أشهر الخطباء في العصر الإسلامي
أشهر الخطباء في العصر الإسلامي
تطوّر فن الخطابة منذ ظهور الإسلام؛ لأنّه من الأساليب المؤثرة في الناس، وقد استعمله الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما كان يَعرض الإسلام على قومه في بداية الدعوة، وفي المدينة المنورة أُقيمت الخُطب لإرشاد المسلمين إلى أحكام دينهم، ونُظم حياتهم، وتعامُلاتهم مع القبائل المُحيطة بهم، أيّ أنّ الخطابة كانت في العصر الإسلامي؛ للتعريف بأصول الشريعة وأحكامها، وأهم الخطباء في العصر الإسلامي فيما يأتي:
النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-
نبيُّنا أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطَّلب، وُلد يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، الموافق عام 571م، وأرضعته حليمة السعدية، وكانت بعثته وهوفي سن الأربعين، وتميّز أسلوبه في الخطابة بالفصاحة وسُهولة الألفاظ وقوّة المعاني، التي يستهلُّها بالحمد والثناء على الله، ويدفع الناس لمكارم الأخلاق، فهو القائل في حق نفسه -عليه الصلاة والسلام- " نُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ"، وحقَّ له ذلك.
وكان خلال الخطبة -عليه الصلاة والسلام- يقتبس من القرآن الكريم، وأحيانًا ينتقل سريعًا من الموعظة والمعنى الروحي إلى التشريع والأحكام التي ينبغي أن يقوم بها المُجتمع الإسلاميّ ، و من الأمثلة على خطبه هي خطيته حين قَدِم إلى المدينة أوّل مرة، ونصّ هذه الخطبة فيما يأتي:
" الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترةٍ من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاعٍ من الزمان، ودنوٍّ من الساعة، وقربٍ من الأجل.. ".
أبو بكر الصديق
أبو بكر الصديق أوّل من أسلم من الرجال، وأقرب أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليه، وفي قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى }، إشارةً إلى أبي بكر-رضي الله عنه- فهو مثال يُحتذى به في الفصاحة والبلاغة التي ظهرت في خطبه؛ فقد كان يختار الألفاظ الواضحة، والمعاني التي تعكس قوّة إيمانه ورجاحة عقله.
كما كانت خطبه تتضمّن أوامر للمسلمين بالالتزام بما أوصى به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن أمثلة خطبه الخطبة التي قالها يوم بايعه الناس على الخلافة:
" أيّها الناس فإنّي قد وُلّيت عليكم، ولستُ بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القويّ حتى آخذ الحق منه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ".
عمر بن الخطاب
هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى، عندما أسلم اعتزّ به المسلمون، وأصبحوا يُصلّون في الحرم، وهو ثاني الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وقد تم في عهد عمر فتح فارس، والشام، ومصر، أمّا في الخطابة فقد سار عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على نهج أبي بكر الصديق.
كان الغرض الرئيس غالبًا من خطب عمر بن الخطّاب هو تحريض المسلمين على الجهاد والفتوحات، وكان -رضي الله عنه-يختار أقوى المعاني فتنصاع القلوب لبيانه، حتى قيل فيه إنّه كان يستطيع أن يٌخرج الضاد من أي شدقيه شاء، ومن خطبه الشهيرة ما يأتي:
" إن الله سبحانه وبحمده قد استوجب عليكم الشكر، واتّخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الآخرة والدنيا من غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه، فخلقكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئًا لنفسه وعبادته وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وحملكم في البرّ والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلّكم تشكرون، ثم جعل لكم سمعا وبصرًا ومن نِعَم الله عليكم نِعَمٌ عمَّ بها بني آدم، ومنها نِعَمٌ اختصّ بها أهل دينكم ".
عثمان بن عفان
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميَّة، ولُقّب بذي النورين؛ لأنّه تزوّج اثنتين من بنات الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، ولم تكُن خطابته بمستوى الخليفتين أبي بكر وعمر، فقد أُرتج عليه مرّة عند إلقاء الخطبة، لكنه لم يكن هكذا دائمًا، بل كانت خطبه تملأ نفوس الناس بالحكمة، وكان يقول للناس: "أنتم إلى إمامٍ عادلٍ أحوجُ منكم إلى إمامٍ خطيبٍ".
ومن الأمثلة على خطبه ما يأتي:
( إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أُتيتم، صُبِّحتُم أو مُسِّيتُم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا؛ فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذي أثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلًا، ألم تلفظهم!، ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة... ).
علي بن أبي طالب
تربّى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في بيت الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وهو أوّل من آمن من الفتيان، بالنسبة لخطابته فقد كان حكيمًا وخطيبًا بليغًا ومواعظه تملأ القلب والعقل، ويستخدِم الحجّة للإقناع، وهو أخطب المسلمين وإمام المنشيئن بالإجماع، وكانت أكثر خطبه في الحث على جهاد الخصوم.
ومن الأمثلة على خطبه أو خطبة ألقاها في المدينة، حيث قال:
"أيها الناس: كتاب الله وسنّة نبيكم صلّى الله عليه وسلم، أما بعد: فلا يدّعين مدّع إلا على نفسه، شغل من الجنة والنار أمامه. ساع نجا، وطالب يرجو، ومقصّر في النار...".
عبد الله بن عباس
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عمّ الرسول، كُنيته أبو العبّاس، وُلد في السنة العاشرة لبعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد تعلّم على يدَيه، فدعا له بكثرة العلم والحفظ، وقد حَرِص على تعلُّم العلم ونشره، فكان راجح العقل، وفقيهًا في الكتاب والسنة، رُوي عنه عدد كبير من الأحاديث، وكان كثير العلم، لُقّب بحبر الأمة.
من خطبة رضي الله عنه:
" أيها الناس: استعدوا للشخوص إلى إمامكم، وانفروا خفافًا وثقالًا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين، الذين لا يقرأون القرآن، ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحق، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله، الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والصادع بالحق، والقيم بالهدى، والحاكم بحكم الكتاب، الذي لا يرتشي في الحكم، ولا يداهن الفجار، ولا تأخذه في الله لومة لائم ".
زياد بن أبيه
نشأ في بيت الحارث بن كِلدة الثقفي، وقيل إنّه ابن عبد رومي، فكان أديبًا نابغًا مُنذ صغره، وجاء في الروايات أن أبا سُفيان نسب بنوته إليه، واستماله معاوية-رضي الله عنه- فصار يُدعى زياد بن أبي سفيان، عندما كان أبو موسى الأشعريّ واليًا للبصرة في خلافة عمر عيّنه عنده، وكان سياسيًا مُحنَّكًا، ومُتكلمًا بليغًا جدًّا، وأُعجب الجميع بخطبه.
أشهر خطبة له هي الخطبة البتراء، سُميت بالبتراء أيّ المقطوعة؛ لأنّها لم تبدأ بالبسملة والحمد، وهي:
" أمّا بعد: فإنّ الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفجر الموقِد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها: ما يأتي سُفهاؤكم، ويشتمل عليه حُلماؤكم من الأمور العظام؛ ينبُت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير؛ كأن لم تسمعوا بآيِ الله، ولم تقرؤوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكبير لأهل طاعته،.... ".
سحبان بن وائل
هو سحبان بن زفر بن إياد، نشأ في قبيلة وائل من ربيعة ، وأسلم عند ظهور الإسلام، وكان خطيبًا سريع البديهة، قوي الحجّة، يمتلك كل فنون الكلام، ويحفظ الكثير من الأمثال كأنما يتلو خطبة عن ظهر قلب، والمأثور من خطبه قليل، كان يمتاز بطول الخطبة ووحدة الموضوع، ومن أمثلة خطبه قوله:
" إنّ الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار، أيها الناس فخذوا من دار ممركم إلى دار مقركم. ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم، ولغيرها خُلِقتم. إنّ الرجل إذا هلك قال الناس ما ترك؟، وقالت الملائكة: ما قدم؟، فقدموا بعضًا يكون لكم ولا تخلفوا كلاً يكون عليكم ".
الحجاج بن يوسف الثقفي
وُلد محمد الحجاج بن يوسف الثقفي في بيت فقير مُعدم ، وكان يُعلم مع أبيه الصبية في الطائف ، ل كنّه طمح إلى أشياء أخرى، فالتحق بشرطة عبد الملك بن مروان ، وكان الحجاج حاكمًا صارمًا، رزقه الله طلاوة اللسان وقوة الجنان، وبراعة في اللغة أكسبته الكثير من الناس، وكان قويّ الحجة، فصيحًا، لا يُجاريه أحد من زمانه، ومن الأمثلة على خطبه خطبته يوم ولي خلافة الكوفة:
" يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها!، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال: والله يا أهل العراق، ما يُقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين، ولقد فرزت عن ذكاء وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين _أطال الله بقاءه_ نثل كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودًا، وأصلبها مِكسرًا، فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم الفتنة، وأضجعتم في مراقد الضلال " .
يزيد بن المهلب
هو يزيد بن المهلب ابن أبي صفرة، الأمير أبو خالد الأزديّ، وُلي المشرق بعد أبيه، ثم وُلي البصرة لسليمان بن عبد الملك، ثم عزله عمر بن عبد العزيز بعدي بن أرطاة، وطلبه عمر وسجنه، وبينه وبين بالحجاج نَسب، فالحجاج كان زوج أخته، ثم تسلّط عليه وعزله، وكان بليغًا جدًّا.
ومن أمثلة خطبه خطبته عندما حرّض أصحابه على قتال مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد، حيث قال:
" إنّ هؤلاء القوم لن يردهم عن غيتهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء -يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة ثمود -يعني العباس بن الوليد- وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية، والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه، حتى كلمته فيه؛ فأقره على نسبه.. .".
واصل بن عطاء
واصلُ بن عطاء معتزليٌّ وُلد في المدينة، وعاش في البصرة، وهو مُجيد للغة العربية، وحافظ لها، ومشهور بالبلاغة وسرعة البديهة، لكنه كان ألثغ اللسان؛ أيّ أنّه لا يُحسن نطق حرف الراء، ويتجنبه في كل كلامه، إلّا في آيات القرآن الكريم، ولم يسمعه أحد يتكلم به، وأصبحت خطبته الشهيرة مثالًا يُضرب في بلاغته وسعة اطّلاعه على ألفاظ العربية.
تُعدّ الخطبة الآتية شاهدًا على تجنبه حرف الراء، ونصُّها كما يأتي:
" الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوّه، ودنا في علوّه، فلا يحويه زمان، ولا يُحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعًا، وعدّ له اصطناعاً، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته… ".
مصعب بن الزبير
هو مصعب بن الزبير ابن العوّام القُرشي الأسدي أمير العراقين، فارس من أشجع العرب، كان يُحسد على وسامته، وعرف عنه أنه كان شديد السخاء حتى سُمي "آنية النحل"، ورُوي أنه مات مقتولًا، ومما يُروى عنه خطبته عندما ولي إمارة البصرة، قام المصعب فحمد الله وأثنى عليه، قال فوالله ما أكثر الكلام، فبدأ كلامه:
بسم الله الرحمن الرحيم (طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)، وأشار بيده نحو الشام (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، وأشار بيده نحو الحجاز (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ).
معاوية بن أبي سفيان
معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أسلم ولد بمكة، ثم جهر بإسلامه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، وهو من كتبة الوحي الذين كتبوا القرآن الكريم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشارك في غزوة حنين مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن مناقبه أنّه أوّل من غزا على البحر مُجاهدًا في سبيل الله.
ومن الأمثلة على بلاغته خطبته في أهل الكوفة :
"يا أهل الكوفة، أتراني، قاتلتُكم على الصلاة والزكاة والحجّ، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا إنّ كلّ مالٍ أو دمٍ أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين، ولا يصلح الناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله، وإقفال الجنود لوقتها، وغزو العدوّ في داره، فإنّه إن لم تَغْزُوهم غَزَوكم ".