كيف بنيت الكعبة المشرفة
الكعبة
إنّ للكعبة المشرفة مكانةٌ عظيمةٌ في قلوب المسلمين، فهي أول بيتٍ وُضع للناس، وهي البيت العتيق الذي بناه الخليل إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام، مصداقاً لقول الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، ليكون بذلك أول بناءٍ شُيّد للعبادة على وجه الأرض، ومن الجدير بالذكر أنّ الله -تعالى- شرع للمسلمين الطواف حول الكعبة تعبّداً له، وأمرهم بالتوجّه إليها في كلّ صلاةٍ ، حيث قال الله -تعالى- في كتابه الحكيم: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، فكانت الكعبة ذلك البناء العظيم، ولم يَحِد المؤمنون بوجوههم عنها، منذ أن أُمروا بذلك، ولن يحيدوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
كيفية بناء الكعبة
من المعلومات التاريخية الخاطئة التي كثُر ذكرها في كتب التاريخ، من غير دليلٍ ولا برهانٍ على صحتها، بناء الكعبة عشر مراتٍ، حيث يعتقد الكثير من علماء المسلمين وعامتهم بتلك المعلومة، من غير دليلٍ من كتاب الله تعالى، أو سنّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، حيث يزعمون بأنّ الملائكة أول من بنى الكعبة المشرفة، ثمّ أعاد بناءها آدم، بمساعدة زوجته حوّاء عليهما السلام، وبناها من خمسة جبالٍ: جبل لبنان، وجبل طور سيناء ، وجبل الجودي، وجبل حراء، وجبل طورينا، ويقولون أيضاً إنّ نوح -عليه السلام- بناها بعد الطوفان ، بالإضافة إلى بناء العمالقة أيضاً، وبناء قبيلة جرهم، وتلك كلّها مزاعمٌ لا يصّح الاعتقاد بها، إذ لا يتوفّر دليلٌ يثبت صحتها، والصحيح المثبت في كتاب الله تعالى، وسنّة نبيه عليه صلّى الله عليه وسلّم، أنّ الكعبة المشرفة بنيت أربع مراتٍ فقط، وفيما يأتي بيانها:
- البناء الأول: إنّ أول من بنى الكعبة المشرفة، هو نبي الله إبراهيم عليه السلام ، مصداقاً لقول الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ*فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
- البناء الثاني: بعد ألفي عامٍ من بناء إبراهيم -عليه السلام- للكعبة، أصبحت مهددةً بالسقوط، فقامت قريش بإعادة بنائها، وكان ذلك في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالتحديد قبل البعثة بخمس سنواتٍ، وكان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أحد المشاركين في إعادة البناء، وبعد انتهاء البناء، اختلفت قبائل قريشٍ في وضع الحجر الأسود ، وتحاكموا إلى محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وحكّم بينهم في القصة المشهورة، وقد روى ابن إسحاق كيفية البناء، حيث إنّ قريشاً أرادت ترميم الكعبة، ورفع جدرانها، وتسقيفها، بعد ما خافوا سقوطها، وبعد أن سُرقت كنوزها، من قبل نفرٍ من اللصوص، وحدث صدفةً أنّ سفينةً للتجار الروم تحطمت بسبب عاصفةٍ، ووصل خشبها إلى شاطئ جدة، فقامت قريش بجمع الخشب، وتجهيزه لبناء الكعبة، وكان في مكة نجارٌ قبطيٌ، وعدهم بالقيام بالأمر، ولكنّ قريشاً لم تُقبل على البناء مباشرةً، ويرجع السبب في ذلك لخوفهم من ثعبانٍ كان تحت الكعبة، يخرج كلّما اقترب أحدٌ من الكعبة، ويهّم بالهجوم عليه، وفي أحد الأيام بعث الله -تعالى- طائراً، واختطف الثعبان، فقالت قريش: (إنّا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عاملٌ رفيقٌ، وعندنا خشبٌ، وقد كفانا الله الحية)، وقبل أن يبدؤوا بالهدم، قال رجلٌ منهم، يدعى ابن وهبٍ: (يا معشر قريشٍ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغيٍ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحدٍ من الناس)، فقاموا بهدمها حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم عليه السلام، ثمّ بنوها من جديدٍ.
- البناء الثالث: بقيت الكعبة على بناء قريشٍ، حتى حصل حريقٌ أثّر فيها، في عهد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وكان ذلك بعد عام ستين للهجرة ، فأعاد ابن الزبير بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها حجر إسماعيل عليه السلام، وجعل لها بابين: أحدهما شرقيٌ والآخر غربيٌ، بعد أن سمع من خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي قال فيه: (لولا أنَّ الناسَ حديثُ عهدهم بكفرٍ، وليس عندي من النفقةِ ما يقوى على بنائِه، لكنتُ أدخلتُ فيهِ من الحِجْرِ خمسَ أذرعٍ، ولجعلتُ لها باباً يدخلُ الناسُ منهُ، وباباً يخرجون منهُ)، فقام ابن الزبير -رضي الله عنه- بذلك؛ تحقيقاً لرغبة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
- البناء الرابع: بعد مقتل ابن الزبير رضي الله عنه، أرسل الحجاج إلى عبد الملك، يخبره بأنّ ابن الزبير بنى الكعبة على غير بناء قريشٍ، فأمره عبد الملك بإعادة بنائها، والزيادة في ارتفاعها، وفصل حجر إسماعيل عنها، والاكتفاء ببابٍ واحدٍ، وإلغاء الآخر نكايةً بابن الزبير، ففعل الحجاج ذلك، ومن الجدير بالذّكر أنّ العلماء قالوا بصواب ما فعله ابن الزبير؛ لأنّه قام بذلك البناء، تحقيقاً لإرادة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن تلك السنة لم تتضح لعبد الملك بن مروان، وفي العصر العباسي أراد هارون الرشيد إعادة بناء الكعبة، كما أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستفتى الإمام مالكٍ بالأمر، فقال له: (يا أمير المؤمنين لا تجعل الكعبة ملعبةً للملوك، لا يشاء أحدٌ أن يهدمها ألّا هدمها)، فتوقّف الرشيد عن ذلك، وبقيت الكعبة على حالها.
مكانة الكعبة المشرفة
لا يقتصر سبب تعظيم الكعبة على أنّها أول بيتٍ وضع للناس فقط، بل لها مناقب عظيمة أخرى، فقد عظّم الله -تعالى- شأن الصلاة عندها، وقضى بحكمته أن يكون موضعها حرماً محرّماً، بالإضافة إلى أنّ الحجر الأسود الذي يُعتبر ركناً من أركان الكعبة، حجرٌ نزل من السماء، مصداقاً لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (نزلَ الحجرُ الأسوَدُ منَ الجنَّةِ، وَهوَ أشدُّ بياضاً منَ اللَّبنِ، فسَوَّدَتهُ خطايا بَني آدمَ)، كما أنّ الكعبة المشرفة من شعائر الله تعالى، التي أمر عباده بتعظيمها، حيث قال: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وقد حذّر الله -تعالى- من أراد الإلحاد فيها، حيث قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَن هَمَّ بسيئةٍ فلم يَعمَلْها يُكتَبُ عليه شيءٌ، وإنْ هَمَّ بعَدَنِ أبْيَنَ أن يَقتُلَ في المسجدِ الحرامِ، أذاقه اللهُ مِن عذابٍ أليمٍ).