أبو الطيب المتنبي الشاعر العباسي
من هو أبو الطيب المتنبي؟
المتنبي هو شاعرٌ وحكيمٌ عربيٌّ شهيرٌ، عُرف بشخصيته المميزة وما كان يكتنفها من غموض، وشعر المتنبي حيّر الناس، واستعصى عليهم فهم مقاصده، وهي الأسباب التي دعت ابن رشيق ليلقِّبه ببمالئ الدنيا وشاغل الناس، والجدير بالذكر أنّ شاعراً لم يحظَ شعره بما حظي به شعر المتنبي من اهتمامٍ وعنايةٍ، إذ قام بشرحه أفذاذ اللغة وعلماؤها، ومنهم عالم النحو الكبير ابن جنّي، والشاعر أبوعلاء المعرّي، واللغويّ المعروف ابن سيّدة.
وقد ترك المتنبي وراءَه عدداً كبيراً من القصائد المتنوّعة، والتي بلغ عددها ثلاثمائة وستة وعشرون قصيدةً، وتعتبر هذه القصائد سجلّاً تاريخياً لأحداث عصره في القرن الرابع الهجريّ، كما وتعتبر بمثابة سيرةً ذاتيةً للشاعر، حيث يستطيع القارئ من خلالها معرفة كيف جرت الحكمة على لسانه وكيف تطورت، لا سيّما في قصائده الأخيرة قبل موته.
لماذا سمي المتنبي بهذا الاسم؟
تختَلفُ الأقوال في سبب تسمية المُتنبّي باسمه هذا، فقد قيل في ذلك الآتي:
- لُقِّب المتنبّي بهذا الّلقب لما قيل عنه من ادّعاء النبّوة في شبابه، وقد لقيَ عِقاب ادّعائه من والي حمص فسُجِن؛ إلّا أنّ هذه الرواية مُلفّقة لا صحّة لها، وقد وُضعت بعد زمنٍ من وفاة المتنبّي بحسب الأديب المصري أبو فهرٍ محمود محمّد شاكر، الذي تتبع روايات النبوة كلها.
- لُقِّب المتنبّي بهذا الّلقب لما وردَ عنه من ورعٍ في خُلقه، فقد كان آخذاً نفسه بالجدّ ومُنصرفاً للعلم مبتعداً عن الفواحش، وقد حظيَ بمنزلةٍ عظيمة عند عُلماء الأدب واللغة والنحو؛ أمثال الربعي وابن جني وأبي علي الفارسي، وقد كان مُكثراً من ذِكر الأنبياء في شعره، مُشبِّها نفسه بهم، ومُقارناً أخلاقَ من يمدحهم بأخلاقهم، ومن ذلك قوله عن نفسه:
مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ
- كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ
أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـه
- غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ
- وردَ عن أبي علاءٍ المعرّي قوله في كتابه معجز أحمد أنّ المُتنبّي لُقّب بهذا اللقب نسبة إلى النَبْوَة، ومعناها المكانُ المرتفع؛ إشارةً لرفعة شِعره وعُلوّه لا إشارةً لادّعائه النبوّة.
حياة المتنبي
كانت حياة المتنبي زاخرة بالمحطات والمراحل التي صاغت تجربته الأدبية، وفيما يلي أهم محطات حياته.
مولد أبي الطيب المتنبي ونسبه
وُلد المتنبي في الكوفة سنة ثلاث وثلاثمائةً في منطقةٍ تُسمى كِندة، وقد اختلف المؤرخون في نسبه، فمنهم من نسبه إلى قبيلة كندة وهي إحدى أشهر قبائل العرب، ومنهم من نسبه إلى حيّ كِندة في الكوفة مكان ولادته، وأنكروا نسبه إلى قبيلة كِندة، كما واختلف المؤرخون أيضاً في اسم والده، فمنهم من قال أنّ اسم المتنبي هو أحمد بن الحسين بن مرّة بن عبد الجبار الجعفي، ومنهم من قال أن اسمه أحمد بن محمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي.
وأخبر آخرون أن اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي، وقال البعض أن والده كان شيخاً يسمى عبدان، ولم يأتِ المتنبي على ذكر والده في ديوانه أبداً، فلم يمدحه أو يفتخر به، ولم يَرْثه حين مات، حتى يخالُ البعض أنّه لا يعرفه، ولم يستطع المؤرخون معرفة سبب تجاهل المتنبي لذكر والده في شعره، فهل كان السبب عدم معرفته له؟ أم أنّ أباه كان رجلاً بسيطاً فلم يكن له قيمةً تُذكر؟
أمّا أمّه فلا يُعرف عنها اسمها ولا أصلها ولا من أي البلاد هي، إلا أنّه من المعروف أنّه بعد موتها كفلته أمها التي هي جدّته، وعطفت عليه وأحبته حباً كبيراً، وربته إلى أن اشتد عوده وأصبح رجلاً، ولم يُعرف اسمها أيضاً ولا اسم أبيها، لكنّ بعض الرواة ذكروا أنّها كانت من الكوفة وأنها تُنسب إلى بني همدان، وأنّها كانت امرأةً صالحةً، كما أنّ المتنبي لم يذكر عن نسبها شيئاً في ديوانه، لكنّه أشار إلى أنّ نسبها كان كريماً في هذا البيت الذي رثاها فيه حين ماتت فقال:
لَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ
- لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا
تعليم أبي الطيب المتنبي
التحق المتنبي بكُتَّابٍ كان فيه أبناء أشراف العلويين لتلقّي علوم اللغة العربية من شعر، ونحو، وبلاغة، وكان إضافةً إلى ذلك يقضي معظم أوقاته ملازماً للورّاقين لكي يقرأ في كتبهم فاكتسب معظم علمه من ذلك، وقد عُرف عن المتنبي حبه الشديد للعلم والأدب، كما أنّه تمتع منذ صغره بالذكاءِ وقوة الحفظٍ، وقد أخبر أحد الرواة قصةً طريفةً عن قوة حفظه في صباه، وهي أنّ أحد الوراقين أخبر أنّ أحدهم جاء ليبيع كتاباً يحوي نحو ثلاثين صفحة.
وكان المتنبي عنده حينها، فأخذ الكتاب من الرجل وصار يقلّب صفحاته ويطيل النظر فيها، فقال له الرجل: يا هذا لقد عطلتني عن بيعه، فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة فهذا بعيدٌ عليك، فقال المتنبي: فإن كنت حفظته فما لي عليك؟ قال الرجل: أعطكيه، فقال الوراق: فامسكت الكتاب أراجع صفحاته والغلام يتلو ما به حتى انتهى إلى آخره، ثم استلبه فجعله في كُمِّه ومضى لشأنه.
أقام المتنبي في البادية أكثر من سنتين عاشر فيهما الأعراب وأفاد منهم، حيث اكتسب الفصاحةَ وتمكّن من اللغة العربية بشكلٍ كبيرٍ، ومن الجدير بالذكر أنّ المتنبي كان كثير الرواية جيد النقد، وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطّلعين على غريبها وحوشيِِّها، كما أنّه لم يكتفِ بما حصل عليه من علمٍ من مصاحبة الأعراب في البادية، ومن ملازمة الورّاقين، ولا ممّا تعلّمه في كتّاب الكوفة، بل اتصل أيضاً بالعلماء وسافر إليهم وصاحبهم، وتعلّم على أيديهم، ومن هؤلاء العلماء: السكّري، ونفطّويه، وأبي بكر محمد بن دريد، وأبي القاسم عمر بن سيف البغداديّ، وأبي عمران موسى.
رحلات أبي الطيب المتنبي
رحلة المتنبي إلى بغداد
جاء في الصبح المنّبي أنّ أبا الطيب قال: "وردت في صبايا من الكوفة إلى بغداد"، إلّا أنّه لم يحدد تاريخ ذلك الرحيل، كما أنّ المؤرخين لم يذكروا هذا التاريخ أيضاً، لكن من الراجح أن يكون قد رحل إليها سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
رحلة المتنبي إلى بلاد الشام ولقائه بسيف الدولة
ذكر المعرّي في رسالة الغفران أنّ أبا الطيب كان قد رحل إلى بلاد الشام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ويقال إنّه كان في الثامنة عشرة من عمره آنذاك، وكان يرنو إلى المجد والعلياء، وهذا ما جعله يقيم في الشام وينظم شعر المديح، وكانت حينها قد قامت في المنطقة حروب عدّة بسبب الصراع على السلطة، انتهت بسيطرة سيف الدولة الحمدانيّ على حلب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وبقاء دمشق تحت سيطرة الإخشيدييّن.
ممّا دفع المتنبي حينها لمدح بعض الرجال الذين حاربوا في تلك المعارك أمثال: مساور بن محمد الرومي، والحسين ابن عبد الله بن طغج، وطاهر العلوي، إضافةً إلى مدحه لبعض رؤساء العرب الذين التقاهم في طريقه إلى الشام لا سيما حين أقام في منبج، أمثال سعيد عبد الله بن كلاب المنبجي، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المتنبي كان قد سُجن في الشام أيام شبابه- كما سبق الذكر- عند ذكر أسباب تسميته بالمتنبي، وقد أجمع الرُّواة على ذلك، كما أنّ المتنبي نفسّه أخبر عن ذلك في شعره، إلا أنّه كان قد اختلف مع رواة سيرته في أسباب السجن، إضافةً إلى اختلاف الرواة فيما بينهم.
تنقّل المتنبي في بلاد الشام مادحاً أمراءها، وكان في مدحه لهم يحثّهم على التصدي لأعداء العرب المتربّصين بالدولة من الخارج والداخل، لا سيّما الروم الذين كانوا يشنّون الغارات الحربية على الجيوش العربية، فأقام المتنبي عند بدر بن عمار والي طبريّا فترةً من الزمن امتدت من سنة 328هـ إلى أوائل سنة 333هـ، ثم اتّصل بعد ذلك بأبي العشائر الحمدانيّ والي أنطاكية، والذي يتبع للأمير سيف الدولة الحمدانيّ، ومنه اتصل بسيف الدولة الحمداني.
فشعر المتنبي حينها أنّه عثر على ضالّته، إذ وجد في سيف الدولة صفات القائد التي كان يَنشُدها في الحاكم العربيّ، فقد كان سيف الدولة فارساً هُماماً، وكان أكثر بني حمدان فِطنةً وذكاءً، وحباً وإخلاصاً للعرب، وغيرةً على دينهم، فكان يسعى إلى توحيد العرب وإعادة مجدهم السليب وسلطتهم المُنتزعة، وكان أثناء ذلك يتصدّى لهجمات الروم المتكررة على العرب، فوضع المتنبي آماله في استعادة عزّة العرب بين يديه، ونشأت بين الشاعر والأميرعلاقة ودٍ ومحبةٍ قلّ مثيلها، فعاش المتنبي في كنف سيف الدولة أزهى أيام حياته، ونظم فيه الشعر الذي خلّد ذكره على مر العصور.
أقام المتنبي عند سيف الدولة تسع سنين انقطع فيها لمدحه، وكان أول ما قاله في مدحه في شهر جمادى الأولى سنة 373هـ، حيث مدحه بقصيدةٍ ميميةٍ مطلعها:
وَفاؤكُما كالرَّبْع أشْجاهُ طاسمه
- بأنْ تُسعِدا والدّمْعُ أشفاهُ ساجِمُهْ
وكانت آخر مرةٍ أنشده مادحاً في سنة 345هـ، في قصيدةٍ ميميةٍ مطلعها:
عُقْبَى اليَمينِ على عُقبَى الوَغَى ندمُ
- ماذا يزيدُكَ في إقدامِكَ القَسَمُ
كما أنشده أيضاً في نفس العام مودّعاً إيّاه في قصيدةٍ استهلّها قائلاً:
أيَا رَامِياً يُصْمي فُؤادَ مَرَامِهِ
- تُرَبّي عِداهُ رِيشَهَا لسِهامِهِ
كانت الفترة التي مكثها المتنبي إلى جانب سيف الدولة أكثر فترات حياته عطاءً، فقد نظم في سيف الدولة أكثرمن ثمانين قصيدةٍ ومقطوعةٍ، كانت من أجود وأروع شعره، بل تستحق أن يقال عنها إنّها من أجمل ما نظم العرب، وقد تنّوع شعر أبي الطيب في تلك الفترة مع تنوع أحداث حياة سيف الدولة، فقد كان شعره خلال تلك السنوات يدور في فلَكه رغم تنوّع فنونه، فحين كان الأمير يحارب كان المتنبي يمدحه ويصف بطولاته في المعارك سواء كان منتصراً أم مهزوماً.
وحين كانت تثور عليه الرّعية ويعيدها إلى طاعته بحنكته، كان المتنبي يمدحه معجباً بأُسلوب تعامله مع رعيته، بالإضافة إلى ما كان ينظمه من رثاء عند وفاة أحد خاصته، ولا يخلو الأمر من أشعار عتاب واستعطاف كان ينظمهما حين يشي بينه وبين الأمير الوشاة ليعيد العلاقة بينهما إلى صفوها، ولم يتورّع المتنبي عن هجاء حسَّاده وخصومه عند الحاجة، وكان هذا إلى جانب اهتمامه في وصف جهاد المسلمين ضد الروم، حيث أبدع في هذا الفن القديم ونّماه وطوّره.
لم يدُم للمتنبي نعيم الود بينه وبين سيف الدولة، فقد أوغر الحُسّاد والوشاة صدر الأمير على الشاعر، فكان يدافع عن نفسه بالهجوم تارةً كقوله في لاميته:
أفي كلّ يوْمٍ تحتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ
- ضَعيفٌ يُقاويني قَصِيرٌ يُطاوِلُ
لِساني بنُطْقي صامِتٌ عنهُ عادِلٌ
- وَقَلبي بصَمتي ضاحِكٌ منهُ هازِلُ
وبالاستعطاف تارةً أخرى كقوله في داليته الشهيرة:
أزِلْ حَسَدَ الحُسّادِ عَنّي بكَبتِهمْ
- فأنتَ الذي صَيّرْتَهُمْ ليَ حُسّدَا
إذا شَدّ زَنْدي حُسنُ رَأيكَ فيهِمُ
- ضرَبْتُ بسَيفٍ يَقطَعُ الهَام مُغمَدَا
وبالافتخار بنفسه مرات عدة كقوله:
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي
- إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّراً
- وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنّمَا
- بشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَّدَا
وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني
- أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى
وكان افتخاره بنفسه وازدراؤه لخصومه يزيدهم بغضاً به وحسداً له، فيزيدون كيّداً ووشايةً للإيقاع بينه وبين الأمير، إلى أن نجحت مساعيهم في ذلك مرّة فغضب منه فيها سيف الدولة وجافاه، فأنشد المتنبي قصيدة يعاتبه بها وكان مطلعها:
وَاحَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ
- وَمَنْ بجِسْمي وَقلبي عِندَهُ سَقَمُ
ثم ندم واعتذر منه بقصيدة أخرى قال في مقدمتها:
ألا ما لسَيفِ الدّوْلَةِ اليَوْمَ عَاتِبَا
- فَداهُ الوَرَى أمضَى السّيُوفِ مَضَارِبَا
إلى قوله:
وَإنْ كانَ ذَنْبي كلَّ ذَنْبٍ فإنّهُ
- مَحا الذّنْبَ كلَّ المَحوِ مَن جاءَ تائِبَا
فعفا عنه الأمير، وهدأت الأحوال بينه وبين خصومه فترةً من الزمن ليست بطويلةٍ ما لبث أن عاد بينهما بعدها الكَدَر من جديد، لا سيما بعد أن تعرّض المتنبي للإهانة في مجلس سيف الدولة من النحوي ابن خالوّيه أثناء مناظرةٍ بينهما، حيث شج الأول رأس المتنبّي بمفتاح كان في يده أثناءها، فخرج المتنبي من مجلس الأمير غاضباً يجر أذيال الخيبة، وضاق به المقام في حلب، فعزم على الرحيل إلى مملكة الإخشيديين.
رحلة المتنبي إلى مصر ولقائه بكافور
غادر أبو الطيب حلب سنة 346هـ وهو كاره لذلك، فاتّجه في البداية إلى دمشق، ثم شاءت الأقدار أن يذهب إلى مصر حيث استدعاه كافور الإخشيدي، وحين وصل إلى مصر كان مجروح الفؤاد، مكسور الخاطر، فأقام إلى جوار كافور خمس سنواتٍ مدحه خلالها بعدة قصائد ليس حباً وإعجاباً، إنما أملاً في تحقيق ما كان يصبو إليه من رفعة وعُلّو شأن، وكان كافور يعرف ذلك جيداً ويعرف أنّ المتنبي لم يَكنْ يُضمر له المحبة والود، فخلى به ولم يحقق له شيئاً من أمانيه، بل ضيّق عليه وعاداهُ، وزاده فوق همّه همّاً، فكَره الشاعر الإقامة في مصر، وبعد أنّ مدح كافور عاد وهجاه، وقد سميت قصائده في مدح كافور وهجائه في تلك الفترة بالكافوريّات، وقد كان لمحنة المتنبي ومعاناته أثناء وجوده في مصر أكبر الأثر في شعره، حيث كان مختلفاً عن كل شعره السابق، إذ اتّسم شعره في تلك السنوات بمهارات عديدةٍ، وقد وضع فيه خلاصة تجارب حياته كلّها.
رحلة المتنبي للقاء عضد الدولة وابن العميد
توجّه المتنبي إلى العراق بعد خيبة أمله عند كافور حيث كان يتنقل بين الكوفة وبغداد، ثم توجه إلى أرجان قاصداً أبي الفضل ابن العميد وزير عضد الدولة، فمكث عنده فترةً من الزمن مدحه فيها بمجموعةٍ من القصائد سميت بالعميديات، وأثناء وجوده في أرجان أرسل عضد الدولة بن بوّيه يدعوه للقدوم إليه، فلّبى المتنبي الدعوة، ووجد عند السلّطان الحفاوة والتكريم، فعادت للشاعر حريّته التي افتقدها في مصر، وملكته الشعرية وآماله وطموحاته، ومكث في ضيافة عضد الدولة ثلاثة أشهرٍ مدحه خلالها في ست قصائد غاية في الروعةِ سميت بالعضديات، لكن المتنبي رغب بالرحيل والعودة إلى العراق لسببٍ غير معروف، وعلى إثر ذلك ودّع ابن بويه بالقصيدة التي استهلها قائلاً:
فِدًى لكَ مَن يُقَصّرُ عَن مَداكا
- فَلا مَلِكٌ إذَنْ إلاّ فَدَاكَا
وفاة أبي الطيب المتنبي
أفِلت شمس المتنبي وهو في قمة عطائه، فقد مات في الخمسين من عمره مقتولاً على يد شخصٍ يسمى فاتك الأسدي، وهو خال ضبّة الأسدي الذي هجاه المتنبّي في إحدى قصائده، وقد حدث ذلك في طريق عودته من شيراز إلى بغداد، إذ اعترض فاتك طريقه ومعه جماعةً من أصحابه في منطقةٍ واقعة غرب بغداد تُسمى النعمانية، فيما لم يكن مع المتنبي عدداً مكافئاً لرجال فاتك، فتقاتل الجمعان، فقُتل مُحسد ابن المتنبي، وهمّ المتنبي حينها بالهروب، إلّا أن غلامه استوقفه قائلاً: ألست القائل الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعرفني؟ فردّ عليه المتنبي قائلاً: قتلتني قتلك الله، ورجع وقاتل حتى قُتل، وتجدر الإشارة إلى وجود روايات متعددة حول مقتل المتنبي ومََن هو وراء ذلك، وما الأسباب التي أدّت إلى مقتله، ومن الذي دلّ أعداءه على مكانه.
مميزات شعر المتنبي
اتّصف أبو الطيب المتنبي بكبريائه، وشجاعته، وطموحه، هذا فضلاً عن اعتزازه بعروبته في أبياته الشعرية، والافتخار بنفسه، وتُعتبر أفضل أشعاره تلك التي تحدّثت عن الحكمة، وفلسفة الحياة، ووصف المعارك، إذ تميّزت بالصياغة القوية والمحكمة، ويجدر بالذكر أنَّ المتنبي مفخرة للأدب العربي؛ فهو شاعر غزير الإنتاج الشعريّ، وصاحب الأمثال السائرة، والحكم البليغة، والمعاني المبتكرة، ولقد ساعده التنقّل بين الأمراء والملوك على تطوير موهبته الشعرية، حيث مدحهم في معظم أشعاره.
لم يحظَ شاعرٌ من شعراء العربيّة بمثل ما حظي به أبو الطيّب المتنبّي من مكانةٍ عالية، فقد كان أعجوبةً أعجزت الشعراء من بعده؛ حيثُ بقي شعره إلى الآن يُقرأ كمصدر وحي للكثير من الأدباء والشُّعراء، كما تُرى فيه مظاهر القوّة والشاعرية القائمتين على التجربة الصادقة والحس، وقد أبدع المتنبّي في صياغة أبياته صياغةً تأسرُ الألباب وتشغل القلوب، فقد كان شاعراً ينتمي لشعراءِ المعاني؛ حيثُ كان موفِّقاً بين الشعر والحكمة، وقد أخرجَ الشّعر عن قيوده وحدوده وابتكرَ الطريقة الإبداعيّة فيه.؛
يُمثّل شعرُ المتنبّي صورةً حقيقةً وصادقةً عن حياته وأحداثها من اضطرابات وثوراتٍ، كما عرضَ ما كان في عصره من آراءٍ ومذاهب، بالإضافة إلى تمثيل شعره لحياته المُضطّربة؛ ففيه عبّر عن عقله وشجاعته، وطموحه وعلمه، ورضاه وسخطه، وتمثّلت القوة في شعره بقوّة ألفاظه وعباراته ومعانيه.
فلسفة أبي الطيب المتنبي في الحياة
لم يتّخذ المتنبي الفلسفة علماً يدرسه أو يختص به، ولم يكن ينتمي إلى عالم الفلاسفة، إنّما جاءت فلسفته نابعةً من تأملاته في الحياة، ومن تجاربه الشخصية التي اكتسبها من أسفاره، ومن ثقافته الواسعة، غير أنّ بعض النُقّاد يرون أنّ المتنبي تأثر بالفلسفة اليونانية، وأنّه اقتبس فلسفته من فلاسفة اليونان أمثال أرسطو، وقد اتّسمت فلسفة المتنبي بالقوة، فتجلّت هذه القوة في شعره في موضوعاتٍ مختلفة أهمها:
ذمّ الدهر والناس
نظر المتنبي للدّهر والنّاس نظرة المتشائم، فكان يرى أنّ الدّهر يقف حائلاً بينه وبين تحقيق آماله وطموحاته، وأنّه لا وجود لنعيمٌ دائمٌ ولا شقاءٌ دائمٌ، وأنّ الحياة يسرٌ وعسر، فقال معبراً عن ذلك:
صَحِبَ الناسُ قَبلَنا ذا الزَمانا
- وَعَناهُمْ مِن شَأنِهِ ما عَنانا
وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِنــهُ
- وَإِن سَرَّ بَعضُهُمْ أَحيانا
ورأى أنّ الناس سبب شقائه، لا سيما الملوك والأمراء الذين وعدوه وأخلفوا في وعودهم، ورجاهم وخيبوا رجاءه فقال ذاماً للناس:
ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغار
وإنْ كانتْ لهمْ جُثَثٌ ضِخامُ
أرانِبُ غَيرَ أنّهُمُ مُلُوكٌ
مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ نِيَامُ
فلسفة الموت والحياة
أقرَّ المتنبي أنّ الموت قدرٌ محتومٌ لا بدّ أن يطال كل إنسانٍ، وأنّه لا محالة آتٍ، كما فضّله على حياة الذل والمهانةِ، ورأى أنّ على الإنسان أن يعيش حياته عزيزاً قوياً طموحاً ساعياً نحو الرفعة والسّمو، وأنْ يحارب ويناضل في سبيل ذلك، وقد عاش المتنبي حياته كلها في ظلّ تلك الفلسفة، فظّل يصارع ويقاتل في سبيل تحقيق ما كان يصبو إليه من المجدِ والعلياء، ومن الأمثلة على تلك الفلسفة قوله:
إذا غامرتَ في شرفٍ مَرومٍ
- فلا تَقْنع بما دونَ النجومِ
وقال مؤكداً هذه الفلسفة في نونيته:
غيرَ أنّ الفتى يٌلاقي المَنايا
- كالحاتٍ ولا يُلاقي الهَوانا
وإذا لم يَكُن من الموتِ بُدٌّ
- فَمِن العجزِ أن تكونَ جبانا
فلسفة العلاقات الاجتماعية
كانت خيبات الأمل التي تلقاها المتنبي في حياته سبباً لافتقاده ثقته بالناس، فأوصله ذلك إلى مرحلة لم يعد يرى فيها من أخلاق الناس إلّا أقبحها، فيما رأى أنّ الناس متقلبين لا يثبتون على مواقفهم، ولا يراعون وداً ولا يصونون صديقاً، وقد عمّم حكمه هذا على كافة الناس، إذ ظهر هذا المعنى في قوله:
إذا ما النّاسُ جَرّبَهُمْ لَبِيبٌ
- فإنّي قَدْ أكَلْتُهُمُ وَذاقَا
فَلَمْ أرَ وُدّهُمْ إلاّ خِداعاً
- وَلم أرَ دينَهُمْ إلاّ نِفَاقَا
فلسفة الشجاعة والعقل
رغم إيمان المتنبي بأنّ الشجاعةِ هي أساس العُلّو والمجد، إلا أنّه كان يرى أنّ لا أهمية لها دون عقل، فالعقل في فلسفة المتنبي متمم للشجاعةِ، بل ومقدّم عليها، إذ إنّه يميّز الإنسان عن الحيوان، فقال في هذا المعنى:
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ
- هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ
- بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
الأغراض الشعرية في شعر المتنبي
تنوّعت الأغراض الشعرية في شعر المتنبي فقد نظم قصائد في المديح، والرثاء، والهجاء، والغزل، والعتاب والشكوى، والفخر، والوصف تفاوتت في عددها، وقد استحوذ المدح على معظم قصائد ديوانه إذ شكلت قصائد المدح أكثر من ثلث الديوان، وفيما يأتي شرحاً مفصلاً عن كل غرض من هذه الأغراض:
المديح
مدح أبو الطيب أكثر من خمسين شخصاً كان أكثرهم من الأمراء، والوُلاة، وقادة الجيوش، أمّا بعضهم الآخر فكان من أواسط الناس، لكنّ أكثر مدائحه كانت لسيف الدولة الحمدانيّ، و بدر بن عمار، وكافور الإخشيدي، وأبي العشائر، وعضد الدولة البويهي، وأبو شجاع فاتك، وقد اتّسمت معاني المدح عند المتنبي بالغزارة والقوة، فهو في مديحه يصف ممدوحيه جميعهم نفس الصفات، كالكرم والشجاعة والفراسة والعلم وغير ذلك من صفات العرب الأصيلة، كما تلمّس فيهم صورة الشخصية المثالية التي أحسّها في كيانه وتمنى وجودها في إنسانٍ في هذه الحياة، ولم يتخلّ المتنبي في مدائحه عن شخصيته ولا عن اعتزازه بنفسه، كما اتّسمت مدائحه أيضاً بالمبالغة وكثرة المحسنات البديعية، ومن الأمثلة على تلك المدائح هذه الأبيات التي قالها مادحاً كافور الإخشيدي:
يُدِلّ بمَعنىً وَاحِدٍ كُلُّ فَاخِرٍ
- وَقد جَمَعَ الرّحْمنُ فيكَ المَعَانِيَا
إذا كَسَبَ النّاسُ المَعَاليَ بالنّدَى
- فإنّكَ تُعطي في نَداكَ المَعَالِيَا
الهجاء
لم ينظم المتنبي الكثير من شعر الهجاء، فهو لم يهجُ إلّا ناقماً وكارهاً، ومنه هجاؤه لكافور الإخشيدي لأنّه خيّب أمله ورجاءه، وهجاؤه لابن كَيغَلَغ الذي رامَ المدح فما حصّل إلا الهجاء، حيث طلب من المتنبي أن يمدحه وعندما رفض ذلك حبسه ومنعه من الرحيل فهجاه انتقاماً لكرامته، وهجاؤه لضبّة من أجل إرضاء أصدقائه، وقد جاء هجاء المتنبي لاذعاً شنيعاً موجعاً ومحققاً لهدفه، كسخريته من كافور حينما قال:
وَتُعجِبُني رِجْلاكَ في النّعلِ، إنّني
- رَأيتُكَ ذا نَعْلٍ إذا كنتَ حَافِيَا
وَإنّكَ لا تَدْري ألَوْنُكَ أسْوَدٌ
- من الجهلِ أمْ قد صارَ أبيضَ صافِيَا
ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ
- يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ
ولا تَوَهّمْتُ أنّ النّاسَ قَدْ فُقِدوا
- وَأنّ مِثْلَ أبي البَيْضاءِ مَوْجودُ
الفخر
امتلأ شعر أبي الطيب بفخره بذاته، وشاع في جميع أغراض شعره، فلا يكاد يجد القارئ قصيدة من قصائده تخلو من ذلك، فهو يفتخر بنفسه في المدح، وفي الهجاء، وحتى في الرثاء، وقد وصل هذا الفخر حد الغرور، ويعود السبب لافتخار المتنبي بنفسه لشعوره بتفوقه على الناس، وذكائه وطموحه وشجاعته وصبره، بالإضافةً إلى ظروف حياته القاسية، وكثرة أعدائه ومنافسيه في مجالس الأمراء اللذين دفعاه للافتخار بنفسه، وما يأتي مثال على ذلك:
- قال مفتخر بطموحه وقوة إرادته:
أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني
- مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ
- وقال مفتخراً بشجاعته وفروسيته:
لأترُكَنّ وُجوهَ الخَيْلِ ساهِمَةً
- وَالحرْبُ أقوَمُ مِن ساقٍ على قَدَمِ
والطّعْنُ يُحرِقُها وَالزّجرُ يُقلِقُها
- حتى كأنّ بها ضَرْباً مِنَ اللَّمَمِ
- أمّا في تحمّله لنوائب الحياة وصموده أمام أحداث الدهر فقال:
ألدّهْرُ يَعْجَبُ من حَمْلي نَوَائِبَهُ
- وَصَبرِ نَفْسِي على أحْداثِهِ الحُطُمِ
- وقال مفتخراً بكرامته و رفضه للضيم:
وَآنَفُ مِنْ أخي لأبي وَأُمّي
- إذا مَا لم أجِدْهُ مِنَ الكِرامِ
- وقال في صباه في إعجابه بنفسه وتفوقه على الناس:
إنْ أكُنْ مُعجَباً فعُجبُ عَجيبٍ
- لمْ يَجدْ فَوقَ نَفْسِهِ من مَزيدِ
- وقال أيضًا:
فما أنا مِنْهُمُ بالعَيشِ فيهم
- ولكنْ مَعدِنُ الذّهَبِ الرَّغامُ
- أما شاعريته وعبقريته فقد قال مفتخراً بهما:
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي
- إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّراً
- وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنّمَا
- بشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَّدَا
الرثاء
رثى المتنبي عدداً من الأشخاص الذين كان منهم جدّته، وخاصة سيف الدولة، وأبي شجاع فاتك، ومحمد بن اسحق التنوخي، وقد انقسم الرثاء عند المتنبي إلى نوعين؛ نوعٌ مصطنعٌ يخلو من العاطفةِ لا تَفجُّع فيه، وهو النوع الذي نظمه مجاملةً، وفيه ذكرٌ لخصال الميت ومدحٌ لأهله، إضافة إلى ذكر الحكم في الموت والحياة، وذلك كقوله في مدح أخت سيف الدولة الصغرى:
وَلَذيذُ الحَيَاةِ أنْفَسُ في النّفْــسِ
:::وَأشهَى من أنْ يُمَلّ وَأحْلَى
وَإذا الشّيخُ قَالَ أُفٍّ فَمَا مَــلّ
:::حَيَاةً وَإنّمَا الضّعْفَ مَلاّ
آلَةُ العَيشِ صِحّةٌ وَشَبَابٌ
:::فإذا وَلّيَا عَنِ المَرْءِ وَلّى
ونوعٌ اتّسم بصدق العاطفة وشدة التأثر، وفيه يتفجع ويتألم على فقد الميت، كما في رثائه لجدّته، ورثائه لأخت سيف الدولة الكبرى، حيث قال:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ
- فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً
- شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
الغزل
يعتبر الغزل ثانوياً في شعر المتنبي، فهو لم يعتنِ به كثيراً وذلك لأنّه لم يكُن مولعاً بالنساء، ولم يكن محباً لدواعي اللهو والعبث؛ لانشغاله في طلب المجد والعلياء، وما نظم هذا الشاعر بعض ما نظمه في الغزل إلّا وفاءً للفن، حيث كان ينهج نهج الشعراء السابقين في بناء القصيدة إذ كانوا يستهلونها بالغزل، كما أنّه في بعض القصائد أهمل ذلك الجانب فاستهلها بالحكمة أو بالمدح، لهذا فقد اتسم غزله بالضعف، وجاء مليئاً بمعاني البطولة، ومن الجدير بالذكر أنّ المتنبي لم يرتبط بامرأةٍ معينةٍ ولم تشغفه إحداهن حباً، كما أنّه لم يخصص قصيدةً مستقلةً لغرض غزلي كغيره من شعراء الغزل العذريين أمثال جميل بثينة، والأبيات الآتية تعدّ مثالاً على شعر الغزل عند المتنبي:
كمْ قَتيلٍ كمَا قُتِلْتُ شَهيدِ
- لِبَياضِ الطُّلَى وَوَرْدِ الخُدودِ
وَعُيُونِ المَهَا وَلا كَعُيُونٍ
- فَتَكَتْ بالمُتَيَّمِ المَعْمُودِ
الوصف
أجاد المتنبي وأبدع في شعر الوصف، لا سيّما في وصفه لمعارك سيف الدولة الحمدانيّ ضدّ الروم في قصائدٍ تُعد ملحميات، فقد صور شاعرنا هذه المعارك بدقةٍ كبيرةٍ حتى يخال المتلقي أنّه في ساحة المعركة مع الفرسان، إضافة إلى وصف المعارك فقد وصف المتنبي الطبيعة أيضاً لكنه لم يكثر من ذلك، فوصف الأسد، وبحيرة طبريّا، وشُعب بوّان، وجبال لبنان، كما وصف المتنبي أيضاً نفسه وطموحه وعلوّ همته، ووصف أخلاق الناس وطبائعهم، وقد اتّسمت معاني الوصف عند المتنبي بالقوة والدقة وروعة التصوير، ومن الأمثلة على دقة وصف المعارك عنده وصفه لجيش الروم في الأبيات الآتية:
أتَوْكَ يَجُرّونَ الحَديدَ كَأَنَّما
- سَرَوْا بِجِيَادٍ ما لَهُنّ قَوَائِمُ
إذا بَرَقُوا لم تعْرفِ البِيض منهُمُ
- ثِيابُهُمُ من مِثْلِها وَالعَمَائِمُ
خميسٌ بشرْقِ الأرْضِ وَالغرْبِ زَحْفُهُ
- وَفي أُذُنِ الجَوْزَاءِ منهُ زَمَازِمُ
والأبيات الآتية تمثل وصف المتنبي للطبيعة، حيث وصف الأسد مبالِغاً فقال:
وردٌ إذا وردَ البحيرةَ شارباً
- وردَ الفراتَ زئيرهُ والنّيلا
الحكمة
برع المتنبي في شعر الحكمة، وأصبحت أبياته في الحكمة تسري مسرى المثل بين الناس، وتتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، وقد جاءت الحكمة منبثةً في معظم قصائده، فوردت في قصائد المدح والرثاء والغزل والهجاء وغير ذلك من الأغراض الشعرية، إذ يفتتح بها القصيدة أو ينشرها بين الأبيات، وقد يختتم بها القصيدة أحياناً، فيما قد يبني قصيدته عليها أحياناً أخرى، و حكم المتنبي هي خلاصة تجاربه الشخصية، وقد اتّسمت معانيها بالقوة والعظمة، فيما ظهر بها التشاؤم في بعض الأحيان، أمّا الموضوعات التي ارتبطت بها الحكمة عند المتنبي فهي موضوعات تمثِّل واقع الحياة مثل؛ العزة والكرامة، والمعاملة، وذم الدهر، وأخلاق الناس وطبائعهم.
الشعر الوجداني
تجلّى الشعر الوجداني عند المتنبي في قصيدته الميميّة التي نظمها وهو في مصر، حيث كان يائساً محطماً، شاعراً بخيبة الأمل، وبالشوق لصديقه سيف الدولة الحمداني الذي تركه مرغماً، فأقام بقرب كافور الإخشيدي وهو كارهٌ له، وحين مرض ما درى عنه ولا اهتم لأمره، فبثَّ حزنه وألمه في أبيات هذه القصيدة التي وصف فيها الحمى، والتي تُعتبر من أروع قصائده التي نظمها في مصر، وقد عدّها طه حسين من أروع ما قيل في الشعر العربي، وفيها قال:
أقَمْتُ بأرْضِ مِصرَ فَلا وَرَائي
- تَخُبُّ بيَ الرّكابُ وَلا أمَامي
وَمَلّنيَ الفِرَاشُ وَكانَ جَنبي
- يَمَلُّ لِقَاءَهُ في كُلّ عامِ
قَليلٌ عَائِدي سَقِمٌ فُؤادي
- كَثِيرٌ حَاسِدي صَعْبٌ مَرَامي
المرأة في شعر المتنبي
ذهب الناقد محمود شاكر أبو الفهر إلى أنّ المتنبي كان قد وقع في حب خولة الأخت الكبرى لسيف الدولة الحمدانيّ، إذ استدلّ على ذلك من قصيدته التي رثاها بها وهو في الكوفة بعد أن فارق سيف الدولة، فقارن بين ذلك الرثاء وبين رثائه لأختها الصغرى التي ماتت قبلها بثمان سنين، فوجد أنّ رثاء الشاعر لخولة جاء مختلفاً عن رثائه لأختها كل الاختلاف، فعاطفة الشاعر في رثاء خولة عاطفة صادقةً انسكبت فيها الكلمات انسكاباً فتجلّت فيها مشاعر الحزن والألم والحرقة والشجن الذي ملأ قلبه ووجدانه، ما جعل المتنبي يتخلّى عن صلابته المعتادة، فكشف ذلك الحزن حبه المستور، وفضح ألم الفقد عشقة لخولة.