كيف وصل القرآن إلينا
كيفيّة وصول القرآن الكريم إلينا
وصول القرآن الكريم بلَفْظه
ميّز الله -تعالى- القرآن الكريم؛ بجَعْله خاتم الكُتب السماويّة ، وحِفْظه من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل، قال -تعالى-: (وَتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّميعُ العَليمُ)، وقد حُفِظ رَسماً ولَفظاً منذ نزوله على محمّدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى آخر الزمان؛ فقد تمّ نَقْله من عصرٍ إلى آخرٍ بالتواتُر، فلم يَرْد في أيّ عصرٍ من العصور الخِلاف في سورةٍ، أو آيةٍ، أو كلمةٍ من كلماته، فكان القرآن الكريم متواتراً باللفظ، وكيفيّة الأداء؛ أي كيفيّة النطق بالكلمة والحرف على الهيئة المَرويّة، ومن الجدير بالذكر أنّ من أهمّ أسباب حفظ القرآن الكريم لَفْظاً: قوّة الحِفظ والذاكرة، بالإضافة إلى الحَضّ على حِفظه في الصدور في كلّ عصرٍ.
تعريف التواتُر
يُعرَّف التواتُر بأنّه: نَقْل جمعٍ كبيرٍ من الناس عن جمعٍ آخرٍ يستحيل اتّفاقهم على الكذب، من أوّل السند إلى آخره، وقد وردت في القرآن الكريم العديد من الأدلّة التي تُبيّن تواتُره، منها: قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، والبلاغ العام المذكور في الآية السابقة لا يكون إلّا بالتواتُر، كما قال -تعالى-: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى)، وقال -عزّ وجلّ- أيضاً: (إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ)، ولا يتمّ حِفْظ القرآن الكريم إلّا بالتواتُر.
أدلّة تواتُر القرآن
يدلّ على تواتُر القرآن الكريم حِفْظه من قِبلِ عددٍ من كبار الصحابة -رضي الله عنهم-، كعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي موسى الأشعريّ، وأبيّ بن كعب، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم جميعاً-، وقد حفظوه في الصدور في عهد الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، وعرضوه عليه، كما حَفِظْه غيرهم من الصحابة، ومنهم: معاذ بن جبل، وأبو هريرة، وعبدالله بن عباس ، وعبدالله بن عمر -رضي الله عنهم جميعاً-، كما نُقِل القرآن الكريم حِفظاً عن الصحابة إلى أعدادٍ كبيرةٍ من التابعين، والذين يصعُب عدّهم أو حَصرهم، فعلى سبيل المثال كان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يُعلّم القرآن لِما يقرب من ألفٍ وستّمئة رجلٍ، وكان لكلّ عشرة رجالٍ مُقرِئٌ.
وممّا يُروى في ذلك أنّ عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- كان قد أمر رجلاً أن يقرأ بالترتيل حين سَمِعهُ يقرأ مُتعجِّلاً، فعن إبراهيم النخعيّ أنّه قال: "قرأ علقمة على عبد الله، فكأنه عَجِل، فقال: فداك أبي وأمي، رتّل، فإنّه زين القرآن"، وقد ذكر الإمام الذهبيّ -رحمه الله- واحداً وعشرين من التابعين القُرّاء، وجعلهم الطبقة الثالثة في الرواية عن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، مع الإشارة إلى أنّ الذهبيّ صعُب عليه حَصر العدد، كما كانت أعداد القُرّاء في ازديادٍ مُستمرٍّ كلّما امتدّ الإسلام، وفي زمن الإمام ابن الجزريّ -رحمه الله- بلغ عدد ترجمات القُرّاء أربعة آلافٍ، ممّا يدلّ أيضاً على أنّ عدد التلاميذ الحُفّاظ كبيرٌ مقابل عددّ القُرّاء، ويُستنتَج ممّا سبق أنّ التواتُر والصحّة من الأمور المقطوع بتحقُّقها في العصور جميعها، ومن الجدير بالذكر أنّ علماء المسلمين قد أجمعوا على تواتُر القرآن الكريم، رُوِيت في ذلك عدّة أقوالٍ، منها: ما ورد في تيسير التحرير: "والقرآن كلّه مُتواترٌ إجماعاً"، وما ورد في شرح التحرير: "أنّ جميع القرآن متواترٌ إجماعاً"، وقال الإمام القرطبيّ -رحمه الله-: "أنّه يعلم على القطع والبتات، أنّ قراءة القرآن تلقيناً متواترةً عن كافّة المشايخ، جيلاً فجيلاً، إلى العصر الكريم، إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-".
وصول القرآن الكريم برَسْمه
كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أحرص الناس على حِفْظ القرآن الكريم، والعناية بآياته، لا سيّما أنّه المُكلَّف الأوّل بتبليغه للأمّة، وممّا يدلّ على شدّة اهتمامه -عليه الصلاة والسلام- بالقرآن الكريم أمرُه للصحابة -رضي الله عنهم- بحِفْظ القرآن في صدورهم، ومن المواقف التي تُصوّر مقدار لهفة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- إلى تلقّي كلام ربّه -عزّ وجلّ- وحِفْظه سرعتُه في تحريك لسانه بما نزل عليه من الوحي ؛ رغبةً، واستعجالاً في حِفظه، فنهاه الله -تعالى- عن ذلك، وقال: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ*فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)، وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كلّما نزلت عليه آياتٌ من القرآن الكريم، يأمر كتّاب الوحي من الصحابة -رضي الله عنهم- بكتابتها، وينهاهم عن كتابة أيّ شيءٍ غير القرآن؛ حِرصاً منه على عدم اختلاط آيات القرآن الكريم بسُنّته، فقد رُوِي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال: (لا تَكْتُبُوا عَنِّي، ومَن كَتَبَ عَنِّي غيرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وحَدِّثُوا عَنِّي، ولا حَرَجَ)، كما كان -عليه الصلاة والسلام- يأمر كُتّاب الوحي بوَضع كلّ آيةٍ في مَوضعها، إلى أن اكتمل نزول الوحي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان يحثّ أصحابه -رضي الله عنهم-، ويُشجّعهم على حِفظ القرآن الكريم، وتلاوته، ومراجعة الحِفْظ، وتعاهُده؛ لئلّا يتفلّت منهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: (تَعاهَدُوا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها)، وقال: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ)، وقال أيضاً: (يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها)، وهكذا حَفِظ الصحابة -رضي الله عنهم- القرآن الكريم في عهد النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، ودوّنوه.
جَمْع القرآن في عهد أبي بكر الصدّيق
تولّى أبو بكر الصدِّيق -رضي الله عنه- خلافة المسلمين بعد وفاة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وكانت بعض قبائل العرب حديثة العهد بالإسلام قد ارتدّت عنه، فقرّر الصدّيق -رضي الله عنه- قتالهم، وخاضت الدولة الإسلامية حروباً طاحنةً مع جيوش الردّة، فخَشيَ عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- ضياع شيءٍ من القرآن الكريم؛ بسبب استشهاد الكثير من قُرّاء الصحابة في تلك المعارك، واقترح على الخليفة أبي بكرٍ جَمْعَ القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ، إلّا أنّ الصدّيق -رضي الله عنه- تردّد في بداية الأمر، وكان رَدّه: "كيف تفعلُ شيئاً لم يفعله رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-"، واستمرّ عمر -رضي الله عنه- بإقناعه في الأمر حتى شرح الله -تعالى- صدرَه، ثمّ كلّفَ زيداً بن ثابت -رضي الله عنه- بأمر الجَمْع، فأخذ يتتبّع القرآن الكريم، ويجمعه من صدور الرجال، وما كُتِب عليه، إلى أن جمعَه في مصحفٍ واحدٍ.
وتمّ حِفظ القرآن الكريم عند أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- إلى حين وفاته، ثمّ عند عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-، ثمّ عند أمّ المؤمنين حفصة -رضي الله عنها-، وتجدر الإشارة إلى أنّ سبب تردُّد أبي بكر -رضي الله عنه- في جَمْع القرآن في البداية؛ يرجع إلى خشيته من أن يبتدع أمراً في الدِّين، ثمّ شرح الله صدرَه، وفي الحقيقة فإنّ جَمع القرآن الكريم لم يكن بِدعةً، وإنّما كان اجتهاداً سائغاً، لا سيّما أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد أمر بكتابة القرآن، وإنّما كان جمعُ أبي بكرٍ للقرآن كتابةً للمكتوب، وقد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على استحسان ما قام به الصديق -رضي الله عنه-، كما قال عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكرٍ، إنّ أبا بكرٍ كان أوّل من جمع بين اللوحين".
جَمْع القرآن في عهد عثمان
وقع الجَمْع الثاني للقرآن الكريم في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفّان -رضي الله عنه-؛ ويرجع السبب الرئيسيّ فيه إلى وقوع الخلاف بين الناس في القراءات، وبالتحديد في حروف الأداء، ووجوه القراءة؛ وذلك بعد اتِّساع رُقعة الدولة الإسلاميّة، ودخول غير العرب في الإسلام، حتى كادت تقع الفتنة بين الناس، إذ جاء حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- إلى عثمان بن عفّان -رضي الله عنه- يُخبره عن حال المسلمين، فرأى أمير المؤمنين أن يجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، وذلك بعد أن استشار أعلام الصحابة -رضي الله عنهم-، وأصحاب الرأي، فنُسِخ القرآن الكريم في مصاحف، ووُزِّع على الأمصار، وجُمِعت الأمّة على مصحفٍ واحدٍ، وأُحرِقت باقي المصاحف.
أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (أنَّ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمَانِ، قَدِمَ علَى عُثْمَانَ وكانَ يُغَازِي أهْلَ الشَّأْمِ في فَتْحِ أرْمِينِيَةَ، وأَذْرَبِيجَانَ مع أهْلِ العِرَاقِ، فأفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ في القِرَاءَةِ، فَقالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أدْرِكْ هذِه الأُمَّةَ، قَبْلَ أنْ يَخْتَلِفُوا في الكِتَابِ اخْتِلَافَ اليَهُودِ والنَّصَارَى، فأرْسَلَ عُثْمَانُ إلى حَفْصَةَ: أنْ أرْسِلِي إلَيْنَا بالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا في المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْكِ، فأرْسَلَتْ بهَا حَفْصَةُ إلى عُثْمَانَ، فأمَرَ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيْرِ، وسَعِيدَ بنَ العَاصِ، وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا في المَصَاحِفِ، وقالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إذَا اخْتَلَفْتُمْ أنتُمْ وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ في شيءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بلِسَانِ قُرَيْشٍ، فإنَّما نَزَلَ بلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حتَّى إذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ في المَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إلى حَفْصَةَ، وأَرْسَلَ إلى كُلِّ أُفُقٍ بمُصْحَفٍ ممَّا نَسَخُوا، وأَمَرَ بما سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ في كُلِّ صَحِيفَةٍ أوْ مُصْحَفٍ، أنْ يُحْرَقَ).
عناية الأمّة بالقرآن الكريم
أنزل الله -تعالى- القرآن الكريم على خَاتم الأنبياء والمرسلين ؛ ليكون هدىً ونوراً للعالَمين؛ فمن آمن به نجا، ومن تمسّك به عَصَمه الله -تعالى- من الضلال والفِتَن، ومن حكم به عَدَل، وقد تعهّد الله -سبحانه- بحِفظ القرآن الكريم من التحريف، والنقص، والضياع، قال -عزّ وجلّ-: (إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ)، وحفظته أمّة الإسلام منذ عصر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فالتزموا بما نَزَل به من الأحكام والتشريعات، وعملوا بها، واعتنت به عنايةً حثيثةً؛ فمن علماء المسلمين من قضى عمره بالبحث في تفسير آياته، وألّفوا في هذا المجال آلاف المُجلَّدات والكُتب، ومنهم من تخصّص في البحث بالمتشابه والمُحكم من آياته، ومنهم من بحث في جَمْع القرآن الكريم ، وتدوينه، ومنهم من تخصّص في علوم القرآن الكريم، واستنباط الأحكام، كعِلْم الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والإعجاز، ومن أهل العلم من اعتنى بإعراب القرآن الكريم، ومنهم من اعتنى بما نزل فيه من القصص والحِكَم.
وبذلك فقد اعتنى المسلمون بالقرآن الكريم في العصور كلّها عناية شديدة، وممّا يدلّ على ذلك أيضاً تحريرهم للقراءات، والتفريق بين الشاذّ منها، والمُتواتر، بالإضافة إلى أنّهم وضعوا عدداً من القواعد التي لا تثبت القراءة إلّا بها، وهي: موافقة القراءة لوجه النحو، والإسناد المُتّصل في كلّ طبقةٍ، والاحتمال للرَّسم العثمانيّ، ومن مظاهر عناية المسلمين بكتاب الله -تعالى- أيضاً تلقّيه مُشافهةً كما تلقّاه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن جبريل -عليه السلام-، وقد اهتمّ العلماء في كلّ عصرٍ بدراسة المكّي والمدنيّ من الآيات، والتمييز بينها، وخلصوا إلى أنّ ما نزل قبل الهجرة يُعَدّ مكّياً، وما نزل بعدها يُعَدّ مدنيّاً، وبحثوا في ترتيب الآيات، وبيّنوا أنّه توقيفيٌّ، كما اهتمّوا بدراسة رَسم القرآن الكريم، وغيره من العلوم.