات فيه ليلة الرابع من ذي الحِجّة، ثمّ صلّى بالمسلمين صلاة الفجر، واغتسل، ودخل مكّة نهاراً، وتوجّه إلى الكعبة المُشرَّفة؛ فمَسح الحجر الأسود، وقبّله.
- ثمّ شرع بالطواف، وكان قد أسرع بالمَشي مع تقارُب خُطاه في الأشواط الثلاثة الأولى، وأتمّ سبعةً بالمَشي دون إسراعٍ، ثمّ توجّه إلى مقام إبراهيم -عليه السلام-، وقرأ قَوْل الله -تعالى-: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
- لمّا وصل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إلى الصفا، قرأ قَوْل الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).
- ثم ارتقى على جبل الصفا حتى رأى الكعبة، فاستقبل القِبلة، ثمّ كبّر الله، ووحَّدَه، وقال: (لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهو علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ).
- ثمّ دعا الله -سبحانه وتعالى-، وأعاد الذِّكر والدعاء ثلاث مرّاتٍ، ثمّ نزل باتِّجاه المروة، ولمّا بلغ بطن الوادي أسرع المَشي، ولمّا وصل إلى المروة، قال ما قاله عند الصفا.
- أعاد الكَرَّة إلى أن انتهى من السَّعي بين الصفا والمروة سبعة أشواطٍ، إلّا أنّه لم يتحلّل من إحرامه؛ لأنّه كان قارناً بين الحجّ و العُمرة ، وكان قد ساق الهَدْي معه.
- أمرَ مَن لم يَسُقِ الهَدْي من الصحابة -رضي الله عنهم- أن يجعلوا إحرامهم عمرةً؛ فيتحلّلوا من إحرامهم بعد الطواف والسَّعي؛ لقَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (لو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِن أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فمَن كانَ مِنكُم ليسَ معهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً)، وأقام النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في مكّة أربعة أيّامٍ.
التروية وعرفة
فيما يأتي استكمال صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم التروية وعرفة:
- توجّه الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- ومَن معه من المسلمين إلى مِنى في ضُحى يوم الخميس؛ الثامن من ذي الحِجّة، وصلّى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، وأمر بأن تُقام له قبّةُ في نَمِرة بالقُرب من عرفاتٍ.
- ثمّ سار -عليه الصلاة والسلام- حتى نزل في تلك القبّة، وبقي فيها إلى وقت صلاة الظهر، ثمّ توجّه نحو وادي عُرنة، وخطب في الناس خُطبةً شاملةً، وضَّحَ فيها أصول الإسلام، وقواعد الدِّين، وسيأتي ذكر شيء مما قاله النبي الكريم في الخطبة.
- ثمّ أذّن المُؤذّن، وأقام الصلاة، وصلّى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالناس الظُّهر والعصر جَمْعاً، وتوجّه بعدها تلقاء جبل عرفاتٍ، والمسلمون يسيرون خلفه، وعن يمينه، ويساره، فوقف في جبل الرحمة؛ وهو جبلٌ في وسط عرفات، ثمّ استقبل القِبلة.
- بقي واقفاً في عرفاتٍ إلى غروب الشمس، وفي تلك اللحظات المباركة نزل الوحي على قلب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بقَوْل الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
- ثم خرج النبيّ عند غروب الشمس باتِّجاه مزدلفة، وأردف أسامة بن زيد -رضي الله عنه- خلفه، وكان يأمر الناس بالسكينة قائلاً: (أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ).
مما قاله النبي في خطبة الوداع
كان ممّا قاله النبي في خطبة حجة الوداع: (إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ علَيْكُم، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، أَلَا كُلُّ شيءٍ مِن أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِن دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ، كانَ مُسْتَرْضِعًا في بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ).
(وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ، فإنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عليهنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فإنْ فَعَلْنَ ذلكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ علَيْكُم رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمَعروفِ).
وقال -عليه الصلاة والسلام- في ختام الخُطبة: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنِ اعْتَصَمْتُمْ به، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟)، فشَهِدوا أنّه قد بلّغ وأدّى ونَصَحَ، فأشهدَ اللهَ -تعالى- على إقرارهم ثلاث مرّاتٍ: (بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ اللَّهُمَّ، اشْهَدْ، اللَّهُمَّ، اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).
مُزدلفة ومِنى
صلّى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالمسلمين المغرب والعشاء جَمْعاً في مُزدلفة ثمّ نام، وصّلى الفجر، ثمّ توجهّ إلى المَشعر الحرام، فاستقبل القِبلة، ودعا الله -تعالى-، وكبَّره، وحَمِدَه، وبقي واقفاً حتى طلعَ الصبح، وانتشر الضوء، ثمّ توجّه إلى مِنى مُلبّياً، وأمر عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- في الطريق بالتقاط سبع حَصَياتٍ.
ولَمّا وصل إلى مِنى رَجم جمرة العقبة راكباً بسبع حَصَياتٍ، وكان يُكبّر الله مع كلّ حصاةٍ، ثمّ توجّه إلى المَنحر، ونَحر الهَدْي بِيَده الشريفة، ثمّ حَلَق شَعره، ثمّ أفاض إلى مكّة، وأدّى طواف الإفاضة، وصلّى الظهر، ثمّ رجع إلى مِنى، وبات فيها، وتوجّه إلى الجَمَرات في اليوم التالي عند الظهيرة، وبدأ برَجم الجمرة الصُّغرى، ثمّ الوُسطى، ثمّ جمرة العقبة، وأقام في مِنى أيّام التشريق، وكان يرمي الجمرات فيها.
ثمّ خرج من مِنى في اليوم الثالث عشر، ونزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقيّة يومه وليلته، فصلّى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، واستراح قليلاً، ثمّ توجّه إلى البيت الحرام، وطاف طواف الوداع، ثمّ قفل عائداً إلى المدينة المُنوَّرة، وقد أدّى مناسك الحجّ، وبذلك يكون النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قد بيّن للأمّة الإسلاميّة مناسك الحجّ، وما فرضه الله -سبحانه وتعالى- عليهم، وما حَرَّمه.
تأمّلات في خطبة الوداع
شاء الله أنْ تكون فريضة الحجّ في الإسلام سبباً في تطهير تلك الشعيرة المباركة ممّا شابها من شرك الجاهلية وضلالاتهم، وأصبح الحجّ في ظل الإسلام شعيرة أساسها التوحيد، ونبذ الشرك، واقتضت حكمة الله -سبحانه- أنْ تكون حجّةُ الوداع لقاءً حاشداً، جمع عدداً كبيراً من المسلمين بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأخذوا عنه المناسك، واستمعوا إليه في خطبة جامعة مانعة، سُمِّيت بخُطبة الوداع.
وقد بيّن فيها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أصول الدين، ومبادئ العقيدة، ووصّى خلالها أصحابه -رضي الله عنهم- وصيّة مُودِّعٍ، ولم تقتصر خُطبة الوداع على وصايا للأمّة الإسلاميّة في كلّ العصور فحَسْب؛ بل كانت رسالة رحمةٍ للبشريّة عامّةً؛ إذ كان أوّل مبدأ أكّد عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في خطبة الوداع حُرمة سَفْك الدماء بغير حقٍّ؛ وذلك عندما افتتحها بقَوْله: (إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ علَيْكُم، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا).
ولطالما حَثّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه -رضي الله عنهم- على هذا المبدأ، وإنّما أراد أن يؤكّد عليه في ذلك الموقف العظيم أمام الجموع الحاضرة، ثمّ انتقل -عليه الصلاة والسلام- إلى مبدأ عظيمٍ آخر؛ وهو انتهاء عصر الجاهليّة بلا رجعةٍ، وبداية عصر الإسلام، وبُطلان عادات ومعاملات الجاهليّة جميعها، كالربا، والثأر، وغيرها.
ثمّ انتقل -عليه الصلاة والسلام- ليُرسّخ في ضمير الأمّة مبدأ عظيماً من مبادئ الرحمة والإنسانيّة؛ إذ أوصى بالنساء خَيراً، وكم تحتاج المرأة في كلّ عصرٍ من العصور إلى مَن يحميها من الظلم والاستغلال، وإلى رعاية الأب، والزوج، والابن، ثمّ ختم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- خُطبة الوداع؛ مُبيِّناً للأمّة أنّ سبيل العِزّة والتمكين لا يكون إلّا بالتمسُّك بكتاب الله -تعالى-.
أسماء حجّة الوداع
لحجّة الوداع عدّة أسماءٍ؛ إذ أُطلِق عليها اسم (حجّة الإسلام)؛ ويرجع السبب في هذه التسمية إلى أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لم يحجّ غيرها بعد هجرته إلى المدينة، وفرض الحجّ على المسلمين، ومن أسمائها أيضاً: حجّة البلاغ والتمام؛ لأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أتمّ الرسالة، وأدّى الأمانة.
وبعد إتمامه تبليغ الناس بكيفيّة أداء شعيرة الحجّ، اكتمل التشريع الإسلاميّ، فأنزل الله -تعالى- قَوْله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، أمّا سبب تسمية هذه الحجّة المباركة بحجّة الوداع؛ فيرجع إلى أنّها كانت آخر حجّة لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-.
حيث ودّع النبي فيها أصحابه -رضي الله عنهم-؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (وَقَف النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ النَّحرِ بينَ الجَمَراتِ في الحَجَّةِ التي حَجَّ بهذا، وقال: (هذا يومُ الحَجِّ الأكبَرِ)، فطَفِقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: (اللَّهمَّ اشهَدْ). ووَدَّع النَّاسَ، فقالوا: هذه حَجَّةُ الوَداعِ).