أهمية بيت الحكمة في العصر العباسي الأول ومكانتها الأدبية
أهمية بيت الحكمة في العصر العباسي الأول ومكانتها الأدبية
إنّ بيت الحكمة شُيد في عام 774م، بعد أن تمكنت الدولة العباسية من فرض سيطرتها، وتمكنها من حكم الدولة الإسلامية، لتكون أول دار للعلم في العاصمة بغداد، حيث لعبت دورًا مهمًا في الترجمة، وحفظ جميع مصادر التراث الفكري الإسلامي وغير الإسلامي، ولمختلف أنواع الحضارات التي شهدها التاريخ.
تأسس بيت الحكمة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد ، وبات يُعد أحد أهم مرتكزات الحضارة العربية الإسلامية، كونها أول دار أو مكتبة علمية، بالإضافة إلى آلاف الكتب والمخطوطات، فهو مكان تُقام فيه العديد من المناظرات والحوارات العلمة، وملتقى للإبداع والثقافة.
كما كان مكانًا خاصًا للتأليف ولترجمة الكتب وللطباعة والنسخ، وقد شهد بيت الحكمة تطورًا ملحوظًا في عهد الخليفة المأمون ابن الخليفة هارون الرشيد، حيث تعهد الخليفة برعايته وبدعمه، فقد كان يُشرف عليها بشكل مباشر، ويختار من العلماء والمترجمين الأكفاء ليتولوا مهمة الترجمة من الكتب اليونانية في مختلف العلوم والفلسفة .
كما جلب المأمون من قبرص خزانةً تحتوي على الكثير من الكتب، وعين الكثير من العاملين فيه، فأصبحت بالتالي المركز الأول في العلم في العالم الإسلامي، خاصةً بعد اختفاء مدرسة الإسكندرية وجنديسابور، وبالتالي فإنّ ازدهار بيت الحكمة وتطوره يعود بشكل كبير للخليفة المأمون وجهوده.
الخلفية التاريخية لإنشاء دار الحكمة
يُعد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أول من أبدى اهتمامًا منقطع النظير بالعلم والعلماء، إذ كان يدعوهم للقدوم إلى بغداد لحثهم على التأليف والكتابة والترجمة، في مختلف أنواع العلوم من هندسة وطب وآداب وفلك، الأمر الذي ارتفعت به أعداد الكتب بشكل كبير، حتى إنّ خزائن وغرف قصره لم تعد تتحمل تلك الأعداد من الكتب.
جاء بعده الخليفة هارون الرشيد الذي أبدى اهتمامًا أكبر وأشمل بالعلم، حيث أصبحت بغداد في عهده حاضرة الدنيا في مختلف العلوم، وبسبب تلك الحركة العلمية الواسعة ولدت فكرة إنشاء دار خاصة بهذه الحركة العلمية المتنامية.
جاء إنشاء خزانة الحكمة التي وضع فيها تلك الكتب والمؤلفات التي كانت موجودةً في قصر الخليفة أبي جعفر المنصور؛ لكي يستطيع عامة الناس من طلاب العلم من الاطلاع عليها، ولم يكتف الخليفة بهذه الكتب، بل أضاف إليها العديد من المؤلفات المترجمة عن اليونانية والرومانية والفارسية، حتى أصبحت هذه الدار مقصد كل طالب علم من مختلف بلاد العالم.
الإشراف على إدارة بيت الحكمة في عهد المأمون
ذكر المؤرخون أنّ بيت الحكمة كان يُشرف عليه ثلاثة من الأدباء في عصر المأمون، وهم الآتي:
- سهل بن هارون
وكان من الكتاب الحكماء والشعراء، وعمل في الخزانة.
- يوحنا بن ماسويه
وكان يعمل في الترجمة في عهد الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل.
- محمد بن موسى الخوارزمي
وهو أشهر العلماء الذين أشرفوا على بيت الحكمة، وكان من العلماء البارعين في مجال الفلك والحسابات الفلكية والعمل في الإسطرلاب.
العلوم التي اهتم بها بيت الحكمة
اهتم بيت الحكمة بالعديد من العلوم، منها ما يأتي:
الترجمة
وهو قسم ضم العديد من الأسماء اللامعة التي كانت تتولى ترجمة الكتب الأجنبية التي تصدر بلغات أخرى، مثل: الهندية واليونانية والفارسية والسريانية والنبطية، وغيرها من اللغات الأخرى، كما عين الخليفة المأمون الكثير من الشراح والوراقين للإشراف على ترميم الكتب القديمة، وخصص لهم رواتب كبيرة.
البحث والتأليف
حيث تجري فيه عمليات التأليف والكتابة، وكان الكتاب والمؤلفون يُكافئون بمكافآت سخية، تثمينًا لجهودهم الكبيرة في كتابة الكتب، كما كانت عملية انتقائهم تتم بعناية واهتمام كبيرين.
الفلك
يعد علم الفلك من الأقسام العلمية المهمة التي كان دار الحكمة يحويها، حيث أنشئ الخليفة المأمون هذا القسم في حي الشماسية بالقرب من مدينة بغداد، ويقوم هذا القسم بعملية تعليم مختلف علوم الفلك بطريقة عملية للطلاب المنتسبين إليه.
كما كان يُدرسهم أحدث النظريات في علم الفلك، وكان يعمل فيه عدد من العلماء، مثل: الخوارزمي، والعديد من العلماء، حيث تمكن هؤلاء العلماء من حساب محيط الأرض.
انحسار التأثير العلمي لبيت الحكمة
بعد وفاة الخليفة المأمون الذي شهدت خلاله بيت الحكمة عصرها الذهبي، بدأ تأثير هذه الدار ينحسر خاصةً بعد تولي الخليفة المعتصم مقاليد الحكم، إذ لم يكن كسلفه مهتمًا بالعلوم والثقافة، كما أنّه نقل مقر الخلافة من بغداد إلى مدينة سامراء، وركّز اهتمامه على الإتيان بالمماليك والعمل على تدريبهم.
أمّا دار الحكمة، فقد أُسند مهمة الإشراف عليها إلى الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وخصص له راتبًا شهريًا قدره ألف دينار، ومع ذلك عانت دار الحكمة خلال هذه الفترة من جمود في حركة التأليف والكتابة والترجمة، ولم تعد كسابق عهدها، وعادت الدار إلى سابق عهدها في عهد الواثق بالله، ولكنه لم يستمر طويلًا، حيث أُهملت في عهد المتوكل بالله.
بدأت هذه الدار في العصر العباسي الثاني يتراجع دورها، وتداعت في الكثير من جوانبها، حيث أُهملت من قِبل الخلفاء العباسيين الذين حكموا خلال تلك الفترة، حتى سقطت بغداد بيد المغول على يد هولاكو، الذي تولى قتل آخر خلفاء بني العباس ( المستعصم بالله )، وأحرق المدينة عن بكرة أبيها.
كان لدار الحكمة نصيب من ذلك الدمار والخراب الذي حل بالمدينة، إذا قام المغول بإلقاء جميع كتبها في نهر دجلة، حتى غلقت مجراه، كما أشعلوا النار بخزائن الكتب، حتى اختفت الدار عن الوجود، تلك الدار التي شهدت حكم ما يُقارب 32 خليفةً من خلفاء بني العباس، وكانت صرحًا للعلم والمعرفة أضاء على العالم بأسره.