بحث عن حلم الرسول صلى الله عليه وسلم ورحمته
اتصاف النبي بالحلم والرحمة
بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الذروة في الكمال البشري؛ وقد شهد له بذلك أصحابه وأعداؤه، وشهد له بذلك أقرب المقربين له، وكذا الذين سمعوا عنه أو درسوا سيرته -من بعيد-، ويكفيه فخرا -قبل قول البشر وبعده- أن شهد له بذلك ربه -سبحانه وتعالى- حين قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، و كان من جملة كمالاته اتصافه بخلق الحلم ، حلم القادر على إنفاذ غضبه، لا حلم الضعيف الذي لا يجد غير ذلك.
والحلم من صفات الله -سبحانه وتعالى-، وقد صرّحت بذلك آيات كريمات، وأمر الله -عز وجل- عباده ليتصفوا بها، وخير من اتصف بها نبينا محمد -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-؛ فكان حلمه يعمّ كل من حوله، فتجده يرحم الصغير والكبير، والجاهل والقاصد، وحتى العدو، بل تجاوزت رحمته إلى الحيوان وحتى الجماد.
حلم الرسول ورحمته مع قومه
هناك الكثير من مواقف حلمه -صلى الله عليه وسلم- مع قومه ؛ بالرغم من سفه وطيش ما لاقاه منهم، نذكر منها:
- حلمه مع عتبة بن ربيعة
جاءه يوما عتبة بن ربيعة -مبعوثا من قريش- يحاول أن يثنيه عن دينه بأسلوب الترغيب، فعرض عليه مجموعة من العروض، حيث عرض عليه المال -إن كان يريد بدعوته المال-، وإن كان يريد التشريف والمكانة فله ذلك؛ فلا يعملون أمراً دون الرجوع إليه، وإن كان يريد المُلك جعلوه ملكا عليهم، وإن كان يريد الزواج زوّجوه بعشر نساء.
وإن كان ما يقوله بسبب الجنون أو المرض بعثوه إلى أفضل الأطباء. فلما أكمل عتبة هذه العروض المغرية -على حد تفكير عتبة ومن أرسله-، لم يعنّفه النبي الحليم -صلى الله عليه وسلم- ولم يغضب -بالرغم مما تحمله العروض من سفه واتهام بطلب الدنيا- بل ردّ عليه بكل أدب، وتلا عليه بداية سورة (فُصّلت)، فلما سمع الآيات خاف وولى إلى قومه يقترح عليهم ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- وشأنه.
- حلمه مع أهل الطائف
ومن المواقف أيضا موقفه بعد أن تعرض للأذى الشديد والتكذيب والسخرية من أهل الطائف، حين خرج إليهم يدعوهم للإسلام بعد أن أُغلقت الأبواب في وجه الدعوة في مكة، فجاءه جبريل -عليه السلام- ومعه ملك الجبال يستأذنه بإطباق جبلين على أهل مكة والطائف، ولكنه يرفض لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحّد الله، فصلوات ربي وسلامه عليه من نبي رحيم رؤوف حليم.
- حلمه عندما فتح مكة
فمن تلك المواقف الدّالة على حلمه وحمته: حين تمكن من فتح مكة، وقال قولته الشهيرة: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
حلم الرسول ورحمته مع أصحابه
مواقف حلمه -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه أكثر من أن تحصى ، نذكر منها:
- حلمه ورأفته بأنس بن مالك
يصف خادمه أنس بن مالك حادثة لطيفة له مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مِن أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فأرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ، وفي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِما أَمَرَنِي به نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَخَرَجْتُ حتَّى أَمُرَّ علَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ في السُّوقِ، فَإِذَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قدْ قَبَضَ بقَفَايَ مِن وَرَائِي، قالَ: فَنَظَرْتُ إلَيْهِ وَهو يَضْحَكُ، فَقالَ: يا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟ قالَ قُلتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ، يا رَسولَ اللَّهِ).
- حلمه مع زوجاته -رضي الله عنهنّ وأرضاهنّ-
وهذا موقف آخر في بيته مع إحدى زوجاته، يرويه البخاري عن أنس بن مالك، قال: (كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فأرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فجَمَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الذي كانَ في الصَّحْفَةِ، ويقولُ: غَارَتْ أُمُّكُمْ. ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حتَّى أُتِيَ بصَحْفَةٍ مِن عِندِ الَّتي هو في بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إلى الَّتي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ في بَيْتِ الَّتي كَسَرَتْ).
- حلمه مع الرّجل الذي بال في المسجد
جاء رجل من الأعراب إلى المدينة بعد أن بلغه أمر الإسلام، وأراد أن يتعرف أكثر عنه، فلما وصل المسجد كان في حاجة لقضاء الحاجة، فما كان منه إلا أن توجه إلى المحراب فبال هناك! فقام إليه الصحابة يزجرونه ويغلظون عليه، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمرهم أن يصبوا فوق البول دلوا، وأخذ يعلم الرجل أن المساجد لا تصلح لمثل هذه الأعمال.
حلم الرسول ورحمته مع الأسرى
كان للأسرى نصيب في حلمه -عليه الصلاة والسلام-، نذكر لذلك قصتين:
- قصته مع ثمامة بن أثال زعيم من زعماء المشركين -زعيم اليمامة-
حيث أسره أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمر النبي بربطه في المسجد، وكان يمر عليه كل يوم ويسأله عن أمره، فيجيب ثمامة: إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت، واستمر ذلك ثلاثة أيام، فأمر بعدها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطلق سراحه، فما كان من ثمامة إلا وخرج من المدينة فاغتسل وعاد إلى المسجد ليعلن إسلامه، لِما رآه من خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
- موقفه مع سهيل بن عمرو لما أُسر في غزوة بدر
كان سهيل خطيبا مفوّها يقف ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- وضد دعوته، فأراد عمر أن يقتلع أسنان عمرو، فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فلعل الرجل يقف مدافعا عن الإسلام يوماً، ولقد كان ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوقف سهيل بن عمرو يثبّت الناس على الدين في الطائف في أحداث الردة.
حلم الرسول ورحمته بأعدائه
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حليما حتى بأعدائه ، ومواقفه في ذلك كثيرة نذكر منها:
- موقفه مع الرجل الذي رفع عليه السّيف
كان -صلى الله عليه وسلم- في طريق بعض غزواته، فنزل الجبش يستريحون، وأخذ كل منهم يستظل تحت شجرة، ونام كثير منهم من شدة التعب، ونام النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة وعلق عليها سيفه، وإذا برجل يأخذ سيف النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرفعه ويقول: من يمنعك مني يا محمد؟
فيرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: الله، ويكررها ثلاثا، فيسقط السيف من يد الرجل، فيأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- السيف ويرفعه على الرجل ويقول: من يمنعك مني يا أعرابي؟ فيقول الأعرابي: كن خير آخذ، فيعفو عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- موقفه المشهور -صلى الله عليه وسلم- مع ألد أعدائه -كفار قريش-
الذين عادوه وعذبوه وأصحابه، وأخرجوه من بلده، وظلوا يقاومون نور الله حتى آخر لحظة، وعندما تمكن منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة فإذ به يعفو عنهم ويقول لهم: اذهبوا فأنت الطلقاء.
آيات دالة على حلم الرسول ورحمته
من الآيات الدالة على حلمه -صلى الله عليه وسلم- ورحمته:
- قوله تعالى في سورة آل عمران: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
- وقوله تعالى في سورة التوبة: (لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ).
- وقوله تعالى في سورة الأنبياء: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).