كيف تكون لبقاً في الحديث مع الناس
معنى اللباقة
يُراد باللباقة التحسين من التصرُّفات والأفعال والأقوال في التعاملات بين الناس واجتناب المُنكرات والفضاضة، فاللباقة في معاجم اللغة تعني تحرّي الذوق والظرافة واستشراف الأخلاق الطيبة في الحوار والعلاقات.
إنّ المعنى الاصطلاحي لمفهوم اللباقة يُعبّر عن قُدرة الفرد على امتلاك الأساسيّات العامّة للتّعامل مع الآخرين بناءً على ما تَحصّل من مَعرفة الاتجاه الذهني لهم وانطباعاتهم وردود أفعالهم حيال المواقف المتوقّعة، وما يتضمّن ذلك من انتقاء الألفاظ والتعبيرات والإيحاءات والإيماءات وحتّى النبرات الصوتية التي تبعث الرغبة والرّاحة في نفس المُحاور، وتُجنّبه الإحساس بالضيق والاستفزاز والقلق، واللباقة سلوك مُتدرَّب يتنامى بالتدريب والتّوجيه والتّوطين.
قواعد التحدث بلباقة
يستطيع الفرد استثمار قدراته ومهاراته في الحديث بشكلٍ جيّد من خلال اللباقة في أسلوبه وحواره، ويُمكن تحقيق ذلك من خلال التدريب على اللباقة وتوطينها في لسان المرء وشخصيّته وسلوكه لتُصبح جزءاً اعتياديّاً من مكوّناته يتطبَّع فيه الفرد ويكتسبه دون تكلُّف ولا تصنّع، ويُمكن اكتساب هذه السّمة المميّزة وتوطينها في الذات عبر التدرُّب باتّباع القواعد الآتية:
- مواجهة اللقاء الأوّل وتكوين صورته المُميّزة: تعتمد الكثير من الانطباعات على ما يحمله اللقاء الأوّل والنّظرة السطحية من ملامح الراحة أو التّعقيد من خلال الصّورة التي يُظهرها المرء في اللحظات الأولى، ويُنصح في مثل هذه الحالة بتوطين الابتسامة ورسمها بوضوح على معالم الوجه لينعكس اللقاء والحوار بطابع الرّاحة والإيجابية.
- تحضير اللقاء وما يحمله من محاور الحوار ومحدّداته: يبدأ ذلك بترتيب الأفكار وتسلسلها، وتمرين العقل على استحضار الكلمات المفتاحيّة، وتحديد المحاور والأولويّات اللازمة لإدارة الحوار والتحدّث بإيجابية وتأثير.
- حصر الحديث فيما يعرفه المحاور: من أميز ما يحمله الحديث من لباقة أن يلتزم الطرفان المُتحدّثان بما يختصُّ كلٌّ منهما فيه أو ما يعرفه بصورةٍ جيّدة، لكن ذلك الأمر لا يعني أن يكون المتحدّث خبيراً في الموضوع قيد الحديث، غير أنّ المُراد أن يعرف ما يضمن نقل الحديث وتكوين صورته بشكل سليم خالٍ من العشوائية والتمويه والتضليل المقصود أو غير المقصود، ويضمن ذلك اطّلاع الفرد ومعرفته في ذلك المجال.
- إظهار الثقة بالنفس: يهتم المتحدّث بسمات شخصيّة الطرف المقابل له ويدرس جميع ملامحها، ومن أهمّ سمات الشخصية التي تترك أثراً مهماً في نفس المحاور إظهار الثقة بالنفس والاعتزاز بها.
- الإصغاء والتعاطف: إنّ من أساسيّات الحوار الجيّد أن يُتقن المُتحدّث مهارة الاستماع والإصغاء للطرف الآخر، وأن يُظهِر تَعاطفه مع ما تتضمّنه تعليقاته كما لو أنّه مكانه، والمستمع الجيد بالتأكيد مُتحدّث بارع يترفّع عن مُقاطعة الآخرين وردّ أقوالهم وتعليقاتهم.
- دعم الحديث بما يحتاجه من قصص ودلائل: من البديهي أن يتحدّث الشخص بالحقائق الموثوقة والطبيعيّة، ويُستحسن أثناء سرد الحديث أن يستدلّ المُحدِّث ببعض الأمثلة والقصص المُرتبطة بالموضوع بما يؤثّر في تقبُّله وسهولة فهمه من غير خروج عن لُبّ الموضوع وحدوده الأساسية.
- صناعة التشويق والإثارة، وتحفيز المُستمعين على إثراء الحوار، وطرح الأسئلة واستمطار الأفكار والمُشاركة الفاعلة والإيجابيّة.
قواعد أخرى للباقة في الحديث مع الناس
الاستماع أكثر من التحدث
يجب على الشخص الاستماع للآخرين أكثر من الكلام، فمثلاً في محادثة مع شخص معين، يُمكن التحدث ما بين 30% إلى 50%من وقت المحادثة، ويُمكن تقسيم وقت الكلام كالآتي: يُعطي الشخص نفسه الضوء الأخضر للكلام خلال أول ثلاثين ثانية، ثمّ الضوء الأصفر في الثلاثين ثانية التالية، ثمّ لا يتحدث ويُعطي نفسه الضوء الأحمر، ولكن يُمكن للشخص التحدث أكثر من ذلك في حال كان يروي قصةً معينة.
التفكير في الكلام قبل قوله
يتحدث بعض الأشخاص تلقائياً ودون تفكير كردة فعل في المواقف التي تتضمن المواجهة، ولذلك يجب على الشخص أن يتمهل لحظةً للتفكير في ما يقوله الطرف الآخر وصياغة كلامه قبل التحدث به، حيث إنّ ذلك سيجعله يواجهه بطريقة احترافية دون الندم على قول شيء مُعيّن.
التركيز على الأمور المشتركة
يجب على الأشخاص البحث عن أمور مشتركة تجمعهم مع الطرف المقابل لبناء المزيد من التجارب الإيجابية بينهما، حيث إنّ ذلك يدل على النضج والثقة، كما أنّه من النادر عدم إيجاد شيء واحد مشترك بين شخصين، فمثلاً تنصح جامعة روكهيرست (بالإنجليزية: Rockhurst University) في حال كان الشخص يميل للتحدث بسرعة واستخدام الكثير من المفردات، وكان الشخص الآخر يتحدث ببطء مع دقة في المفردات، فيُمكن للشخص التعديل من طريقة كلامه لتتلاءم مع طريقة الطرف الآخر.
الإيجاز في الكلام
يجب أن يلتزم الفرد بالإيجاز في كلامه، فلا داعٍ لذكر تفاصيل الأمور، والثرثرة المملة، حيث إنّ الكثير من الأشخاص يميلون إلى التمهيد المفرط للأشياء، مثل: " في الحقيقة أنا آسف، ولكن..."، لذلك يُفضّل الابتعاد عن الكلام الذي لا فائدة منه، وقول الكلام المختصر والواضح، ثم التوقّف والاستماع.
أهمية اللّباقة
إنّ للباقة أهمية كبيرة تنعكس على الفرد في مختلف الأصعدة، فمن أهميتها يُمكن ذكر ما يأتي:
- تتجلّى أهمية اللباقة على الصعيد الشخصي والمهني وتتمثل في القدرة على تقديم الأخبار السيئة، أو تقديم ردود الفعل الحرجة في مواقف مختلفة.
- تُعزّز من سمعة الشخص، وتُؤدّي إلى بناء المصداقيّة، كما تسمح بتشكّل علاقاتٍ جديدةٍ قائمة على النّزاهة، والنّضج العقلي.
- تعكس حسن خلق صاحبها.
- تساعد على تجنّب العديد من المشاكل والصراعات؛ فهي عنصر مهم في المفاوضات وحلّ الصراعات.
مهارات الكلام
يبني المُستمع انطباعاته الأولى حول الحديث والمُتحدّث من خلال عدّة معايير يُسقطها على الحديث خلال استماعه المُباشر والأوّلي، ويرغب المُستمع بتلقّي الحديث في جوٍّ من الهدوء والرّاحة دون ضجيج مُفزع أو شدّة وتباين، ومن الأمور المرغوبة في رسائل الكلام وصناعته أن يكون الصوت مُنضبطاً ومُعتدلاً، فتتساوى النّبرات وتتناغم الكلمات بلا ارتفاعٍ صاخبٍ ولا احتدادٍ مُقلق، فإذا أراد المُتحدّث أن يحمل المُستمعين على المُتابعة والاستمرار بتشوُّقٍ وانبهار فإنّه يتعيّن عليه أن يخلق من خلال صوته واسترسال حديثه جوّاً من الألفة والأمان السمعي، فإذا اتّسم بالهدوء المرن والمُتّزن فقد نال مفاتيح النّجاح في بناء حديثه، وأبعد الريبة والقلق من نفوس المُستمعين واجتذب انتباههم.
تطرّق علماء النفس من خلال ما أسموه "تكنيك الحديث" إلى مواصفات الكلام الجيد والمرغوب عند المستمعين؛ إذ يُشير علماء النفس إلى أنّ اشتداد صوت المتكلّم وارتفاعه يدلّ على افتقار المتكلم على الحجّة والبرهان في مضامين حديثه، كما أنّ الصوت الحاد دليلٌ على انعدام الثقة بالنفس، أمّا الصوت الخافت المنخفض فإنّه يدلّ على خوف المُتكلم وافتقاره للثّقة بالنفس وضعف يقينه وقلة سيطرته، الأمر الذي يقود المُستمع إلى التوتّر والضجر والشعور بانعدام الراحة والرغبة في المتابعة، ممّا قد يُؤدّي به إلى ترك الجلسة أو الحوار ، أمّا إن كان مُضطراً للبقاء فإنّه قد يفقد قدرته على الاتّزان في ظلّ تلك البيئة التي تدعو إلى النعاس.
يُبيّن عُلماء النفس أنّ الأشخاص الأكثر تأثيراً في حديثهم هم أولئك الذين يمتلكون أصواتاً مُعتدلة ومُتّزنة؛ إذ تُعبّر هذه العلامات عن صفاتِ الهدوء، والثقة بالنفس، والتحكّم في العبارات، والقدرة على قيادة النبرات وتوضيحها، وامتلاك المرونة، والدقة في استخدام المعاني والطبقات الصوتية، ويُعتبر الأشخاص الذين يمتلكون هذه السمات الصوتيّة أكثر قُدرةً على قيادة مشاعر الجماهير، وتكوين روابط الألفة والطمأنينة، وتحقيق الأهداف المُرادة من الحديث من خلال إضفاء أجواء الإيجابيّة والتأثير أثناء حديثهم.