تفسير قوله تعالى (وهديناه النجدين)
تفسير قوله تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)
لقد منَّ الله -تعالى- على الإنسان بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم نعمة الهداية والتوفيق إلى الخير، سواءً بالفطرة أم بالعقل أم بالرسل أم بالكتب السماوية، وقد بيّن الله للإنسان الطرق الموصلة إلى الخير والطرق الموصلة إلى الشر.
معنى كلمة النَّجْدَيْنِ لغة
تحمل كلمة النجدين في اللغة العربية معنيين اثنين، منها معنى الطريق الواضح ومفردها نجد، وقيل النجد هو المكان والطريق المرتفع البارز عن الأرض؛ ولذلك سميت بلاد نجد بهذا الاسم، لارتفاعها عما حولها من البلا.
معنى كلمة النَّجْدَيْنِ عند المفسرين
لقد فسّر المفسرون كلمة النجدين بمعنيين اثنين على النحو الآتي:
النجدان هما طريق الخير وطريق الشر
أو هما طريق الهدى وطريق الضلالة وكلاهما بالمعنى نفسه، وقد ذهب إلى هذا القول جماهير المفسرين من أهل العلم، وقد رجح هذا القول ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره وحشد له الروايات المأثورة التي تدل عليه وتؤيده.
النجدان هما الثديان اللذان يرضع منهما الإنسان اللبن في صغره
فينبت به لحمه وعظمه، فيكون المعنى أن الله -تعالى- فطر الإنسان وهداه؛ إلى الأثداء التي يمص منها اللبن ليتغذى عليه، وقد ذهب إلى هذا القول من المفسرين عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، في إحدى الروايات عنه والضحاك -رحمه الله-.
المعنى العام لقوله تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)
لقد جاءت هذه الآية الكريمة في معرض امتنان الله -تعالى- على الإنسان ببعض من النعم التي أنعمها عليه، يقول الله -تعالى-: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، فقد امتن الله -تعالى- على الإنسان بعيون يبصر بها، ويرى فيها ما ينفعه في دينه ودنياه، ولساناً يفصح به عما بداخله ويعبر فيه عن مراده.
وقد امتن الله عليه بشفتين لغاية الجمال في خلقته؛ ولإتمام الكلام، وليخفي بهما ما بطن من فمه، وليستعين بهما على الطعام والشراب، وقد هداه الله -تعالى- بعد ذلك إلى طريق الخير وطريق الشر، فإما أن يستعين بهذه النعم التي أنعمها الله عليه؛ ليسلك بها طريق الإيمان والخير والهداية، وإما أن يعرض عن نعم الله ويسلك طريق الشر والكفر والضلالة.
يقول الله -تعالى- في موضع آخر: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، فقد هدى الله -تعالى- الإنسان ويسر له الطريق وعرفه مؤداه؛ لينظر الله تعالى إلى صنيع الإنسان هل يشكر الله على ذلك فيؤمن لله ويستسلم له؟ أم أن هذا الإنسان سيعرض ويجحد نعم الله تعالى عليه فيكفر ويعاند.
وقد ذكر الله -تعالى- هذه الآيات في معرض الامتنان على الإنسان ليرى صنيعه بهذه النعم، فإنه حري بالإنسان بعد هذه النعم أن يشكر الله -تعالى- عليها لا أن يجحدها وينكر فضل الله تعالى عليه. بدليل قوله تعالى بعدها: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)، أي أن الإنسان بعد هذه النعم لم يشكر ربه بإظهار العمل الصالح .
ويحتمل المعنى كذلك أن تكون كلمة النجدين بمعنى الثديين، وهذا ليس ببعيد؛ إذ إن الآيات تحدثت عن النعم المادية المحسوسة التي أنعم بها الله -تعالى- على الإنسان، من عيون ولسان وشفتين، فمن المناسب أن يكون المقصود بالنجدين الثديين، اللذان يرضع منهما اللبن في بداية حياته.
ومن المناسب كذلك أن يكون ذكر العينين واللسان والشفتين مع النجدين بمعنى طريقي الخير والشر، حيث إن العيون واللسان والشفاه هي أدوات طلب العلم والهداية، فناسب أن يكون بعده ذكر نعمة الهداية لطريقي الخير والشر.
ومن عجيب البلاغة القرآنية في التعبير أن الله -تعالى- قد عبر عن طريقي الخير والشر بكلمة النجدين، حيث بيَّنا سابقاً أن النجدين طريقان مرتفعان بارزان، ومعلوم أن الطريق المرتفع يحتاج لجهد وصعوبة في بلوغه، وكذلك فإن طريقي الخير والشر صعبان؛ أما طريق الخير فيصعب سلوكه والسير فيه وأما طريق الشر فتصعب عواقبه ونتائجه.
أما كلمة (وَهَدَيْنَاهُ) فهي بمعنى الإلهام والإرشاد من خلال العقل الذي وهبه الله -تعالى- للإنسان والفطرة السليمة التي تؤدي به إلى معرفة خالقه ومعرفة الطريق التي تؤدي إليه، أو من خلال إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية التي أنزلها الله -تعالى- على رسله الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه-، فلم يترك الله -تعالى- الإنسان عبثاً من غير هداية وإرشاد.