كيف كان الرسول يعامل الناس
كيف كان الرسول يعامل الناس
وصف الله -عزّ وجلّ- رسوله محمّد -صلى الله عليه وسلم-، فقال -سبحانه-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وما وصفه الله بذلك إلا لعظيم شأن مكارم الأخلاق في الإسلام وعلوّ منزلتها. وفي هذا المقال بيانٌ لأسلوب النبيّ القدوة في تعامله مع أهل بيته، وأصحابه، والأطفال، وحتى أعدائه.
تعامل النبي الكريم مع أهل بيته
كانت معاملة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مع أهل بيته جامعةً لحسن الخلق، فكان يلاطف الكبير والصغير، ويقوم بخدمة نفسه وأهل بيته، وكان -عليه الصلاة والسلام- يخيّط نعله ويرقّع ثوبه، ويتعامل مع زوجاته بقدر ما تملك كلٌّ منهم من الحكمة ورجاحة العقل، وربما داعبهنّ فسابقهنّ، كما كان يسابق عائشة -رضي الله عنها-، وإن قُدِّم له طعام فاشتهاه أكله، وإلا تركه دون أن يعيبه، وما كان ليغضب إلا إذا رأى حرمات الله تُنتهك، فلم يغضب لنفسه قطّ، وكان يحرص على مناداة كل زوجةٍ من زوجاته بأحبّ الأسماء إليها، فقد كان ينادي عائشة -رضي الله عنها- فيقول: (يا عائِشَ هذا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ)، وتروي لنا عائشة فتقول: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُقَبِّلُ إحْدَى نِسَائِهِ وَهو صَائِمٌ ثُمَّ تَضْحَكُ)، وإنّ مما يؤلّف بين الزوج والزوجة كما قال رسول الله: (وإنَّكَ مَهْما أنْفَقْتَ مِن نَفَقَةٍ، فإنَّها صَدَقَةٌ، حتَّى اللُّقْمَةُ الَّتي تَرْفَعُها إلى في امْرَأَتِكَ)، فهذا الفعل يزيد الوُدّ، ويعتبر أحد أبواب الصدقة .
ومما كان يتميّز به -عليه الصلاة والسلام- إظهار مشاعره لزوجاته وتعبيره عن مكنونات صدره من حبّه لهنّ، فقد وصف لعائشة حبّه لها كالعقدة في الحبل، وما زال يذكّرها ببقاء هذه العقدة على حالها، مما يدلّ على بقاء حبه لها، وكان رسول الله يجلس إلى زوجاته ويسمارهنّ ويستمع إليهنّ، ففي ذات مرّةٍ جلس إلى عائشة وسمع منها قصة عشر نساء من الجاهلية، يستمع إليها رسول الله والسرور يملأ قلبه، ولم تمنعه المسؤوليات الواقعة على عاتقه من مجالسة زوجاته ومؤانستهنّ في أي وقتٍ أردْن ذلك، فتروي عائشة -رضي الله عنها- وتقول: (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وهو جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِن قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِن ثَلَاثِينَ -أوْ أرْبَعِينَ- آيَةً قَامَ فَقَرَأَهَا وهو قَائِمٌ، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ سَجَدَ يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذلكَ، فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ نَظَرَ: فإنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وإنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ)، ولا يتعارض هذا الأمر مع ما يكون في ذلك الوقت من الاجتهاد في العبادات، لأن مجالسة الزوجة يعدّ أيضاً من العبادات .
ومن عظيم لطف رسول الله بزوجاته ما صنعه مع عائشة حين كان الأحباش يلعبون في المسجد بحرابهم، فتقول: (فَسَتَرَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا أنْظُرُ، فَما زِلْتُ أنْظُرُ حتَّى كُنْتُ أنَا أنْصَرِفُ)، وكان رسول الله يستشير زوجاته في أمورٍ تتعلّق بالأمة وليس فقط على مستوى الأسرة، فها هو في صلح الحديبية وحينما كان من شروط الصلح أن يعود وأصحابه دون أداء مناسك الحج؛ رفض الصحابة ذلك، فدخل على أمّ سلمة واستشارها، فأشارت عليه أن يخرج إليهم ولا يكلّم أحداً منهم، ويذْبح هَدْيه ثم يحلق رأسه، فإن رأوه يفعل ذلك فعلوا مثله، ففعل ما أشارته عليه، فما كان من الصحابة إلا أن أقدموا على الهدي ونحروها، وبدأوا يحلقون لبعضهم البعض، كما أوصى رسول الله بالمرأة حتى حال الإساءة منها، وقال: (واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا، فإنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا).
تعامل النبي الكريم مع أصحابه
عامل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه معاملةً طيّبة، ويظهر فيها الرفق والعفو عن المخطئ، وكان يشاورهم في العديد من الأمور، كما كان يعدهم بالنّصر ويقوّي عزائمهم، ويُظهر حبّه في تعامله معهم، ويصف كلّ منهم بوصفٍ يختلف عن الآخر، مما يزيد من الألفة والمحبّة بينه وبينهم، فقد وصف الزبير بن العوام بأنّه حواريّه، ووصف أبو بكر وعمر بن الخطاب بأنّهما وزيراه، وجعل حذيفة بن اليمان أمين سرّه، وعامر بن الجراح أمين الأمّة ، وكان يمازح أصحابه ويلاطفهم، ويشاركهم طعامه، فيروي جابر بن عبد الله أنّه كان جاساً في يومٍ من الأيام، فأتى النبيّ وأشار إليه أن يأتي معه، وأخذ بيده ذاهباً به إلى إحدى حجرات زوجاته، فدخل النبيّ وأذِن لجابر أن يدخل، فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- لأهله: (هلْ مِن غَدَاءٍ؟ فَقالوا: نَعَمْ، فَأُتِيَ بثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ، فَوُضِعْنَ علَى نَبِيٍّ، فأخَذَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قُرْصًا، فَوَضَعَهُ بيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ، فَوَضَعَهُ بيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ، فَكَسَرَهُ باثْنَيْنِ، فَجَعَلَ نِصْفَهُ بيْنَ يَدَيْهِ، وَنِصْفَهُ بيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ قالَ: هلْ مِن أُدُمٍ؟ قالوا: لا إلَّا شيءٌ مِن خَلٍّ، قالَ: هَاتُوهُ، فَنِعْمَ الأُدُمُ هُوَ).
ويشارك -عليه السلام- أصحابه حزنهم وفرحهم، ويراعي ظروفهم النفسيّة فيرفع من هممهم، ويحرص على أن يكون معهم، ويتألّم مما يتألّمون، ويعاني ما يعانون، ويحاول إسعادهم بكل ما يملك، ففي الخندق وحين كان الطعام لا يكفي لهم، لم يرضَ أن يأكل دون مشاركتهم لهم فيه، فنادى عليهم قائلاً: (يا أهْلَ الخَنْدَقِ، إنَّ جَابِرًا قدْ صَنَعَ سُورًا، فَحَيَّ هَلًا بهَلّكُمْ)، وحين كانت تهبط عزائمهم ويقعون في الحزن، فإنّ رسول الله يقدّم لهم الحلول العمليّة التي ترفع من همّتهم، ويذكّرهم بنصر الله لهم، وما ينتظرهم من أجر الصابرين في الآخرة، وتراه بينهم يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويلبس مما يلبسون، لا فرق بينه وبينهم.
تعامل النبي الكريم مع الأطفال
عامل رسول الله الأطفال برفقٍ ولينٍ، وكان عطوفاً حنوناً عليهم، وتجلّى ذلك من خلال معاملته مع ابنه إبراهيم، وحفيديه الحسن والحسين، ويصف أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذه المعاملة فيقول: (ما رَأَيْتُ أَحَدًا كانَ أَرْحَمَ بالعِيَالِ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: كانَ إبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا له في عَوَالِي المَدِينَةِ، فَكانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ معهُ، فَيَدْخُلُ البَيْتَ وإنَّه لَيُدَّخَنُ، وَكانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ)، ولم تكن أعمال النبيّ ومسؤوليّاته تشغله عن حقوق أبنائه من العطف والحنوّ، وقد وصف أنس بن مالك رسول الله بأنّه أفكه الناس مع الصبيان، ولعلّ أنساً كان قد أخذ من ذلك نصيباً كبيراً لملازمته لرسول الله منذ نعومة أظفاره، وكان رسول الله يقبّل الأطفال، ويحملهم ويضمّهم إلى صدره، فكان يحمل الحسن وأسامة بن زيد ويضمّهما ويدعو لهما، وكان يضع الحسن والحسين على ظهره، ويمشي بهما، ويصُفّ -عليه الصلاة والسلام- الأطفال ويجعلهم يتسابقون إليه، فيركضون إليه ويقعون عليه، فيأخذهم ويقبّلهم.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يتودّد إلى الأطفال بالهدية، فقد أهداه النجاشي حلقةً فيها خاتم ذهب، فدعا حفيدته أمامة بنت العاص ابنة زينب -رضي الله عنها-، فأعطاها إياها لتتحلّى بها، ومن تودّده لأنس -رضي الله عنه- أنّه كان يناديه بغير اسمه من باب الممازحة، فيقول الحبيب المصطفى: (يا ذا الأُذُنَيْنِ)، وكان يسأل أخاً صغيراً لأنس بن مالك، وكان له نغرٌ يلعب به، فلما مات قال له النبيّ مواسياً ومازحاً: (يا أبا عُميرُ، ما فعل النُّغَيرُ)، ويقول محمود بن الربيع -رضي الله عنه- وهو من صغار الصحابة: (عَقَلْتُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَجَّةً مَجَّها في وجْهِي وأنا ابنُ خَمْسِ سِنِينَ مِن دَلْوٍ).
وراعى رسول الله مشاعر الأطفال ومحدوديّة تفكيرهم، فإن قام للصلاة وكانت أمامة بنت أبي العاص معه؛ وضعها إلى جانبه إن أراد الركوع والسجود، ثم إذا قام أخذها، وكان رسول الله إذا سجد جاء الحسن والحسين يلعبان على ظهره، فيطيل السجود حتى يفرغان ويقومان، فلما سأله الصحابة عن ذلك أجاب أنّه أراد أن يقضيا حاجتهما في اللّعب، فهذان طفلان لا يميّزان بين وقت اللعب والجدّ، وفي يومٍ من الأيام وبينما رسول الله على المنبر يخطب بالناس، إذْ جاء الحسن فصعد إلى المنبر، فأخذه رسول الله وقال: (إن ابني هذا سَيَّدٌ، وإني لأرجو أن يُصْلِحَ اللهُ به بين فئتين مِن أمتي)، فلم ينهرْه النبيّ ولم ينهاه عن فعلته، وكما حرّم الإسلام الكذب على الكبار؛ فقد حرّمه على الصغار أيضاً، وسار رسول الله على هذا النهج، فلمّا دعت أم عبد الله بن عامر ابنها لتُعطيه شيئاً، وكان ذلك بوجود رسول الله، فسألها عمّا تريد أن تعطيه إياه، فقالت له إنها أرادت أن تعطيه تمراً، فأخبرها أنّها لو لم تعطِهِ ذلك لكانت كاذبة.
تعامل النبي الكريم مع أعدائه
حرص رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُرسل المسلمين إلى القبائل العربية من المشركين؛ كي يدعوهم إلى الإسلام، فقبيلة غفّار كانت من أقوى القبائل الموجودة في المدينة، وقد أرسل إليهم رسول الله أبا ذرٍّ الغفاري كي يدعوهم إلى رسالة الإسلام، فاستجاب له عددٌ كبيرٌ منهم حتى وصل النصف، وكان رسول الله يُرسل إليهم من يعلّمهم أمور دينهم، وفي الجهة الأخرى فقد حرص رسول الله على إظهار قوّة ومنعة المسلمين أمام المشركين، حتى لا يعتقدوا أن المسلمين لا توجد لهم قوّةً تحميهم، أمّا القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة المنورة فقد حاول رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أن يُبرم معهم المعاهدات التي تضمن حقّ المسليمن.
وقد وضع رسول الله ميثاق المدينة فور وصوله إليها، ونظّم فيه العلاقة بين المهاجرين والأنصار من المسلمين من جهةٍ، وبين اليهود من جهةٍ أخرى، فأصبحوا بذلك قوةً تقف بوجه أعداء المدينة، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من كانَ بينَهُ وبين قَومٍ عهدٌ فلا يَحُلَّنَّ عهدًا، ولا يَشُدَّنَّهُم حتَّى يمضي أمدُه أو يَنبِذَ إليهم على سواءٍ)، وأوفى رسول الله بالعهود والمواثيق التي أبرمها مع غير المسلمين، فقد كان حذيفة بن اليمان وأبوه أسيريْن عند الكفّار، فأطلقوهما مقابل ألّا يقاتلوا مع رسول الله ضدّهم، وفيما بعد لمّا أرادا أن يخرجا مع رسول الله إلى غزوة بدرٍ، أرجعهما النبيّ وفاءً بعهدهما، وعندما كان هؤلاء المشركون أسرى عند المسلمين؛ أوصى بهم رسول الله خيراً، كما حصل في أسارى بدر .
ولمّا أتى عُمير بن وهب متّفقاً مع صفوان بن أميّة على أن يقتل رسول الله مقابل أن يتكفّل صفوان بعائلته؛ أوحى الله إلى رسوله، فقال النبيّ لعُمير أن يقترب منه، فلما دنا أخبره رسول الله بالإسلام فأسلم، وكذلك فضالة بن عمير لما أتى رسول الله يريد قتله، فوضع رسول الله يده على صدره حتى هدأ وأسلم، وكان -عليه الصلاة والسلام- يُحسن إلى جاره، فقد زار جاره اليهوديّ حين مرض، واستغلّ رسول الله الموقف فدعاه إلى الإسلام، فجاء والده وأمَره أن يطيع رسول الله، فدخل ابنه في الإسلام، وخرج رسول الله من عنده يحمد الله -تعالى- بأن أنقذه من النار.
أهمية الأخلاق في التعامل مع الناس
أعطى الإسلام الأخلاق منزلةً عظيمةً، وجعلها من أهمّ دواعي نبوّة سيدنا محمد -صلّى الله عليه وسلّم-، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ)، والأخلاق الحسنة من القواعد الأساسية التي يرتكز عليها الإسلام، وهي بالنسبة إلى الإسلام كالوقوف بعرفة في الحج، فالحجّ لا يصحّ دون الوقوف بعرفة، وكذلك الإسلام لا يصحّ دون حسن الخلق، ويعدّ الالتزام بها من أعظم ما يُثقل كفّة الحسنات في الميزان عند الله يوم القيامة ، وهي معيار التّفاضل بين المؤمنين عند الله، فقد قال رسول الله: (ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ).
وكان رسول الله يدعو ربّه في قيام الليل أن يرزقه محاسن الأخلاق وأكملها، وهو أحسن الناس خلقاً، فيقول: (واهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنها إلا أنتَ، واصرفْ عني سيئَها لا يصرفُ عني سيئها إلا أنتَ)، وذلك دليلٌ على محبة الله -تعالى- للأخلاق الحسنة، ومما يدلّ على أهمية الأخلاق؛ كثرة الأدلة الواردة بها في الآيات القرآنية، سواء كان ذلك في الآيات المكية أم المدنية، وهي تدلّ على ضرورة الالتزام بها في جميع شؤون الحياة، والنّهي عن التخلّي عنها، فالأخلاق ملازمةٌ للمسلم في كل أحواله، كما هو شأن العقيدة في ذلك.