كيف ساندت خديجة رضي الله عنها الرسول عليه السلام في دعوته؟
ساندته في بداية بعثته
كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها وأرضاها- السَّند ورافع العزيمة للنَّبيِّ -صلى الله عليها وسلم-، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ القرشيَّة الأسديَّة، زوجة النَّبيِّ الأولى، وأوَّل من آمن به من النَّاس أجمعين.
كانت سيدتنا خديجة -رضي الله عنها- مؤمنة بشخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفكاره، لِما رأت فيه من اجتماع الكمالات البشرية، والارتفاع عن دنايا الأمور التي ينشغل بها الناس، ولذلك كانت تسانده عندما كان يعتكف في غار حراء قبل البعثة، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة بعدة سنوات قد حُبّب إليه الخلاء.
فكان يخرج إلى غار حراء أياما وفي العادة تبلغ الشهر، فكانت تزوده بالطعام والشراب وكل ما يحتاجه في هذه الفترة. حتى كانت تلك الليلة التي أكرمه الله -عز وجل- فيها بالنبوة، فكان لها الدور الأكبر في طمأنته، ومساعدته في فهم ما جرى له؛ حيث هدَّأته وذهبت إلى ورقة بن نوفل -ابن عمها- العالم بالنصرانية، فعرَّفه أنه سيكون نبي هذه الأمة.
أول من آمنت به
آمنت أمُّنا خديجة -رضي الله عنها- بنبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أول الناس، بل هي من بشرّته برجائها أنه سيكون نبي هذه الأمة عندما عرض عليها ما جرى له عندما نزل جبريل عليه وقبل أن يؤكد لها ذلك ورقة بن نوفل.
وهذا المتوقع لقربها منه -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا هو الأصل في سياسة الدعوة بأن يبدأ الداعية بأقرب الناس إليه، وهو ما فعله النبي الحكيم -صلى الله عليه وسلم-، وكان ذلك من توجيهات القرآن الكريم في ذات الوقت.
طمأنته بعد نزول جبريل عليه
لقد كان اللقاء الأول للنبي -صلى الله عليه وسلم- بجبريل -عليه الصلاة والسلام- بتفاصيله المعروفة شديدا لا تتحمله الجبال الرواسي؛ كيف لا وقد عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا اللقاء خائفا يرتجف، وعاد كذلك وهو أكمل البشر وأصلبهم عودا وأرجحهم عقلا وأثبتهم قلبا، ولننظر إلى تفاصيل ذلك اللقاء ومن ثم رجوعه إلى بيته وما فعلته سيدتنا خديجة -رضي الله عنها-:
تروي لنا سيدتنا الصدِّيقة عائشة -رضي الله عنها- قصة نزول الوحي لأول مرة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث جاءه سيدنا جبريل -عليه السلام- فقال له: اقرأ، فيرد عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما أنا بقارئ، فضمه جبريل -عليه الصلاة والسلام- ضمة شديدة، ثم تركه وأعاد عليه السؤال مرتين بعدها، وفي كل مرة يضمه ضما شديدا.
وفي المرة الثالثة قال له جبريل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ). وتكمل السيدة عائشة القصة كيف عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- خائفا يرتجف بكل جوارحه، يطلب من السيدة خديجة -رضي الله عنها- أن تغطيه.
وبعد أن هدأ روعه وقصّ عليه القصة ردت عليه بلسان الحكمة والهدوء: (كَلَّا، أبْشِرْ فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ).
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فبشره بالنبوة وقال له: (هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا، ذَكَرَ حَرْفًا، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قالَ ورَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بما جِئْتَ به إلَّا أُوذِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ).
شاركته الحصار
حاصر كفار قريش المسلمين و بني هاشم جميعا -مؤمنهم وكافرهم- في شِعب أبي طالب مدة ثلاث سنين، فمنعوا أن يصل إليهم الطعام والشراب، ومنعوا أن يبيعهم أحد أو يشتري منهم، أو يزوجهم أو يتزوج منهم، وكتبوا ذلك في كتاباً علقوه في الكعبة، فتأثّر المحاصرون وبلغ ذلك منهم الجهد حتى أكلو ورق الشجر، ولم يكن يُسمع في الشعب غير صياح الأطفال من شدَّة الجوع والألم.
ولم يكن يصلهم الطعام إلا خفية، وممن كان يصلهم بالطعام حكيم بن حزام بن خويلد ابن أخ السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وقد اعترضه مرة أبو جهل، لولا تدخل أبو البختري قائلا: إن هذا طعام لعمته عنده ويبعثه لها، وكان أبو البختري من الذين يبعثون الطعام سرأ وممن شاركوا في فك الحصار.
وهنا شاركت سيدتنا خديجة -رضي عنها- النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- والمسلمين هذا الحصار، راضيةً محتسبةً، وفي السَّنة التي خرجوا فيها من الشِّعب توفِّيت -رضي الله عنها-.
ساندته بالمال
كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- ذات مالٍ وغنى، عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تجارتها، وقد أنفقت من مالها لمساندة النَّبيِّ -عليه الصلاة والسلام- والإسلام، وقد صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث عائشة -رضي الله عنها- في وصف خديجة -رضي الله عنها- أنَّه قال: (واسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ).
وممَّا يوضِّح مقدار ما أنفقته جواب الزهري حين سأله أحدهم: هل أنفقت خديجة على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألفا؟ فقال: وأربعين ألفاً، وأخذ يكرِّرها، وقد ورد قول للمفسرين في قوله -تعالى- في سورة الضحى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)، أي أغناك بمال خديجة، وهذا لا يعني حاجته -صلى الله عليه وسلم- لمال أحد؛ فقد أغناه الله -سبحانه- عن ذلك، ولكن كان إنفاقها لإقامة الدِّين.
بنت معه أسرة مسلمة
أقام النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مع السيدة خديجة بيتاً هانئاً وأسرةً مسلمةً نموذجيَّةً يقتدي بها المسلمون من بعدهم، ضمَّت هذه الأسرة المباركة: سيِّد الخلق -صلوات ربي وسلامه عليه- وخير النِّساء خديجة -رضي الله عنها-، وأبناءَه القاسم، وعبد الله، وبناته زينب، ورقيَّة، وأمُّ كلثوم، وفاطمة.
كما ضمَّت الأسرة عليَّاً بن أبي طالب؛ فقد تربَّى في كنف النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك ضمَّ ابنا السيدة خديجة -رضي الله عنها- من زوجها السَّابق وهو: هند بن أبي هالة، إضافة إلى خادمه زيد بن حارثة وحاضنته أمُّ أيمن، فأيُّ سعادةٍ وأيُّ سكينةٍ عاشها ساكنوه!
ضمَّ البيت هؤلاء النُّجوم الذين كان لكلِّ واحدٍ منهم مواقف جليلة في خدمة الإسلام، ويكفي هذا البيت فخراً أنَّه أوَّل بيتٍ مسلمٍ طُبِّق فيه الدِّين وتُلي فيه كتابُ الله العظيم، حتى شعَّ منه النُّور إلى العالم أجمع، وخرج منه أوائل المسلمين.
من فضائلها
نذكر بعض فضائلها -رضي الله عنها-:
- أنَّ الله -سبحانه وتعالى- بعث لها السَّلام مع جبريل وبشرها ببيت في الجنَّة
فقد روى البخاري عن أبي هريرة قوله: (أَتَى جِبْرِيلُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ: هذِه خَدِيجَةُ قدْ أتَتْ معهَا إنَاءٌ فيه إدَامٌ، أوْ طَعَامٌ أوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هي أتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِن رَبِّهَا ومِنِّي وبَشِّرْهَا ببَيْتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ، ولَا نَصَبَ).
- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر ذكرها بعد وفاتها ويصل صاحباتها ببره، حتى غارت منها أمُّنا عائشة -رضي الله عنها-
روى ذلك البخاري عنها -ضي الله عنها-: (ما غِرْتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ما غِرْتُ علَى خَدِيجَةَ، وما رَأَيْتُهَا، ولَكِنْ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّما قُلتُ له: كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلَّا خَدِيجَةُ، فيَقولُ: إنَّهَا كَانَتْ، وكَانَتْ، وكانَ لي منها ولَدٌ).
- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوَّج عليها في حياتها
روى ذلك مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: (لَمْ يَتَزَوَّجِ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى خَدِيجَةَ حتَّى مَاتَتْ).
- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنَّها خير نساء الأمَّة
ورد ذلك عن عليٍّ في صحيح البخاري: (خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ، وخَيْرُ نِسائِها خَدِيجَةُ).