ما معنى عتق رقبة
عتق الرّقبة
جاء الإسلام بالعدل والمساواة بين جميع النّاس، وأقرّ أنّ كلّ شخص حرٌّ بطبعه وفطرته، وأنّ الحريّة حقٌّ تكفّل بحفظه لكلّ إنسان مهما كان لونه أو عرقه أو نسبة أو أصله، فقد قال رسول الله عليه الصّلاة والسّلام: (يا أيُّها النَّاسُ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: فليُبلِغِ الشَّاهدُ الغائبَ)، فقد جاء كلّ البشر من آدم، وبما أنّ مَنشأهم واحد فلا يكون لقبيلة أو عائلة أو عرق أو غير ذلك التّفاضل على غيرهم.
حرص الإسلام منذ ظهوره على تحرير العبيد من الرِّق، وشرع لذلك الحدود والكفّارات، عندما جاء الإسلام كان النّاس يتعاملون بالرِقّ والرّقيق، وكانت تلك ظاهرةً يصعب علاجها بالتّحريم المُطلَق لشيوعها، فعمد الإسلام إلى تجفيف منابع العبوديّة حتّى وصل إلى مرحلةٍ لا يوجد بين المُسلمين عبدٌ أو رقيق.
معنى الرِّق (عتق الرقبة)
الرِقّ لغةً: مصدر رقّ الشّخص يرقّ، من باب ضرب، فهو رقيق ، ويقال: (رققته أرقه من باب قتل، وأرققته، فهو مرقوق ومرقّ، وأَمَة مرقوقة ومرقة والرِّق من المُلك، وهو العبودية)، والرِقّ أيضاً: (الشيء الرّقيق)، ويُقال للأرض اللّينة: رق، والرَقّ بالفتح: ما يُكْتَبُ فيه، وهو جلد رقيق.
العتق: مصدر عَتَقَ، يُقال: أعتقت الغلام إعتاقاً فعتق، وهو (يعتق عتقاً وعتاقاً وعتاقةً، وحلف بالعتاق، والعبد عتيق أي معتق)، وامرأة عتيقة: أي حرّة من الأموة، وجارية عاتق: شابّة أول ما أدركت، وامرأة عتيقة: جميلة كريمة عتقت عتقاً.
العتق: مأخوذٌ من السَّبَق، يقال: عتقت منى يمين، أي: سبقت، وعتقت لفرس: إذا سبقت، وعتق فرح الطّائر: إذا طار واستقل، فكأن المعتق خُلِّي فذهب حيث شاء، ويقال: عتق العبد يعُتق عِتاقاً وعِتاقةً، فهو مُعتَق وعَتيق، ولا يقال: معتوق، وخُصَّت الرّقبة بالعتق والملك دون سائر الأعضاء؛ لأنّ تملُّك السيّد لعبده مثاله كمن يضع حبلاً في رقبة آخرٍ يُحرّكه كيف شاء، وكالغل يُحبَس به ولا يستطيع الفِكاك إلا بأمر ساجنه، وتُحبس الدابّة بالحبل وتُربَط في عُنقها، ولهذا استخدموا الحبل كنايةً في العتق، فقالوا: حبلك على غاربك (لمن أعتق عبده) جعله بمنزلة البعير يُطرح حبله على غاربه فيذهب حيث يشاء، ولا يوثَّق.
الإسلام والرِّق
الرِّق بين الإسلام والدّيانات الأخرى
أقرّ الإسلام أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان حين خلقه كامل المسؤوليّة، وكلَّفه بجميع التّكاليف الشرعيّة، ورتّب على ذلك الثّواب إن هو أحسن، والعقاب إن أساء، وكان ذلك على أساس مُطلقٍ من إرادته واختياره، فلا يملك أحدٌ من البشر تقييد هذه الإرادة أو سلب ذلك الاختيار بغير حقّ مشروع، ومن اجترأ على ذلك فهو ظالم جائرٌ استحقّ عقاب الله وسَخَطه، وهذا المبدأ ظاهرٌ من مبادئ الإسلام في هذا الموضوع، وحينما يصدر تساؤلٌ من أحدهم: كيف أباح الإسلام الرِقّ؟ يكون الجواب وبكل قوّة وبغير استحياء: إنّ الرِقّ مباحٌ في الإسلام، ولكن النّاظر إلى كيفيّة تعامل الإسلام مع الرّقيق بتجرُّدٍ وإنصاف سيدرك جيّداً أن الإسلام تعامل مع الرِقّ بأبهى درجات الاحترام وأعطاهم كامل الحقوق، وذلك من خلال النّظر في مصدر الرِقّ والاسترقاق وأسبابه، ثم كيفيّة معاملة الرّقيق ومُساواتهم في الحقوق والواجبات مع الحرّ، وطرق كسب الحريّة وكثرة أبوابها في الشّريعة، وبخاصّةٍ إذا ما قُورنت بغيرها من الشرائع مع الأخذ بالاعتبار نوع الاسترقاق الجديد في العالم المعاصر المُكتسي كذباً بلباس الحضارة والعصرية والتقدّم، فقد وضع الإسلام عدداً من الأمور التي يضمن فيها تجفيف منابع الرِقّ والاسترقاق، حتّى إن حصل استرقاقٌ أو وُجِد في المُجتمعات الإسلاميّة فقد أعطى لهم الإسلام من الحقوق ما لم يُعطِها لهم أيّ شرع أو أي عُرف، وذلك قمّة العدل والإنصاف.
تصوُّر الإسلام لمُشكلة الرِّق
وضع الإسلام تصوّراً سامياً للرِقّ والاسترقاق، في حين نظرت باقي الدّيانات للاسترقاق أنّه أمر رفاهيّ واجب المِراس، أمّا الإسلام فينظر إلى الرِقّ باعتباره نتيجةً لا بد منها للصّراع الدّائر بين البشريّة في شَتّى العصور والمُجتمعات، كما يرى أنّ هذه النّتيجة رسّخت في الأذهان والمُعتقدات على مرّ عقود بل قرونٍ من السّنين، ولهذا كان تعامل الإسلام معها وفق خُطّة مُحكمةٍ لا تتجاهل الواقع، فلم يُحرِّمها ابتداءً؛ بل تركها مشروعةً جائزةً، وفي ذات الوقت لم يُقرَّها على النّحو الذي كانت عليه من الإذلال والهوان للمُسترَقّين والعبيد، وكان ذلك على ثلاثة مراحل استطاع الإسلام أن يُقيم فيها نظامه الخاصّ بالرِقّ وهو أسمى نظام، وأعدل ما يمكن تحقيقه في واقع البشريّة للرِّق، وتلك المَراحل هي:
- تحسين حال الرّقيق معنويّاً وعمليّاً، ورفعهم للمُستوى الإنسانيّ، وذلك لم يكن حاصلاً قبل الإسلام ، ولم تُمارسه شريعة ولا ديانة أُخرى غير الإسلام، وقد نظر الإسلام إلى الرّقيق على أساس أنّه بشرٌ له حقوق كاملة كما لغيره، لا على أساس دينه أو لونه أو عرقه، وقد سعى الإسلام في ذلك عمليّاً؛ حيث بدأ بتغيير اسم الرّقيق وتصحيحه؛ حيث يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصّلاة والسّلام قَالَ: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي)، وكذلك فقد أوجد لهم الإسلام مكانةً اجتماعيّةً لم توجد في غيره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رَسُول اللَّهِ عليه الصّلاة والسّلام: (من قذف مملوكَه بريئًا مما قال أُقيمَ عليه الحَدُّ يومَ القيامةِ؛ إلا أن يكونَ كما قال)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصّلاة والسّلام: (ن قتلَ عبدَهُ قتلناهُ ومن جدَّعَ عبدَهُ جدَّعناهُ ومن أخصى عبدَهُ أخصيناهُ).
- تضييق مصادر الاسترقاق وحصرها فيما يخرج بالرّقيق عن الصّفة الإنسانيّة ، وإيجاد العديد من الوسائل التي تهدف إلى تجفيف منابع الاسترقاق وتضييق الخناق على هذه الظاهرة، فقد كان المدخل إلى الرِقّ قبل الإسلام مفتوحاً على مِصراعيه، ومن طرقه الرِقّ بالبيع؛ كأن يبيع الإنسان أحد أقاربه، أو يبيع الدّائن مدينه ليستوفي دينه، ومنها المُقامرة؛ كأن يؤخذ الخاسر عبداً للفائز، ومنها النّهب والسّطو على القوافل والضّعفاء واسترقاقهم وبيعهم لجني المال، ومنها الحروب؛ كالأسرى ومَلك اليمين، وقد حرّم الإسلام جميع هذه الأوجه، حيث صحَّ في الحديث القدسيّ : يقول الله تعالى: (ثلاثةٌ أنا خصمُهُمْ يومَ القيامةِ ومن كنتُ خصمَهُ خصمتُهُ: رجلٌ أَعْطَى بي ثم غدرَ، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكلَ ثمنَه، ورجلٌ استأجرَ أجيرًا فاستوفَى منهُ ولم يُعطِهِ. وفي روايةٍ: ولم يُوفِّهِ أجرَه)، فلم يُبِق مدخلاً للرِقّ من تلك المداخل سوى أسرى الحرب، فأتى الإسلام على هذه النّقطة فوضع لها ثلاث خيارات يَحكم بها وليّ الأمر: قال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أوزارها)، وقد قسَّم تلك النّقطة إلى: المَنّ بإطلاق السّراح بلا مُقابل، أو قبول الفداء وإطلاق السّراح بمُقابل، أو الاسترقاق والتّعامل مع الرّقيق وفقاً لقواعد وأحكام الإسلام التي ذُكرت سابقاً.
- تحرير الرّقيق: وهي النّقطة الجوهريّة التي أراد الإسلام الوصول إليها بالنّتيجة.
طرق عتق الرّقبة وتجفيف منابع الاسترقاق في الإسلام
قام الإسلام بتوسيع المخرج لعتق الرِّقاب وزيادة أسباب العتق، ومن ذلك:
- جعل الإسلام عتق الرّقاب من التقرّبات العظيمة إلى الله سبحانه وتعالى: قال النّبي عليه الصّلاة والسّلام: (مَن أَعتَقَ رقبة مسلمةً، أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النّار حتّى فرجَه بفرجه).
- جعل الإسلام العتق أحد مصارف الزّكاة الثّمانية، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
- جعل الإسلام عتق الرِّقاب كفارةً للطم العبد أو ضربه، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله يقول: (من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه).
- أوجب الإسلام العتق في بعض الكفّارات، ومنها كفارة القتل الخطأ ، قال تعالى: (مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، وكفّارة الظِّهار ، قال تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، وكفارة الحِنث في اليمين، قال تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).
- أجاز الإسلام الزّواج من الرّقيق، وهو من أهمّ وأوسع أسباب العتق، قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ).
- جعل القرار في يد المُسترقِّ نفسه؛ فشرع المُكاتبة مع المالك لكي يعتق نفسه بنفسه ويشتري حرّيته، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).