بحث عن الجاحظ
التعريف بالجاحظ
الجاحظ هو من كبار أئمّة الأدب فهو إمام الأدباء في العصر العباسي الثاني ، وهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي بالولاء الذي وُلد في البصرة سنة 159هـ بحسب بعض المؤرّخين، وسُمّي بالجاحظ لجحوظ عينيه، كما عمل جمالاً عند عمرو بن قلع الكناني، ومن صفاته أنّه كان حاد الذكاء، ذا جلدٍ وصرامةٍ وقدرةٍ على الكلام، وبديهة ورأي جيِّد، كما كانت له أساليب ومذاهب وآراء في الأدب واللغة خاصة به، ووضع طريقة بالإنشاء عُرفت باسمه، لذا اعتُبر قدوة المنشئين وإمامهم في ذلك العصر مثلما كان ابن المقفع إمامهم في العصر الأول.للتعرّف أكثر حول سبب تسمية الجاحظ بهذا الاسم يمكن قراءة المقال الآتي: لماذا سمي الجاحظ بهذا الاسم
نسب ومولد الجاحظ
ينتسب الجاحظ إلى بني كنانة فهو بصريٌّ، وقد نشأ عصامياً معتمداً على نفسه في كسب رزقه، كما أحبّ العلم واللغة والأدب فتعلم على أيدي العلماء البصريين وكان واسع الثقافة والعلم، فجمع مختلف ضروب الثقافة والعلم في زمانه، أما تاريخ ولادته فلم يحدده المؤرخون بدقة، كما أنّه هو نفسه كان لا يعلم ذلك التاريخ، وقد روى ياقوت أنّه وُلد سنة 150هـ مستنداً إلى خبر للجاحظ نفسه الذي جاء فيه: (أنا أسنّ من أبي نواس بسنة، وُلدت في أول سنة خمسين ومائة وهو ولد في آخرها)، لكن ياقوت الرومي لم يضع إسناداً لهذا الخبر، ومن جهةٍ أخرى فإنّ تاريخ ولادة أبي نواس ليس معروفاً، وقد جعل بعض المؤرخين ولادة الجاحظ سنة 150هـ، أو 159هـ، أو 160هـ، أو 163هـ، أو 164هـ، 165هـ، كما جعل أصحاب التراجم أبا يوسف القاضي المتوفي سنة 182هـ أستاذاً للجاحظ في علم الحديث، أما التاريخ الصحيح المعروف هو تاريخ وفاة الجاحظ وهو سنة 255هـ، وقد حسب المؤرخون عمره مستندين على نكتة زعموا أنّه قالها في أواخر حياته جاء فيها: (والأمر في ذلك أنّي قد جزت التسعين)، وفي خبر آخر: (أنا في هذه العلل المتناقضة التي يتخوّف من بعضها التلف وأعظمها ستة وتسعون سنة).
نشأة وحياة الجاحظ
عاش الجاحظ قرابة المئة عام وكان العصر الذي عاش به عصر ازدهارٍ لكافة العلوم العربيّة والإسلاميّة، فقد تبوّأت اللغة العربية مكانة رفيعةً في تلك الفترة، كما نشطت حركة الترجمة والنقل عن الثقافات الأجنبيّة، وقد شهدت الدولة الإسلاميّة أيضًا نهضةً ورقيّاً في كافة ميادين الحياة، ويعود الفضل في ذلك التقدم والازدهار للخلفاء والوزراء، كما انتشرت الأسواق الأدبية التي كانت تُقام فيها حلقات الشعر ويُعرض فيها كلّ جديد في اللغة والأدب مثل سوق المربد.
كان الجاحظ ذكياً جداً وصبوراً على طلب العلم، وقد تتلمذ على أيدي فحول العلم والأدب حينذاك، فقد أخذ اللغة والأدب عن الأصمعي ، وأبي عبيدة، وأبي يزيد الأنصاري، والنحو عن الأخفش، والحديث عن حجاج بن محمد، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ثمّ تثقف ثقافة الاعتزال وكان أهم أستاذ له في ذلك النظّام، فكان المعتزلة يهتمون بالاطلاع على الديانات الأخرى ومعرفتها جيداً لأنّهم جعلوا من أنفسهم دعاةً للإسلام، وكانوا يعتقدون أنّ عليهم أن يكونوا على معرفة تامة بدينهم وبالديانات الأخرى، فدرسوا الفلسفة اليونانية لأنّ أعدائهم كانوا قد اتخذوها وسيلةً للدعوة إلى دينهم، لذا درسوا ثقافة أرسطو وما فيها عن علم الحيوان، وصبغوها بطابعهم الديني.
كان الجاحظ شديد الولع بالقراءة والمطالعة، حتى أنّه كان يستأجر دكاكين الوراقين ويبيت فيها للقراءة والدراسة، وقد اندمج في الحياة الواقعيّة واستفاد منها، وتنوّعت المواضيع التي درسها وكتب فيها، ومنها الحيوانات والنباتات، وقد كان لاندماج الجاحظ في المجتمع واختلاطه بكافة فئاته ومجالسته للأدباء والشعراء والملوك والأمراء الأثر الواضح في تنمية معرفته وزيادة تجاربه.
علم وثقافة الجاحظ
كان الجاحظ في بداياته يعيش حياةً بسيطة، فقد نشأ في طبقةٍ اجتماعيةٍ فقيرةٍ مكتسبًا قوته من عمل يديه، ورغم ذلك فهو لم يترك العلم والمطالعة، فكان يعمل ويتعلم في آنٍ واحد، وكان يحضر الدروس في المسجد، ثمّ اتصل بالشيوخ والأئمة آنذاك وأخذ عنهم كما سبق الذكر، كما خالط أعلام الترجمة والكتابة وقرأ ما تيسر له من الكتب المترجمة أيام المنصور والرشيد و البرامكة والمأمون، ومن الجدير بالذكر أنّ المكتبات العامة لم تكن متوفرة في تلك الفترة أي في أواخر القرن الثاني للهجرة، كما كانت الكتب نادرة وغالية جداً، فلم تكن إمكانيات الجاحظ المادية تسمح له بشرائها، لذا كان يحصل عليها عن طريق أساتذته وأصدقائه الذين كانوا يضعون مكتباتهم تحت تصرفه.
اشتملت ثقافة الجاحظ على كافة العلوم المعروفة في عصره، فدرس المنطق والفلسفة والرياضيات والطبيعيات والسياسة والأخلاق و الفراسة ، وقد أبدع فيها جميعها، وتكوّنت لديه ثقافة متنوعةٍ وغزيرةٍ، وحين ذاك انتقل إلى بغداد ليزيد من معرفته واطلاعه، ثمّ اتصل فيها بالكبار من رجال الدين وعلماء اللغة.
اعتبر الجاحظ من أغزر المؤلفين إنتاجاً، فكتب عن الأدب والشعر والديانات والعقائد، والإمامة والنبوة، والمذاهب الفلسفية، وبحث في السياسة والاقتصاد والأخلاق وطبائع الأشياء، وتكلم عن العصبية وتأثير البيئة، ونظر في العلوم التاريخية، والجغرافية والطبيعة، فكتب في المدن والأمصار والمعادن وجواهر الأرض، والكيمياء والنبات والحيوان، والطب والفلك، والموسيقى والغناء وكتب في الجواري والغلمان، والعشق والنساء، والنرد والشطرنج، وغير ذلك مما يتناول الحياة الاجتماعيّة والأدبيّة والعلمية في عصره وقبل عصره، أما عن العلماء والشيوخ الذين أخذ عنهم الجاحظ فقد قال في ذلك أبو الحسن الدهماني: (لا ريب أن للجاحظ علماء وشيوخ، أخذ عنهم العلم في شتى فروعه، فقد سمع من الأصمعي وكان كثير الرواية عنه، وأبو عبيدة عمر بن المثنى، وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن أبي الحسن الأخفش، وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، ثم إنه تلقف الفصاحة من العرب شفاهةً بالمربد، وكذلك أخذ عن أستاذ الأصمعي خلف الأحمر، الذي اشتهر برواية الشعر ونحله، وكان الجاحظ معجب بخلف كثيراً، رغم أنّه لم يجالسه إلا قليلاً، فقال الجاحظ في ذلك: (لقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي ويحيى بن نجيم، وأبي مالك عمرو بن كركره، مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحداً منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله)، ثمّ إنّ الجاحظ كان قد اكتسب الثقافة اليونانية عن طريق علماء الكلام، وعن طريق مصاحبته لحنين بن إسحق وسلمويه).
نزعة الجاحظ العقليّة
امتازت مدينة البصرة في العصر العباسي بنزعتها العقلية في مختلف الميادين، والتي قامت على تحكيم العقل في الأمور مثل أسطورة أو قول مأثور أو عقيدة أو حتى حقيقة، وتقبُّل ما قد يصل إليه العقل حتى وإن خالف هذا ظنه أو اعتقاده، وكان من الطبيعي أن يتأثر الجاحظ بهذه النزعة خاصة مع قابليته الطبيعية المهيئة لذلك نتيجة للظروف البيئية التي عاشها، فقد كان كثير المطالعة والقراءة، محبّاً للاطلاع على كل علمٍ، فلم يكن يقع بين يديه كتاب إلا قرأه.
أبرز مؤلّفات الجاحظ
كتب الجاحظ في كافة العلوم وفنون الأدب المعروفة في زمانه، كما أنّ كتبه تجمع بين العلم والفائدة والبراعة في التعبير وسحر البلاغة في الأسلوب، كما يجد القارئ متعة في قراءتها لما فيها من تشويق ونوادر وسخرية، ويقال إنّ الجاحظ هو أول من بدأ التأليف في الأدب وعلى نهجه سار الأدباء والمؤلفون، كما تعتبر مؤلفات الجاحظ التي تعدّ بالمئات مراجع مهمة فلولاها لاندثر الكثير من أدب العرب، وقد وردَ في مقدمة كِتاب التاج أن الجاحظ ترك نحوًا من ثلاثمائة وستين مؤلَّفًا رآها سبط ابن الجوزي كلها تقريبًا في مشهد أبي حنيفة النعمان ببغداد. أما أبرز مؤلفات الجاحظ فهي كالآتي:
الحيوان
هو أوّل كتاب جامعٍ وضع في علم الحيوان والذي يتكون من سبعة أجزاء ويبحث عن طبائع الحيوان وما ورد فيه من الأخبار والقصص والنوادر والخرافات والفكاهة والمجون، والذي تحدث فيه الجاحظ عن العرب، وأحوالهم، وأخبارهم، وأشعارهم، إضافةً لما قام به من تجاربٍ بنفسه، وقد تميز الكتاب بالاستطراد، فقد كان الجاحظ يستطرد داخل الموضوع نفسه لإمتاع القارئ فينتقل به من موضوع إلى آخر، وقد ضم الكتاب موضوعات شتى وأخبار ممتعة وفوائد قيِّمة تمثل معظم المعارف الإسلامية وما بلغته في القرن الثالث، كما احتوى كتاب الجاحظ على الكثير من تفسير آيات القرآن الكريم والحديث الشريف، و الأشعار الجاهلية والإسلامية لكبار الشعراء المخضرمين، وآراء المتكلمين ومذاهب الفرق الإسلامية، وشبه الملحدين والزنادقة والرد عليهم، بالإضافة إلى معارف الهنود واليونان والفرس، مما ترجمه العرب ومما تسوق إليه المناسبة في ذلك الكِتاب.
البيان والتبيان
تناول الجاحظ في هذا الكتاب موضوعات متفرقة، مثل علم الأدب و البيان ، وفنّ القول، ووجوه البلاغة والفصاحة، وآفات اللسان، وميّز بين عيوب الناس في النطق مثل اللثغة واللكنة والحصر والعيّ، كما خصص باباً واسعاً للخطابة لأنّها كانت في عصره رمزاً للفصاحة والبلاغة، وطريقة من طرائق الجدل وعلم الكلام، فتحدث الجاحظ عن أصولها وقواعدها وذكر شيوخها وأعلامها، ووضّح عيوبها ودعا إلى تجنبها وذكر صفات الخطيب الناجح، كما تناول الكثير من نماذج الشعر والحكم والأقوال، وقام بتحليل ونقد بعض المقطوعات الشعرية، وذكر أيضاً بعض القضايا النقدية التي كانت موجودة على أيامه، كثنائيّة اللفظ والمعنى، والقديم والحديث والسرقات، والمذهب البديعي، وتعرض أيضاً إلى القصص والأخبار والرواية، كأخبار الشعراء والخطباء والقُصاص وغيرهم، وقد جمع الجاحظ في تصانيف كتابه بين الجد والهزل، وملأه بروح الدعابة والفكاهة، مما جعله مميزاً ونادراً.
البُخلاء
كتاب البُخلاء هو كتاب علم وأدب وفكاهة، وهو عبارة عن وصف للحياة الاجتماعيّة في صدر الدولة العباسيّة، بأسلوبه المعروف ببيانه الجزل الرصين، كما أضفى عليه من روحه الخفيفة، فأخبر في كتابه عن أسرار البيوت وخفاياها، وأحاديث الناس في أمورهم الخاصة والعامة، وكشف عن الكثير من صفاتهم وعاداتهم وأحوالهم في أوضح بيان، وأدق تعبير، وأبرع وصف، وقد يبدو للوهلة الأولى أن الجاحظ كان قد كتب كتاب البخلاء وهو في سنّ الشباب، وهو سنّ العبث والسخرية والتندر والتفكّه في عيوب الناس، لكن ما يظهر في الكتاب من أخبار يقود إلى أنّه كتب الكتاب أو جمعه وهو هرِم يحمل فوق كتفيه أعباء السنين.
كتاب التّاج في أخلاق الملوك
اشتهر هذا الكتاب باسم (أخلاق الملوك)، وقد وضعه الجاحظ أيام كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسيّة وقبّة الإسلام، أيام كان العراق مزدهراً بالعلوم والمعارف، وكان طلاب العلم والآداب يقصدون مُدنه وقراه، فيروي هذا الكتاب قصصاً نادرة عن حياة الملوك والأمراء في عصرالجاحظ ويقدم فيه أسلوب حياتهم، وقد وصف فيه الخلفاء والأكابر في حفلاتهم الرسمية وحشودهم العامة إلى ما هنالك من طرائف ملوكية وترتيبات سياسية اقتبس العرب بعضها من الفرس خاصة في عهد المأمون، وفي الكتاب يظهر التأثير الكبير للحضارة الفارسية في الحضارة الإسلاميّة على عهد العباسيين.
شرح الجاحظ في كتابه أحوال أمراء المؤمنين، وسادات المسلمين في خلواتهم وأنديتهم ووصفهم في ليالي أنسهم وسهرهم، ومسارح لهوهم ومراتع طربهم، وتحدث أيضاً عن أساليبهم في اللبس والطيب وغير ذلك من الرسوم والآداب، هذا ودلت عبارات الكتاب على أنّ الجاحظ استخدم بعض التصانيف التي وضعها الفرس في هذا المعنى، وأورد بعض سننهم التي لم يبقى لها مجال بعد ظهور الإسلام، لذلك يُعتقد أنّ الجاحظ كان قد استعان بالكتب التي نقلها المترجمون من الفارسية إلى العربية.
رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ هي من الآثار الأدبيّة الشهيرة التي انتشرت قديماً وحديثاً وطُبعت عدة مرات، وشرحها علماء معروفون، وهي مجموعة من الرسائل النادرة التي تبحث كلّ واحدة منها في موضوع واحد بعمقٍ واستفاضةٍ تثير الإعجاب والتقدير لهذا العقل الجبار، فيعتقد القارئ أنّ هذا الكاتب متخصص بهذا الموضوع فقط، كما يأتي بالإثباتات والأدلة التي تدعم فكرته، مما يجعل قوته الفكرية تبرز دهشتنا بعظمته، ومما يزيد من أهمية هذه الرسائل أنّها حفظت لنا نوادر من الشعر لا توجد في مصادر أخرى، مثل شعرٍ لأبي دلف، ولابن أبي فنن، وسعيد بن حميد، والعكوك وغيرهم.
أسلوب الجاحظ اللغويّ والأدبيّ
اشتُهر الجاحظ بأسلوبه الإنشائي الذي لا يوجد من كتّاب العربية من يتفوق عليه فيه، فهو في النثر ك البحتري في الشعر، فامتاز أسلوبه الإنشائي برقيّ الألفاظ والجمل، والسهولة والوضوح، وسحر البيان، كما تظهر شخصية الجاحظ بقوة في كتاباته، كما يكثر فيه أيضاً من الاستطراد حتى يخرج بالقارئ عن الموضوع الرئيسي ليتناول موضوعاً غيره ثمّ يعود للموضوع الأول، وهذا يدل على غزارة مادته وطاعة الألفاظ له وكثرة المران على الجدل، فلم يترك الجاحظ موضوعاً من مواضيع الحياة إلا وكتب فيه، فقد كتب في التوحيد والقرآن ومذاهب الفِرَق الإسلامية، وكتب في الأدب وفنونه شعرًا ونثرًا، وجِدًّا وهزلًا، وكتب في الأخلاق والاجتماع وطبائع الناس، ولم يَفُتْهُ أن يكتب في الطب والكيمياء، وأبدع في دقة التصوير وحكاية الواقع ووصف الحديث، ثمّ إنّ أدب الجاحظ واقعي صريح يصور الحقيقة كما هي، ويرى في ذلك السبيلَ الأقوم فيدعو إليه ويعيب من يرغب عنه.
امتاز أسلوب الجاحظ أيضاً بالسخرية والنظر الثاقب، وخصوبة الخيال، وخلط الجد بالهزل، ويعتبر الجاحظ هو مبتكر هذا الأسلوب، وهو يرى أنّ المزاح شعبة من شعب السهولة، وصور ذلك فقال: (وليس ينبغي لكتب الآداب والرياضيات، أن يُحمل أصحابها على الجد الصرف، وعلى العقل المحض، وعلى الحق المر، وعلى المعاني الصعبة، التي تستكد النفوس، وتستفرغ المجهود، وللصبرغاية وللإحتمال نهاية، ولا بأس بأن يكون الكتاب موشحاً ببعض الهزل).
الجاحظ شاعراً وناقداً في الشعر
كان الجاحظ شاعراً وناقداً في الشعر، فكان يرى أن الشعر يقوم على أربعة أركان؛ الصبغة، والصياغة اللفظية، والوزن، والتصوير، وهذه بعض آراء الجاحظ حول الشعر:
- اعتقد الجاحظ أنّ الشعر حديث الميلاد، فعاد به إلى امرئ القيس و المهلهل ، كما أرجع جذوره إلى أرسطو و أفلاطون في الأدب اليونانيّ القديم.
- رأى الجاحظ أنّ للشعر قيماً منها فردية تعود إلى الشاعر المادح والممدوح، ومنها اجتماعيّة، وهي التثقيف وما يلعبه الشعر في حياة العرب، فهو الذي أشاد بمُثلهم العليا، كالمروءة والكرم والشجاعة، فالشعر هو سجل مآثرهم، كما ذكر الجاحظ وظيفة أخرى للشعر فنيّة ووظيفة نفسيّة كذلك.
- لا يعتبر الشعراء كلهم في رأي الجاحظ في مرتبة واحدة من حيث إجادة الشعر، فكان يرى أنّهم مقسمون إلى طبقات مختلفة، فمنهم الذين يهتمون بتنقيح شعرهم وتهذيبه وإعادة النظر فيه، فهو يعتبرهم متكلفون ومتصنعون في شعرهم، أما من لا يبالغوا في تنقيح أشعارهم، ولا يتكلفوا في صنعتها فقد أطلق عليهم اسم الشعراء المطبوعين؛ أي الذين يكونون على طبيعتهم دون تكلُّف وتصنُّع.
- أثار الجاحظ مسألة اللفظ والمعنى، فكان يدعو إلى الاهتمام بصياغة الجمل والعبارات بأسلوب وسط، وألفاظ لا عامية ولا غريبة، ويدعو إلى مطابقة الكلام مع مقتضى الحال.
- اعتنى الجاحظ أيضاً بموضوع الانتحال والسرقات الشعرية، ورأى أنّها حالة معيبة ومزرية.
- درس الجاحظ أيضًا مسألة التشابه والموافقه، فمن آرائه في تلك القضية أنّه رفض بناء القصيدة على وتيرة واحدة وفي موضوع واحدٍ.
هذه بعض الأبيات الشعريّة للجاحظ:
كَسحِ الهَجرِ ساحَةَ الوَصلِ لِما
غَبَرَ البَينِ في وُجوهِ الصَفاءِ
وَجَرى البَينُ في مَرافِقِ ريش
هِيَ مَذخورَة لِيَومِ اللِقاءِ
فَرَشَ الهَجرُ في بُيوتِ هُمومِ
تَحتَ رَأسي وَسادَةَ البَرحاءِ
حينَ هَيَّأَت بَيتُ خيشٍ مِنَ الوَص
لِ لِأَبوابِهِ سُتورُ البَهاءِ
فَرَشَ البَحرُ لي بُيوتَ مَسوح
مُتَكاها مُطاوِعُ الحَصباءِ
رَقَّ لَلصَّبِ مِن بَراغيثِ وَجد
تَعتَري جِلدَهُ صَباحَ مَساءِ
مكانة الجاحظ اللغويّة والعلميّة
إنّ للجاحظ مكانة عظيمة بين اللغويين العرب، فهو بالنسبة لهم قدوة فقد ساروا على نهجه، واستطاع بما تمتع به من مؤهلات البحث اللغوي أن يترك آراء قيّمة في نشأة اللغة وتطورها، والكثير من الآراء في الظواهر اللغوية والنحوية والصرفية والصوتية، فكتب في اللغة عن نشأة اللغة، والعلاقة بين اللغات وبعضها، وتفضيله بعض اللغات على بعض، وأول من تكلم بالعربية، وأثر المجتمع على اللغة، والتطور اللغوي، وعيوب الكلام، وأما النحو فلم يتوسع الجاحظ في دراسته لتحفظه على هذا العلم والخوض في بحوثه على الرغم من علمه بقضايا النحو الكبرى التي عرض بعضها في كتبه، مثل قضية الجمع، وقضية التركيب الإضافي ، وقضية المؤنث والمذكر، وقضية التصغير، كما اهتم الجاحظ بالثقافة الصوتية، فتحدث عن الجهاز الصوتي، ومخارج بعض الأصوات، ومخرج الهواء والقوانين الصوتية، وأصوات الأمم.
شيخوخة ووفاة الجاحظ
قدر للجاحظ أن يعيش طويلاً فقد قلب الأيام وقلبته، ونهل من تجاربها ما أغنى علمه وفكره، لكنّ المرض هدّه في شيخوته، فقد أصيب بالفالج، وفي هذا كان يقول: (اصطلحت على جسدي الأضاد، إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي، وكان يقول أنا جانبي الأيسر مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت، وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها، وأشد ما علي ستٌ وتسعون سنة)، وقد مات الجاحظ وفق القصة المشهورة تحت كتبه التي انهارت عليه، وقد توفي الجاحظ في محرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة عن عمر يناهز خمس وتسعين سنة ونيف رحمه الله.