فن المقامات في العصر الأندلسي
فن المقامات في العصر الأندلسي
لم يعرف الأندلسيّون فن المقامة إلّا بعد أن وصلتهم مقامات بديع الزمان الهمذاني ورسائله، فعندما وجد الأندلسيّون هذا الفن الجديد وأعجبوا به ورأوا أنّه يمكنهم تذوّقه والنسج على منواله، فإنّهم قد تهافتوا على الكتابة في هذا الفن الجديد ولكنّ إنتاجهم لم يكن بغزارة المشارقة؛ فإنّ الأدباء قد كتبوا مقامة واثنتين وأكثر، وواحد فيهم كتب سبع مقامات.
غير أنّ كاتبًا منهم -وهو أبو طاهر السرقسطي- استطاع أن يكتب خمسين مقامة على غرار الهمذاني والحريري الذي عارض الهمذاني، وأوّل من كتب في فن المقامات في الأندلس كان ابن شُهَيد الأندلسي، ثمّ تلاه أدباء الأندلس في ذلك، ولقلّة عدد المقامات في الأندلس فإنّها لم تحظَ بالدراسات التي حظيت بها المقامات المشرقية.
نماذج من المقامات الأندلسية
من النماذج على فن المقامة في العصر الأندلسي ما يأتي:
نص من مقامة ابن فتوح
يقول ابن فتوح: "كنت ليلة في رمضان أطوف بالمسجد الجامع بالمرية سنة ثلاثين، وإذا فتى حسن المنظر، فسلم علي سلاماً ارتاحت له نفسي، وانشرح له صدرين فرددت عليه رد من توسم فيه سمة الفهم، فقال لي: بحرمة الأدب إلا ما أعدت علي البيت، فأعدته، وأنشدته سائر الأبيات، فقال: الشعر لك؟ قلت: أجل، ثم قال لي: إنما أخذته من قول العباس بن الأحنف:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي
- تُروَّعُ بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى
- فأين حلاوات الرسائل والكتب
فقال: وريت بك زنادي، فأخبرني عن السبب الموجب لترديدك البيت، قلت له: منيت بخل مولع بالخلاف، مائل إلى قلة الإنصاف، إن لاينته غضب، وإن استعتبته عتب، وقد علم الله شفقة نفسي لفرقته، فقال: قلب الله لك قلبه، وجنبك عتبه. ثم ولي عني وقد غرس في كبدي ثمرة وده، قبت الليلة مستأنساً بخباله، جذلان بوصاله، حتى رأيت غرة الفجر تلمع في كفل الدجى، فخلته بحراً تسرب في جدول".
نص من المقامة النخلية لابن برد الأصغر
يقول ابن برد الأصغر في مقامته: "جعلك الله من المؤثرين على أنفسهم والموقين شحها، والمنجزين لمواعيدهم والمعطين صدقها، فقد علمت ما سلف لنا في العام الفارط من عتابك، ولبسنا شكته من ملامك، لما كتمتنا صرام النخلة التي هي بأرضنا إحدى الغرائب، وفريدة العجائب، هرباً من أن نلزمك الإسهام في رطبها، وحرصاً على تمام لذة الاستبداد بها".
"وقلت، وقد سألناك من جناها قليلاً، ورجونا أن تنيلنا منها ولو فتيلاً: لو علمت أنّ لكم به هذا الكلف، وإليه هذا النزاع، لأمسكته عليكم وجعلت حكم جداده إليكم؛ ولكنها إن شاء الله في العام الآنف غلتكم، عتاد نفيس لكم، وذخر حبيس عليكم".
"فأما نحن فرسمنا تلك العدة في سويداوات قلوبنا، ووكلنا بها حفظة خواطرنا؛ وأما أنت فهلت عليها التراب، وأسلمتها إلى يد البلى حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت زينتها، وبلغت غايتها، وأشبع صبغها، وأحكمت الشمس نضجها، دببت إليها بصرامك، ومشيت نحوها الجهر بجرامك، على حين نام السمار، وغفلت الجارة والجار، وأبت بها إيابة الأسد بفريسته، وتحكمت فيها تحكمه في عنيزته".
نص من مقامة لابن شهيد
يقول الأديب ابن شهيد الأندلسي في مقامة طويلة له: "إنّ صناعة الكتابة محنة من المحن، ومهنة من المهن؛ والسعيد من خدمت دولة إقباله، والشقي من كانت رأس ماله، والعاقل من إذا أخرجها من مثالبه لم يدخلها في مناقبه، لا سيما وقد تناولها يد كثير من السُّوَق، وباعوها بيع الخَلَق؛ فسلبوها تاج بهائها، ورداء كبريائها، وصيروها صناعة يكاد الكريم لا يعيرها لحظه، ولا يفرغ في قالبها لفظه؛ إذ الحظ أن يعثر الكرام إذا ولي الأعلاج، وأن تستنعج الآساد إذا استأسدت النعاج".
"غير أنّه من وُسِمَ بِسِمَتِها وظهر في وسمتها، فغير مجهول مكانه، ولا مسلم له كتمانه، وما عسى أن يصنع بذي مكانة وحسب، إذا اتفق يوم سرور وطرب؛ ورغبَ رغبةَ كريمٍ أن يؤرخ له بمنثور ومنظوم؟ أقسم لو كان وجه الإنسان في صفاقة نعله، أو وقاحة حافر بغله، لما وسعه غير الإسعاف، على حكم الإنصاف وإلا لزمه اسم التبريد والجمود، وبهذا السبب دفعنا إلى النصب فيما تسمعه، وربما تستبدعه".