التفسير الموضوعي
تعريف التفسير الموضوعيّ
يرتكز التفسير الموضوعي لآيات سور القرآن الكريم على معنيَين رئيسيّين، هما:
- المعنى الأوّل: التركيز على إظهار وحدة سُور القرآن الكريم؛ أي تتمّ دراسة سورة من سُور القرآن الكريم؛ لإثبات ترابُط أجزائها، وتكامُل معاني آياتها، وبيان القاسم المُشترَك بين مواضيعها، بشكل يُظهرها كسورة تتحدّث عن موضوعٍ واحدٍ؛ لا فرق بين أوّلها وآخرها، وهذا النوع من التفسير بهذا المعنى حديثٌ نسبيّاً، وذو علاقةٍ وثيقةٍ مع علم المناسبة؛ حيث يركّز كلاهما على وحدة موضوع السورة بآياتها، وكأنّها سورةٌ مُستقِلّةٌ بنظامها وشخصيّتها، بحيث تُرَدُّ مواضيعها الجزئيّة إلى موضوعها الرئيسيّ، فتكون لتلك السورة خصوصيّتها عن باقي سُور القرآن الكريم.
- المعنى الثاني: التركيز على موضوعٍ معيّنٍ، والبحث عن كلّ ما يتعلّق به من سُور القرآن الكريم، ومثال ذلك أن يبحث الناظر في كتاب الله عن موضوع الصبر في القرآن، فيجمع الآيات التي تتعلّق به جميعها، ويُفسِّر ما أُبهِم من تلك الآيات، ويُقيِّد ما أُطلِق منها، ويُبيّن ناسخها من منسوخها، ويُخصّص ما كان عامّاً منها، فتكون نتيجة البحث تكامُل الموضوع من جوانبه جميعها؛ برَدّ المُتشابه منه على المُحكَم، وهذا النوع من التفسير وإن كان معروفاً عند الأقدَمين، إلّا أنّ التوسُّع فيه كان مُتأخِّراً.
نشأة التفسير الموضوعيّ وتطوُّره
المرحلة الأولى
نشأ علم التفسير الموضوعيّ بشكلٍ فِعليٍّ حينما أُدرِج ضمن مساقات علم التفسير الذي كان يُدرَّس في الجامع الأزهر، وذلك في القرن الرابع العشر، إلّا أنّ الحقائق التاريخية تُؤكّد على أنّ اللِبنة الأساسيّة له كانت موجودةً منذ أيّام الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ حينما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يستفهمون من رسول الله عن مدلولات بعض الآيات، ومعانيها عندما تشتبه عليهم؛ بمعنى أنّهم كانوا يلجؤون إلى تفسير آيات القرآن بالقرآن، وذلك جوهر علم التفسير الموضوعيّ، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: (لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] إيمَانَهُمْ بظُلْمٍ شَقَّ ذلكَ علَى المُسْلِمِينَ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قالَ: ليسَ ذلكَ إنَّما هو الشِّرْكُ أَلَمْ تَسْمَعُوا ما قالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وهو يَعِظُهُ {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ باللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]).
فالتفسير وِفق هذا المعنى ينفي التعارُض بين آيات القرآن؛ بتفسير بعضها ببعضٍ؛ فما ورد مُجمَلاً في موضعٍ، فُصِّل في موضعٍ آخر، وما ورد مُطلَقاً في موضعٍ، قُيِّد في موضعٍ آخر، ومن الأمثلة التي تدلّ على تكامُل آيات الله: قَوْله -تعالى-: (وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا ما قَصَصنا عَلَيكَ مِن قَبلُ)، فالآية الكريمة السابقة تُحيل قارئها إلى آيةٍ أخرى تُفصّل ما حَرَّمه الله على بني إسرائيل؛ وهو قَوْله -تعالى- في سورة الأنعام: (وَعَلَى الَّذينَ هادوا حَرَّمنا كُلَّ ذي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ حَرَّمنا عَلَيهِم شُحومَهُما إِلّا ما حَمَلَت ظُهورُهُما أَوِ الحَوايا أَو مَا اختَلَطَ بِعَظمٍ ذلِكَ جَزَيناهُم بِبَغيِهِم وَإِنّا لَصادِقونَ)، وقد جمع علماء الفقه آيات القرآن الكريم وِفْق مواضيعها؛ فجمعوا الآيات التي تتحدّث عن الصلاة وأركانها تحت بابٍ خاصٍّ بها سُمِّي (باب الصلاة)؛ ليستدلّوا بتلك الآيات على مُجمَل أحكام الصلاة، وكذلك الحال مع غيرها من الفرائض، والعبادات، مثل: الزكاة، والطهارة.
المرحلة الثانية
تطوّر التفسير الموضوعيّ لآيات سُور القرآن الكريم؛ ليبحثَ في مدلولات لفظٍ مُعيّنٍ من القرآن، وبيان معانيه المختلفة بحسب السياق الذي جاء فيه، ومِمّن ألَّفَ في هذا العلم: مُقاتل بن سليمان البلخيّ؛ إذ ألَّف كتاباً سنة مئةٍ وخمسين للهجرة، وأسماه (الأشباه والنظائر في القرآن)، وتَبِعه على ذلك النَّسق في التدوين يحيى بن سلّام المُتوفّى سنة مئتَين للهجرة؛ إذ ألَّف كتاباً أسماه (التصاريف)، ثمّ جاء كتاب (المفردات في القرآن) للراغب الأصفهانيّ، ثمّ كتاب (نُزهة الأعين النواضر في علم الوجوه والنظائر) لابن الجوزيّ .
المرحلة الثالثة
ظهرت مُؤلَّفات بحثت في سُور القرآن الكريم، وآياته من ناحية الرابط بينها دون الاقتصار على المعنى اللغويّ، ومن الأمثلة على تلك المُؤلَّفات: (الناسخ والمنسوخ) لأبي عُبَيد القاسم بن سلّام، و(أحكام القرآن) للجصاص، و(تأويل مُشكل القرآن) لابن قتيبة، و(أسباب النزول) لعليّ بن المديني، وقد استمرّ تدوين الكُتب بالتركيز على موضوعات وعناوين مُعيّنةٍ من كتاب الله إلى الوقت الحاضر؛ إذ توجّه كثيرٌ من العلماء للبحث حول موضوعٍ مُعيّنٍ تناولته آيات القرآن، ومن ذلك: الكُتب الموسومة بالأخلاق في القرآن، والمرأة في القرآن، والرحمة في القرآن.
المرحلة الرابعة
تطوّر التفسير الموضوعيّ وتزامَنَ مع التفسير العامّ لآيات كتاب الله، وقد استمرّ هذا العلم بالتطوُّر إلى حين ظهور مدرسة المنار في العصر الحديث، والتي بحثت في مدلولات سُور وآيات القرآن الكريم ومقاصدها، مع إسقاطها على واقع الأمّة، ومُستجدّاتها الراهنة، وقد أرجع الكثير نشأة التفسير الموضوعيّ بشكله الحديث إلى عالِمَين، هما: الإمام محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا؛ فقد اتّبع محمد عبده مَنهج تفسير القرآن بالقرآن؛ باعتباره أفضل أسلوبٍ للتفسير، مُوافِقاً بذلك ابن تيمية في مَنهجه للتفسير، إلّا أنّ رشيد رضا ابتعد عن مَنهج شيخه محمد عبده قليلاً؛ إذ كانت دراسته للقرآن دراسةً شموليّةً تُركّز على موضوعات السُّور الرئيسيّة؛ إذ كان يضع لكلّ سورةٍ مُلخَّصاً لجملة المواضيع والقضايا التي تتحدّث عنها، كمسائل الوَحي، والنبوّة، والعقائد، كما صَنَّف سُور القرآن وآياته؛ تِبعاً للشواهد المُستفادة منها؛ فقد جمعَ الآيات التي تتحدّث عن السُّنَن الإلهيّة في الكون والحياة، وجعلَها إحدى عشرة سنةً، وكذلك الحال مع موضوع الإيمان ودرجاته؛ إذ جمع الآيات التي تتحدّث عن الموضوع، ثمّ صنَّفَها مُستخلِصاً اثنين وثلاثين شاهداً، بحيث يرتبط كلّ شاهدٍ منها بآيةٍ من كتاب الله.
وقد برز أمين الخولي كباحثٍ كان له الفضل في الدعوة الرسميّة لانتهاج التفسير الموضوعيّ للقرآن من ناحيةٍ أدبيّةٍ؛ إذ تمحوَرَت فكرة الخولي حول تفسير آيات القرآن بدراسة مواضيعها، ثمّ البحث عن كلّ ما يتعلّق بتلك المواضيع من الآيات؛ فالتفسير المُقتصر على آيةٍ مُعيّنةٍ لا يُحقّق الفَهم الصحيح والكامل لآيات كتاب الله، كما ذهب إلى ذلك رائد هذه المدرسة، وقد انتهج الخولي في تفسيره مَنهجاً استقصائيّاً؛ بجَمع الآيات التي تتحدّث عن الموضوع الواحد، ثمّ النَّظَر في زمن نزولها، ثمّ مناسبة نزولها للأحداث والوقائع المختلفة، ثمّ النَّظَر في الآية وِفق المُعطَيات التي سَبَق ذِكرها.
الخطوات المَنهجيّة للتفسير الموضوعيّ
يتحقّق التفسير الموضوعيّ لآيات القرآن الكريم باتِّباع مَنهجيّةٍ خاصّةٍ تتمثّل بعدّة خطواتٍ، بيانها آتياً:
- اختيار اسم الموضوع الذي يُراد البحث عنه في سُور القرآن الكريم ، وآياته؛ للوقوف عليه في مَواضعه، ودراسته دراسةً مُستفيضةً شاملةً.
- حَصْر جميع الآيات التي تتحدّث عن الموضوع الواحد؛ سواءً كانت مدنيةً، أو مكّيةً، وعدم إغفال أيّة آيةٍ تتحدّث عن الموضوع؛ لِئلّا تكون الدراسة ناقصةً؛ بتَرك الأخذ بآيةٍ مُعيَّنةٍ قد تتضمّن حُكماً فاصلاً في الموضوع.
- ترتيب الآيات حَسب زمن نزولها على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ترتيباً مُحكَماً.
- النَّظَر في الأحاديث النبويّة التي تتحدّث عن الموضوع نفسه، مع الاستئناس بكلّ ما جاءت به الآثار التي نُقِلت عن سَلَف الأُمّة، وعلمائها، فيما يخصّ آيات الموضوع الواحد.
- دراسة أسباب نزول آيات الموضوع الواحد، مع مراعاة مناسبة ورود كلّ آيةٍ في موضعها من كتاب الله.
- دراسة تلك الآيات دراسة مُتكاملة، مع مراعاة أمورٍ مُهمّةٍ تضمن دراستها دراسةً موضوعيّةً لا تُحمّل النصّ معانٍ غير مقصودةٍ لذاتها، ومن الأمور التي تنبغي مراعاتها؛ لضمان ذلك: دَفع شُبهات التعارُض بين النصوص، وإظهار الناسخ والمنسوخ من الآيات، والتوفيق بين المُقيَّد والمُطلَق من النصوص، مع مُراعاة الأخذ بالأحاديث والآثار التي تخدم الموضوع، وتُؤكّد على نتائج الدراسة، وموضوعيّتها.
- إعادة صياغة موضوع الآيات بشكلٍ إبداعيٍّ يبعث على التشويق بإطارٍ ونَسقٍ جديدٍ.
أشكال التفسير الموضوعيّ
تعدّدت أشكال التفسير الموضوعيّ وأنواعه، وفيما يأتي بيان وتفصيل البعض منها:
- تفسير المصطلحات القرآنيّة؛ وهذا النوع من التفسير يتتبّع مصطلحاً مُعيَّناً من كتاب الله، فيدرس الباحث جميع المواضع التي ذُكِر فيها، ثمّ يستنبط معاني الآيات التي اشتملت على ذلك المصطلح، وينظر في دلالاتها وإِشاراتها، ومن الأمثلة على ذلك التفسير: (العهد والميثاق في القرآن) للشيخ ناصر العُمر، وكتاب القرضاوي (الصبر في القرآن).
- تفسير آيات القرآن بالبحث في مواضيعها؛ وفيه يختار الباحث موضوعاً مُعيَّناً، ثمّ يُحصي جميع الآيات التي تتحدّث عن ذلك الموضوع، ثمّ يفسّر دلالاتها ومعانيها المختلفة، ويستنبط الحقائق المُستفادة منها.
- تفسير السُّور باعتبار وحدتها في الهدف والموضوع؛ وفي هذا الشكل من التفسير يُركّز الباحث على مقاصد السورة، ويُحلّل أجزاءها؛ للوقوف على المواضيع الفرعيّة التي تتحدّث عنها، والوصول في النهاية إلى دراسةٍ تحليليّةٍ موضوعيّةٍ تستهدف إظهار الوحدة الموضوعيّة لآيات السورة الواحدة، ومن الأمثلة على ذلك: كتاب الاستاذ ناصر العُمر (سورة الحجرات: دراسةٌ تحليليةٌ موضوعيّةٌ).
مَيّزات التفسير الموضوعيّ
يتميّز التفسير الموضوعيّ بالعديد من الأمور عن غيره من أنواع التفاسير، والتي يُذكَر منها أنّ التفسير الموضوعيّ:
- قائمٌ على تفسير القرآن بالقرآن؛ فما ذُكِر مُختصَراً في مواضع من كتاب الله ، ذُكِر في مواضع أخرى مُفصَّلاً، وما أفاد التقييد في موضعٍ، جاء في موضعٍ آخرٍ مُجملَاً.
- سبيلٌ للتعمُّق في آيات القرآن الكريم، واستنباط أسرارها، والوقوف على المواضيع الكثيرة التي تناولتها الآيات بما يُظهر عظمة كتاب الله، وغنى آياته، وسُوره.
- سبيلٌ للتعرُّف على سُنَن الهداية الإلهيّة للخَلْق؛ من خلال النَّظَر في مواضيع آيات كتاب الله.
- تحقيقٌ لزيادة الإيمان في النفس؛ وذلك حينما يتحلّى المسلم بما تدعو إليه آيات كتاب الله من مكارم الأخلاق، وغيرها من الأمور الحَسَنة.
- سبيلٌ للفَهم العميق لآيات كتاب الله.
- وسيلةٌ للتعرُّف على ما اشتملت عليه آيات القرآن من الأساليب البديعيّة المُتنوّعة.
- تصنيفٌ لآيات كتاب الله وِفق المواضيع المُشترَكة بينها بما يُحقّق الدراسة الموضوعيّة المُتكامِلة للقرآن الكريم.
- تمكينٌ للباحث من الردّ على ما يُثار من الشُّبُهات حول مواضيع آيات القرآن.
- دَفْعٌ لشُبهات التعارُض بين مدلولات آيات كتاب الله؛ وذلك بالتوفيق بينها توفيقاً مَنهجيّاً سليماً.
- تمكينٌ للباحث من الاطِّلاع على الأحاديث النبويّة الشريفة، وأقوال الصحابة التي تتعلّق بموضوع الآيات، وكذلك التعرُّف على مَنهج المُفسِّرين قديماً في استنباط المواضيع من القرآن، مع تدوين المناقشات العلميّة لعلماء الأمّة، والاطِّلاع على ما كُتب من أبحاثٍ لغويّةٍ، أو فقهيّةٍ بما يفيد الباحث في مَنهجيّته، ويُيسّر عليه الوصول إلى هدفه دون عراقيل، أو صعوباتٍ.
- إسقاطٌ للحقائق والإشارات التي يتمّ التوصُّل إليها على واقع الأمّة، وبما يُحقّق الرَّبط بين ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها.
- تمكينٌ للباحث من الإحاطة الكاملة بمواضيع كتاب الله، وبما يجعله قادراً على توضيح العِلل، والأسباب وراء الأحكام والتشريعات بشكلٍ مُقنعٍ للمُتلقّي، مع تمكين الباحث من الوصول إلى المواضيع المُتعدِّدة التي يشتمل عليها كتاب الله بسهولةٍ.