ما الحكمة من اخفاء ليلة القدر
الحكمة من إخفاء ليلة القدر
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ)، ولا يُمكن الجزم بأنّ الليلة الفلانية في هذه العشر هي ليلة القدر ، وقد أخفاها الله -عزّ وجلّ- عن عباده للعديد من الحِكم والأسباب، وفيما يأتي ذكر أهمّها:
تعظيماً لكافة الليالي في النفس
قال الرّازي في تفسيره إن الحكمة من إخفاء ليلة القدر عن الناس حتى يُعظّموا جميع ليالي العشر الأواخر في نفوسهم، فقد أخفى الله -سبحانه- اسمه الأعظم حتى يُعظّم المسلم كلّ أسمائه، وأخفى تحديد ساعة الإجابة في يوم الجمعة حتى يُعظّم العبد جميع ساعات هذا اليوم المبارك بالدعاء.
كما أخفى الله -عزّ وجلّ- الصلاة الوسطى حتى يُعظم المسلم كل الصلوات، وأخفى موعد الموت لكي يخاف المكلّف ويُعظّم أمر حياته، فيستثمرها فيما يُرضي الله، وأخفى قبول التوبة ليُعظّم المرء أمرها ويبقى ثابتاً عليها، وهكذا كان إخفاء موعد ليلة القدر حتى يكون تعظيمها في النفس أبلغ وأشدّ تأثيراً.
اجتهاداً في تحصيل أجرها
لعلّ أحد أهمّ الأسباب في عدم معرفة موعد ليلة القدر هو هذا السبب، وهو مختلفٌ عن سابقه، إذْ إن الاجتهاد في تحصيل أجر هذه الليلة ناتجٌ عن تعظيم الليالي الأواخر كلّها في النّفس، وهنا تظهر قوّة الإيمان، ويميز المؤمن القوي عن الضعيف، ويتكشّف سعي العباد وتسابقهم في التقرّب إلى خالقهم -سبحانه-.
ولو كانت ليلة القدر معروفة فربّما اجتهد العباد فيها وعملوا الطاعات والعبادات فيها قدر الإمكان ثمّ تكاسلوا عن غيرها وفترت همّتهم فيها، فينقص أجرهم بسبب ذلك، لِذا فإنّ إخفاءها سببٌ للمداومة على الطاعة والعبادة، والمثابرة فيها، وعدم الاقتصار على التعبّد في ليلة واحدة.
رحمةً من الله في عباده
ذكر الرازي في تفسيره أنّ وراء إخفاء هذه الليلة رحمات عظيمة، فيُبيّن أنّ وقوع العبد في الذنب وهو يعلم أنّه في ليلة عظيمة سببٌ لمضاعفة الإثم له، فيقول: "فكأنه تعالى يقول: إذا علمتَ ليلة القدر؛ فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب".
أهمية الاجتهاد في تحصيل ليلة القدر
يدلّ ما سبق من الحِكم على أهميّة استغلال العشر الأواخر في العبادة قدر الإمكان، فلعظمة هذه الليالي كان يؤدي النبيّ قيام الليل ، ويجتهد بالعبادة فيها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ).
لِذا على المسلم العاقل أن يجتهد في العبادة في شهر رمضان المبارك عامّة، وفي العشر الأواخر خاصة، ولا ينشغل بما أخفاه الله عنّا، ويكون ذلك بأن يعزم النيّة على العبادة ويُخلصها لله وحده، ويفرّغ نفسه لهذه الليالي، ويتعاهدها جميعاً دون أن يشتغل بالبحث عن تحديد الليلة وعلاماتها.
بل إنّ العلامات التي صحّت في الأحاديث تظهر بعد انقضاء الليلة، ويُخشى على مَن فعل ذلك وظهر له أنّ ليلة القدر قد انقضت بحسب زعمه أن تفتر همّته في ليالٍ أخرى، فتضيع عليه الأجور العظيمة، ويُحرم من الخير الكثير.