ما سبب نزول سورة الكوثر
لماذا نزلت سورة الكوثر؟
تعدّدت الآراء والروايات في سبب نُزول سورة الكوثر؛ وفيما يأتي ذكر هذه الأقوال والروايات:
- أنها نزلت في العاص بن وائل السَّهمي والذي رأى النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يوماً وتكلَّم معه على مرأى من قريش، فسألوا العاص مع من كان يتحدَّث، فقال إنه كان يتحدَّث مع الأبتر؛ وكان يقَصد بذلك الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ لأنَّ أبناءه الذُّكور القاسم وإبراهيم قد توفَّاهم الله -تعالى- ولم يبقَ له ذريَّةً من الذُّكور، فقصد بذلك أنَّه لن يكون له ذِكر بعد ذلك، وسينقطع ذِكره بعدم وُجود أولادٍ ذُكور له، فأنزل الله -تعالى- سُورة الكوثر ردَّاً على زعمه الباطل في حقِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
- ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (بيْنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ يَومٍ بيْنَ أظْهُرِنَا إذْ أغْفَى إغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: ما أضْحَكَكَ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ* إنَّ شَانِئَكَ هو الأَبْتَرُ}).
- ما رواه ابن عباس -رضي الله عنه- في شأن نزول هذه السُّورة أنّه: (لما قدم كعبُ بنُ الأشرفِ مكةَ؛ أتوْهُ فقالوا: نحنُ أهلُ السقايةِ والسدانةِ، وأنت سيدُ أهلِ يثربَ، فنحنُ خيرٌ أم هذا الصنيبيرُ المنبترُ من قومِه يزعمُ أنَّهُ خيرٌ منا؟ فقال: أنتم خيرٌ منه، فنزلتْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)، فنزلت السُّورة ردَّاً على مزاعم كعب بن الأشرف الذي ادَّعى أنَّ قريشاً خيرٌ من النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
وللجمع بين هذا الآراء ومعرفة الرَّاجح منها، قام العلماء في البحث عن نوع سورة الكوثر هل هي مكِّية أم مدنيَّة؛ فهي عند الجمهور سورةٌ مكيَّة، بينما قال الحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة إنَّ سورة الكوثر من السُّور المدنيَّة، ودليلهم حديث أنس المُتقدِّم ذكره؛ حيث إنَّ أنس أسلم في بداية الهجرة، وقد ذكر في حديثه: "أُنزلت علي آنفاً سورة"، وكلمة آنفاً تدلُّ على الزَّمن القريب، ممَّا يعني أنَّ السُّورة نزلت في المدينة.
ويُمكن الجمع بين حديث أنس وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ بأنَّ الحادثة التي رواها ابن عباس والتي وقعت بين كعب بن الأشرف وبين قريشٍ في مكَّة هي سببُ نزول السُّورة، ولكن في أثناء هذه الواقعة كان النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد هاجر إلى المدينة؛ فكانت الواقعة التي تُعدُّ سبباً في نزول السُّورة موقعها في مكَّة كما رواها ابن عباس -رضي الله عنه-، بينما كان نُزول السُّورة على الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في المدينة كما رَوى أنس -رضي الله عنه-.
والهدف من السُّورة مُواساة النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعد استضعاف قريشٍ له وشماتتُهم فيه؛ بسبب موت أبنائه، والرَّد عليهم أنَّ ذلك لن يُضعف منزلته أو ذِكره بين النَّاس؛ بل إنَّ مُبغضيه هم الذين سينقطع ذِكرهم.
التعريف بسورة الكوثر
أُطلق على سورة الكوثر هذا الاسم بسبب ذكر الكَوثر فيها، كما يُطلق عليها اسمٌ آخر ألا وهو "سورة النَّحر"، وتُعدُّ سورة الكوثر أقصر سورة في القرآن الكريم؛ حيث إنَّ عدد آياتها ثلاثٌ بلا خلاف، وعدد كلماتها عشرة، وعدد حُروفها اثنان وأربعون حرفاً، ولا يُوجد في كلِّ القرآن الكريم سورة عدد آياتها أقلُّ من ثلاث، وآياتها هي قول الله -تعالى-: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)،
وتُعدُّ سورة الكوثر من السُّور التي بشَّر الله -تعالى- بها رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ حيث بشَّره بالخير الكثير والعطاء الجزيل الذي سيكون من نَصيبه في الآخرة، وبالذِّكر الخالد له في الدُّنيا.
وقد نزلت سُورة الكوثر بعد سُورة العَاديات، أمّا في كونها سورةٌ مدنيَّةٌ أم مكِّيَّةٌ خلافٌ؛ فهي مكِّيَّة بحسب الجُمهور، ومدنيَّة بحسب قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة كما أسلفنا سابقاً، وتُعدُّ سورة الكوثر من السُّور المُحكَمات؛ أي ليس فيها ناسخٌ ولا منسوخٌ، بل جاءت كلُّها مُحكَمةً.
وقد ورد في فضل سورة الكوثر أحاديث ضعيفة تدلُّ على أنَّ من يَقرأها يُسقيه الله -تعالى- من أنهار الجنَّة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كلِّ قُربان قرَّبه العِباد في يوم النَّحر، ولكنَّ هذه الأحاديث فيها مَقال؛ أي ضَعْف.
علاقة سورة الكوثر بما قبلها
فيما يتعلَّق بعلاقة سورة الكوثر بما يَسبقها من السُّور ألا وهي سُورة الماعون؛ فعلاقتها بها المقابلة؛ حيث إنَّ سُورة المَاعون ذكرت أوصاف المُنافقين، وبيّنت فيها أربعة أوصاف: البُخل، وترك الصَّلاة، والرِّياء، ومنع الزَّكاة، فجاءت سُورة الكوثر تُقابل هذا السُّورة وما بها من صفات؛ حيث ذكر الله -تعالى- فيها الخير الكثير والعطاء الكبير في مُقابلة البُخل.
وفي مقابلة ترك الصَّلاة في سُورة المَاعون جاء الأمر بالصَّلاة والحثُّ عليها في سورة الكوثر، وفي مُقابلة الرِّياء الوارد في سُورة المَاعون حثَّ الله -تعالى- على الإخلاص في سُورة الكوثر من خلال توجيه الأعمال له وحده فقط، وأخيراً في مقابلة منع الزَّكاة ومنع أعمال الخير فقد جاء الأمر بالنَّحر وتوزيع الأضاحي والتَّصدُّق بها على الفقراء في سورة الكوثر، فكان فيها حثَّاً على العطاء وعلى أعمال الخير.
مواضيع سورة الكوثر وغرضها
تضمَّنت سورة الكوثر ذِكراً لنعم الله -تعالى- على نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وهي نعمٌ كثيرةٌ وعطايا كبيرةٌ؛ منها ما هو متعلِّقٌ في الدُّنيا؛ مثل النُّبوَّة والرِّسالة وتَشريف الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- واختصاصه بهما دون غيره، ومنها ما هو متعلِّقٌّ في الآخرة؛ مثل الكوثر، وهو الخير الكثير، وأمر الله -تعالى- فيها عبده محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالصَّلاة والصَّدقة؛ شُكراً له على ما أنعم وتفضَّل به عليه، كما بشَّره بأنَّ النَّصر ورِفعة الشَّأن وعُلوَّ المنزلة سيكون من حَليفه، وأنَّ الضَّعف والخذلان وانقطاع الأثر والذِّكر سيكون من نصيب أعدائه،
فكان محور السُّورة بذلك يتضمَّن أمران: التَّذكير بالنِّعم والامتنان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والأمر بشكره هذه النِّعَم من صلاةٍ ونحرٍ وصدقةٍ، ومن ثمَّ الإخبار بهلاك الأعداء وزوال ذكرهم.
وتَهدف سورة الكوثر إلى إعادة ترتيب الأولويات في ذهن المسلم وحياته، وتصحيحِ المفاهيم لديه؛ وذلك من خلال بيان أنَّ أمر الدِّين مقدَّمٌ على أمر الدُّنيا، حيث إنَّ الله -تعالى- أعطى لنبيِّه محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الآخرة ما هو أعظم شأناً وأهمُّ من كلِّ أمور الدُّنيا التي يتضمَّن المال والبَنون، فبالرّغم من فَقده للذُّريَّة الذُّكور إلَّا أنَّ الله -تعالى- أعطاه ما هو خيرٌ من ذلك، وبيَّن الله -تعالى- أنَّ قريشاً كان رأس مالها كلُّه المفاخرة بأمور الدُّنيا من مالٍ وبنين.
وأمَّا المسلم فأُفقه واسع ونظرته للحياة شاملة، فلا يَقتصر الخير لديه على أمور الدُّنيا، وإن حُرِمَ منها شيئاً عَلِم أنَّ العِوَض الأفضل سيكون له في الآخرة، وبسبب هذا الخير الكبير الذي أعطاه الله -تعالى- للنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أمره بشكر هذه النِّعم بالصَّلاة، والنَّحر، والتَّصدق على الفقراء.
خلاصة المقال: تناول المقال أسباب نزول سورة الكوثر، والتعريف بهذه السورة الكريمة، مع شرح عام لمحور السورة وهدفها، وعلاقة السورة بما قبلها.