بحث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
علم الناسخ والمنسوخ من أشهر وأهمِّ علوم القرآن ؛ لأنَّ له صِلة كبرى بالتشريع، قال الإمام مالك: "لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه"، قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: "لا، اختلاف أصحاب -محمد صلى الله عليه وسلم-، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك يفتي".
كُتب في هذا العلم العديد من المؤلفات قديماً وحديثاً ومن أحسنها؛ تأليف القاضي أبي بكر العربي، ولقد أجمع المسلمون على وقوع النسخ في القرآن الكريم، لقوله -تعالى-: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقوله -تعالى-: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
معنى النسخ
للنسخ في اللغة معنيان؛ الأول: بمعنى إزالة الشيء وإعدامه، والثاني: نقل الشيء وتحويله مع بقائه في نفسه، وفي اصطلاح الفقهاء المتأخرين: رفع الشارع حكماً شرعياً بدليل شرعي متأخر، ومعنى رفع الحكم الشرعي؛ أي عدم تعلُّقه بأفعال العباد المكلفين لا رفعه هو، و الدليل الشرعي هو: وحيُ الله مطلقاً، فيشمل الكتاب والسُّنَّة.
والناسخ: هو الحكم الرافع للحكم الآخر، والمنسوخ: هو الحكم المرتفع، والقاعدة المطردة عند المتأخرين في النسخ؛ إنَّ النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار، وعند السلف يختلف المعنى الاصطلاحي للنسخ، فمصطلح النسخ عندهم يدخل فيه تغير الأحكام عند المفسرين.
والعامّ والخاصّ، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيّد، ولمعرفة المكيّ والمدنيّ من الآيات أهمية كبيرة في علم الناسخ والمنسوخ؛ لأنَّ الآية إذا كانت مكيَّة وفيها حُكم، ونزلت آية مدنية فيها حُكم آخر، فعُلِم أنَّ الآية المدنية نسختها.
قواعد النسخ في القرآن
للتحقُّق من وقوع النسخ هناك شروط يجب توفرها، وهي كما يأتي:
- إن كلُّ قول وعمل كان بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنَّه حتماً لا يجوز أن يكون ناسخاً، ويستحيل أن يكون إجماعاً.
- الإجماع لا ينسخ القرآن أو السنة.
- أن يكون المنسوخ حكماً شرعياً، وليس خبراً مثلاً.
- أن يكون دليل النسخ في رفع الحكم الشرعي دليلاً شرعياً من الكتاب أو السنة.
- أن يكون الدليل الرافع للحكم متراخياً.
- أن يكون بين الدليلين تعارض حقيقي.
- ألا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيداً بوقت معين، لأنَّه ينتهي بوقته وليس بالنسخ.
أقسام النسخ للقرآن
سأذكر أقسام النسخ فيما يأتي:
- نسخ القرآن بالقرآن
اتَّفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن، كقوله -تعالى-: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين) ، نُسخ بقوله -تعالى-: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
- نسخ القرآن بالسنة
يجوز عند جمهور العلماء؛ مالك وأبو حنيفة وأحمد نسخ القرآن بالسنة المتواترة؛ لأنَّ السنة أيضاً من الوحي لقوله -تعالى-: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، وعند الجمهور عدم جواز النسخ ب خبر الآحاد ؛ لعدم جواز نسخ ما هو قطعي الثبوت بدليل ظني الثبوت.
كذلك منع الشافعي -رحمه الله- وأصحاب المذهب الظاهري النسخ بالسُّنة مطلقاً ولو كانت متواترة؛ واحتجُّوا بقوله -تعالى-: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
- نسخ السنة بالقرآن
كما في نسخ القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام في مكة المكرمة، فالأولى ثبتت بالسنة، ونُسخت بالقرآن في قوله -تعالى-: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
أنواع النسخ في القرآن
سأذكر أنواع النسخ في القرآن فيما يأتي:
- نسخ التلاوة والحكم معاً
ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: (نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل أيضا خمس معلومات)، فهنا الحكم نُسِخَ ولا وجود له في المصاحف، فنُسخت تلاوته.
- نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
مثال ذلك نسخ حكم آية العِدَّة بالحول مع بقاء تلاوتها، في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، و التي نَسخت بقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) .
- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم
مثال ذلك آية الرجم التي وردت في أخبار الآحاد، فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: (كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة)، وهذه الآية ليست موجودة في المصاحف؛ أي نُسخت تلاوتها، وبقي حكم الرجم.
موقف العلماء في عدد الآيات المنسوخة
تعدَّدت آراء العلماء في عدد الآيات المنسوخة ؛ فمنهم المتحرِّي الذي يعتمد على النقل الصحيح في النسخ، ومنهم المُكثر الذي اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه.
وذهب ابن حزم إلى أنَّ آيات النسخ تبلغ مئتين وأربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس إلى أنّها تبلغ مئة وأربعاً وثلاثين آية، وأوصلها ابن سلامة إلى مئتين وثلاث عشرة آية، وقصرها عبد القاهر البغدادي إلى ست وستين آية، واعتبر ابن العربي أنَّ عدد الآيات المنسوخة لا تتجاوز مئة آية.
وسبب هذا التعدد في الآراء؛ أنَّ البعض أدخل في النسخ ما ليس منه؛ فمنهم من اعتبر ما أبطله الإسلام من أمر الجاهلية، أو من شرائع الأمم السابقة نسخاً، كتحديد عدد الزوجات بأربع، ومنهم من اعتبر التخصيص والبيان نسخاً، وما شُرع لسببٍ ثمَّ زال السبب من المنسوخ.