فن الخطابة في العصر العباسي الثاني
فن الخَطابة في العصر العبّاسي الثّاني
شهدت الخَطابة إقبالًا كبيرًا وازدهارًا واسعًا في العصور السّابقة: العصر الجاهليّ وعصر صدر الإسلام والعصر الأمويّ، واعتبرت من الفنون النّثريّة الشّفاهيّة المهمّة لقوّة تأثيرها في الأنفُس من مختلف الطّبقات الاجتماعيّة، حافظت على مكانتها وقوّتها في أوائل العصر العباسيّ في عهد كلٍّ من: السّفاح، والمنصور ، والمهدي، والرّشيد، ولم تَلبث طويلًا حتّى تراجعت مكانتها وضعفت، وظهرت فنونٌ نثريةٌ أخرى بدلًا منها.
لم يَتم إعطاء الخَطابة حريّة القول الّتي كانت تؤدّيها، فإنّ العباسيين قد سلبوا الخَطابة الحريّة مصدر قوّتها وازدهارها، كما أصبح النّثر المكتوب يَفوق النّثر الشّفاهي أهميةً ورِفعةً، وعلى إثر ذلك تراجع دور الخَطابة السّياسيّة، وضعفت الخَطابة الحَفْلية، أمّا الخَطابة الدّينيّة فلم يَعد الخلفاء يَتداولونها على ألسنتهم، لكنّ دورها ظلّ حاضرًا في المساجد في خطب الجُمَع والعيدين.
فقد نشطت الخَطابة الدّينيّة نشاطًا باهرًا إذ كانت المساجد تَمتلئ بحلقاتٍ للوعّاظ والقُصَّاص، فكان النّاس يَنجذبون إليهم، كما كانت خطبهم مستمدّة من القرآن الكريم والحديث النّبوي الشّريف وقَصَص الأنبياء والمرسلين، إضافةً إلى تفسير القرآن الكريم، وكان الواعظ يَختار أيّ وقتٍ يُريد ؛ فكانت المساجد مفتوحةً في جميع الأوقات، ومن كبار الوعّاظ: أبو الحسن علي بن محمد الواعظ المصري، وأبو حمزة الصّوفي.
خصائص الخَطابة في العصر العبّاسي الثّاني
ظهور الزّهد في العصر الأمويّ أدّى إلى استمراره في العصر العبّاسيّ، على إثر ذلك حظيت الخَطابة الدّينيّة بمنزلةٍ رفيعةٍ، واتّسمت بعدّة خصائص في العصر العبّاسي، من هذه الخصائص ما يأتي:
- تَبدأ بالحمد والثّناء والتّمجيد لله -سبحانه وتعالى-، وإطالة هذا الحمد والثّناء وربطه بموضوع الخُطبة ؛ فإذا تحدّث الخطيب عن الصّلاة يَذكر الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة المتعلقة بالصّلاة.
- لا تَتحدّد الخَطابة بطولٍ معيّن، فليس هناك خُطبة موحّدة من حيث الطّول، ويجب ألّا تكون طويلةً مملّة ولا قصيرةً مخلّة.
- موضوع الخُطبة الأساسي هو الإنسان، فكلّ الخُطب الدّينيّة تُركّز على الإنسان وَمَعدنه الحقيقي.
- تُشجّع على الزُّهد والتّقوى والصّلاح، فتُحذّر من الدّنيا، وتَدعو إلى الخير، وتَنهى عن المنكر.
- يُحاول الخطيب أن يُوازن الجمل في كلامه من حيث الطّول، ولا بأس أن يَقوم بالسّجََع ما لم يَتعمّد ذلك.
- يَستعين الخطيب في خُطبته بالشّعر الحَسَن في تأكيد كلامه، فيَتناول الأشعار الّتي موضوعها الحِكمة والموعظة والأخلاق الحَسَنة.
- إكثار الخطيب من استخدام الصّيغ الإنشائيّة ، كالتّوكيد والنّداء والاستفهام والتَّكرار.
- هيمنة العاطفة الدّينيّة على الخُطبة في أسلوبها المتّبع والمتراوح ما بين التّرهيب من العذاب والتّرغيب بالأجر والثّواب.
أسباب ضعف الخَطابة في العصر العبّاسي الثّاني
ضعفت الخَطابة بعد المائة الأولى من عهد بني العبّاس كما صرّح بذلك الشّيخ (محمد أبو زهرة) في كتابه "الخَطابة"، ومن الأسباب الّتي أدّت إلى ضعفها ما يأتي:
- أنّ العباسيين قد اشتدّ عودهم، وثبتت أركان الدّولة ودعائمها، وشارفوا القضاء على أبناء عمّهم العلويين في الشّرق، كما أنّ خلاف العباسيين قلّ فيما بينهم، فدوافع الخَطابة والحاجة إليها قد تراجعت.
- كان حُماة الدّولة العبّاسيّة من الفُرس والتّرك، فلم يُثيرهم الكلام العربيّ البليغ، إذ احتلّت العصبيّات الجنسيّة مكانًا بدلًا من العصبيّات القبلية الّتي وجدت عند العرب، فشأن الخَطابة هنا في حثّهم على الجِهاد، وإشعال الحماسة في نفوسهم.
- قل شأن العرب بين القبائل الأخرى، وضاعت نفوذهم، وفضّلوا الانحياز إلى الصّحراء، وبالرّغم من فصاحتهم وبلاغتهم فهم أحقّ النّاس بالبيان والفصاحة، إلا أن ضعف دورهم فضعفت الخَطابة فليس المتعرّب كالعربي.
- تعدّد موضوعات الكتابة وتشعّبها، فالخليفة أو الوالي أو القائد إذا أراد أن يَدعو جنوده استعان بالكتاب بدلًا من الخطاب، ما أدّى إلى الاستغناء عن الخَطابة والانحياز إلى الكتابة.
- تراجع الخلفاء عن الخَطابة سبَب في تراجع الكتّاب والطّبقة المثقفة عن الكتابة ؛ تقليدًا لملوكهم وخلفائهم، كما أنّ عامة النّاس أصبحوا يَستهينون بالخَطابة والخطيب، فقلّ احترامهم له، وتلاشت الرّغبة لديهم في القَوْل.
عوامل تطوّر النّثر في العصر العبّاسي الثّاني
ازدهر النّثر في العصر العبّاسي الثّاني حتّى أصبح منافسًا للشّعر وازدادت موضوعاته وتعدّدت، ويَرجع ذلك إلى أسباب أهمّها الآتي:
- تطوّر ثقافة العرب نتيجة للتّمازج الحاصل بين العرب والثّقافات الأخرى.
- تولّي الفُرس والتُّرك المناصب العليا في الدّولة العبّاسيّة .
- توسّع حركة التّرجمة من الحضارات الأخرى إلى اللُّغة العربيّة.
- ما وصل إليه العرب من نهضةٍ عقليّة.
- تعصّب أصحاب الثّقافات الأخرى إلى جنسيّاتهم.