تفسير سورة الشمس
شرح آيات سورة الشمس
تُعدّ سورة الشمس من السور المكيّة التي نزلت في مكة المكرمة، وهي في الجزء الأخير من المصحف، ويبلغ عدد آياتها خمس عشرة آية، وتضمنت السورة تهديدًا للمشركين؛ بسبب كفرهم وإعراضهم عن الإسلام، وحذرتهم من التكذيب برسالة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لكيلا يكون مصيرهم كالأمم السابقة، وللدلالة على أهمية هذا المضمون افتُتحت السورة بالقسم بمخلوقات عظيمة من صنع الله -تعالى- للدلالة على ألوهيته -تعالى- واستحقاقه العبادة.
وَالشَّمْسِ وَضُحاها
أقسم الله -تعالى- بالشمس المشرقة وضحاها؛ والإقسام بضحى الشمس هو قسَمٌ آخر، وأُضيف إليها الضحى؛ لأنّه يكون عند ارتفاع الشمس، وقيل: إنّ الضحى هو بهاء الشمس، وقيل: هو حرّها، وقال ابن عباس -رضي الله عنه- في تفسير الآية: "وَضُحاها؛ أي جَعَلَ فِيهَا الضَّوء وجعَلهَا حارّةً"، وقيل: هو انبساط الشمس، فيكون القسم بمخلوقات الله -تعالى- وهي الشمس وضحاها الدائم.
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها
يقسم الله -تعالى- بالقمر حين يتبع الشمس، فمعنى تلاها في الآية: أي تبِعها، وقيل: إن المقصود بذلك هو الليلة التي يكون فيها القمر هلالًا؛ فإذا غابت الشمس تمت رؤية الهلال بعدها، فالهلال يتلو الشمس في الظهور، وقيل: المقصود من ذلك هو القمر الذي يتبع الشمس في حال غروبها في النصف الأول من الشهر، فعندما تغيب الشمس يتبعها القمر في ظهوره، وقال أحد المفسرين: إن معنى تلاها أي أخذ من نورها؛ فالقمر يأخذ نوره من الشمس، وقد قيل أيضًا: إن المراد هو اتباع القمر للشمس في دورته واستدارته؛ فهو يُشبهها في إشعاعه ونوره.
وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها
يقسم الله -تعالى- بآية أخرى من آياته الكونية؛ وهو النهار حين يكشف الظلمة، وتتجلّى الشمس، فالنهار يُبين ضوء الشمس، ويكشفها، ويُظهر كمالها، فحين يكون النهار مكتملًا تكون الشمس واضحة أشد وضوح.
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها
يقسم الله -تعالى- بالليل حين يغشى الشمس فيُخفي شعاعها ونورها، والليل يغشى الشمس حين تغيب فيخفي ضوءها، ويأتي وقت الليل وهو الظلام، فتكون الأرض نصفها ظلمة ونصفها الآخر مشمسًا.
وَالسَّماءِ وَما بَناها
يقسم الله -تعالى- بالسماء العظيمة وما بناها، أي من بناها، فالله -تعالى- يقسم بنفسه، فهو سبحانه خلق السماء ورفعها من غير عمد، فالله -تعالى- أقسم بخلقِه العظيم؛ بالسماء وما اشتملت عليه من أسرار، وما فيها من طبقات، وما خلق فيها من ملائكة، وما فيها من أمور عظيمة لا يُدركها العباد؛ كالعرش واللوح المحفوظ وغيره، وأقسم -تعالى- بذاته العظيمة التي أبدعت في صنع هذه الكائنات.
وَالْأَرْضِ وَما طَحاها
يقسم الله -تعالى- بالأرض وما طحاها، أي وطَحوِها، والمقصود بطحوها؛ أي بسطِها وتذليلها لتيسير الحياة فيها، فالله -تعالى- قد خلق الأرض ممهدة للإنسان، واستخلفهُ فيها لإعمارها، وليتنعم بما فيها من خيرات، وطحاها له فجعلها مذللة ممهدة لعيشه، ليكون من السهل عليه العيش فيها والتمتّع بخيراتها.
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها
يقسم الله -تعالى- بالنفس ومن سواها؛ وهو الله -تعالى-، وأمّا النفس فقيل إنّ المقصود منها هو نبي الله آدم -عليه السلام-، وقيل إنها كلّ نفس خلقها الله -تعالى-، وعدّلها، أو ساوى بينهم في الصحة، وفي العذاب الذي ينالوه جميعًا.
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها
تتابع الآيات الحديث عن النفس التي خلقها الله -تعالى-؛ ومعنى ألهمها: أي علّمها وعرّفها طريق الصلاح والتقوى، وطريق الفجور والضلال، وقيل: علّمها الطاعة والمعصية، وقيل: إنّ معنى ألهمها أي عرّفها طريق الخير وطريق الشر، وقد ثبت عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه كان عندما يقرأ هذه الآية يقول: (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا)، أي كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يطلب من الله -تعالى- أن يجعل نفسه زكية، وأن يهديها -تعالى- إلى التقوى من عنده.
وروى أبو الأسود الدؤلي أن عمران بن حصين سأله عن أعمال النّاس إن كانت شيء كتبه الله عليهم وقدّره لهم، أم هي ما استقبلوه من رسالة نبيهم، فأجابه: بأنّه الأمر الذي كتبه الله عليهم، فقال له: (أَفلا يَكونُ ظُلْمًا؟ قالَ: فَفَزِعْتُ مِن ذلكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقُلتُ: كُلُّ شيءٍ خَلْقُ اللهِ وَمِلْكُ يَدِهِ، فلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقالَ لِي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ إنِّي لَمْ أُرِدْ بما سَأَلْتُكَ إلَّا لأَحْزِرَ عَقْلَكَ، إنَّ رَجُلَيْنِ مِن مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ فَقالَا: يا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ ما يَعْمَلُ النَّاسُ اليَومَ، وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَشيءٌ قُضِيَ عليهم وَمَضَى فيهم مِن قَدَرٍ قدْ سَبَقَ، أَوْ فِيما يُسْتَقْبَلُونَ به ممَّا أَتَاهُمْ به نَبِيُّهُمْ، وَثَبَتَتِ الحُجَّةُ عليهم؟ فَقالَ: لَا، بَلْ شيءٌ قُضِيَ عليهم وَمَضَى فيهم، وَتَصْدِيقُ ذلكَ: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاهَا فألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا})؛ ولهذا كان يدعوا رسول الله بالدعاء السابق.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها...وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها
أي فاز من زكى الله نفسه بطاعته، وخاب من دساها؛ أي خسرت النفس التي دسّها الله -تعالى- بالمعصية، وقيل: خابت نفسٌ أضلّها وأغواها، فالمقصود أنّه أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ورضاه، وقام بالأعمال الصالحة التي أمره بها -تعالى-، وخسر من دسّ نفسه بعصيان الله، ودسّاها من التدسيس؛ وهو إخفاء شيء في غيره، وقيل: إن دسّاها أي أغواها، وقيل: إن معنى خاب من دسّاها أي خسر الذي أخفى طاعته وأعماله الصالحة، وقد أقسم الله -تعالى- بالمخلوقات السابقة؛ لدلالتها على وحدانيّته، وعلى فوز المؤمن، وخذلان الكافر.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها...فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها
أي كذبت ثمود نبيها صالح -عليه السلام- بسبب طغيانِها وكفرها، وخروجها عن الحدّ في عصيانِها لله -تعالى-، ومعنى قوله -تعالى-: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا}، أي حين نهض الذي عقر ناقة صالح وذهب مسرعًا من غير تردد ليعقر الناقة، وقيل: إن اسمه هو قِدار بن سالف، وقد وصفه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث الذي رواه عنه عبد الله بن زمعة حيث قال: (أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْطُبُ، وذَكَرَ النَّاقَةَ والذي عَقَرَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {إِذِ انْبَعَثَ أشْقَاهَا}، انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ، مَنِيعٌ في رَهْطِهِ، مِثْلُ أبِي زَمْعَةَ)، وقيل أشقاها هو أحيمر ثمود.
وقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}: فقد كان صالح -عليه السلام- يذكّرهم ويحذّرهم من أن يقربوا الناقة، أو يمسّوها بسوء، وقيل: أي ذروا ناقة الله -تعالى-، وسقياها: أي دعوها وشربها؛ فقد كان لهم يوم يشربون به من البئر الذي عندهم، وجعل للناقة يوم تشرب به من البئر ذاته، فلم يعجبهم ذلك، فكذّبوا صالح -عليه السلام- وعقروا الناقة، والذي عقر الناقة هو الأشقى، وإنما قال -تعالى-: {فَعَقَرُوهَا}، لأنّهم قبلوا بفعلِه، ولم يُنكروا ذلك عليه.
فأهلكهم الله -تعالى- بذنبهم هذا، وبكفرهم وتكذيبهم لنبيهم، وعقرهم الناقة، وأطبق عليهم العذاب، ومعنى دمدم في قوله -تعالى-: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا}، أي دمّرهم وأهلكهم ربهم بسبب ذنوبهم وإجرامهم، وسوّى عليهم الدمدمة والهلاك الذي أرسله عليهم، فالله -تعالى- أرسل عليهم الصيحة، فلم يبقَ منهم صغير ولا كبير، ولا ذكر ولا أنثى.
وَلا يَخافُ عُقْباها
أي أنّ الله -تعالى- قد أهلكهم ولا يخشى عاقبة إهلاكهم، فهو الخالق والقادر في هذا الكون، لا يُسأل عما يفعل -سبحانه وتعالى-، وقيل: إنّ المقصود أنّه لم يخشَ الذي عقر الناقة عاقبة فعلته؛ وذلك بسبب جهله وطغيانه وكفره.
مُلخص لأفكار الفقرة السابقة: تشترك سورة الشمس مع بقية السور المكية في مضمونها؛ فهي تتمحور حول التوحيد والدعوة إلى الله -تعالى-، وتُقيم الأدلة على ذلك؛ بذكر آيات الله -تعالى- في الكون، وإظهار صُنعه البديع، فقد أقسم الله -تعالى- بسبع مخلوقات عظيمة، وتحذر السورة المشركين من الاستمرار في كفرهم، وتذكّرهم بمصير من سبقهم من الأمم وبالعذاب الذي لاقوه، وهي من قصار السور؛ وآياتها خمس عشرة آية.
أثر سورة الشمس على المرء المسلم
من آثار سورة الشمس على حياة المسلم ما يأتي:
- بيّنت للمسلم أن الفائز في الدنيا هو من فاز برضا الله -تعالى-، والخاسر هو من خسر نفسه بتركها في المعاصي والذنوب.
- تجعل المسلم يتفكّر في خلق الله -تعالى-، ويتأمل بديع صنعه -تعالى-، فقد أقسم الله -تعالى- في السورة بسبعة مخلوقات، جميعها تحمل منفعة للإنسان، مما يجعله يتأمل فيها ويشكر الله -تعالى- عليها.
- تجعل المسلم يستحضر الخوف من الله، ومن عقوبته، وتجعله يخشى من فعل المعصية ومن عدم إنكارها، فالله -تعالى- أهلك قوم ثمود، وجعلهم مشتركين مع الذي عقر الناقة، لأنّهم لم ينكروا عليه فعله، وتابعوه عليه.
- تبيّن للمسلم أنّ الذي يخشى العاقبة لا يبالغ في الفعل، والذي لا يخشاها يبالغ في عمله وسيلقى جزاءه، ولهذا شدد الله -تعالى- عذاب قوم ثمود وجعلهم عبرة للناس، فالله -تعالى- لا يخشى عاقبة إهلاكهم.
مُلخص لأفكار الفقرة السابقة: لسورة الشمس آثار عديدة على حياة المسلم؛ فهي تدل المسلم على طريق الصلاح؛ وذلك بتزكية النفس، كما تُعينه على تدبر آيات الله -تعالى-، والخوف من معصيته وما يترتب عليها من عقاب، ويعلم أن عليه أن يفكر في العواقب قبل الإقدام على أي فعل، كما تحثّ المسلم على عدم السكوت عن معصية، فالسكوت عنها مشاركة فيها.