واجبنا نحو القرآن
أداء حَقّ القرآن
بيّن العُلماء أنّ أداء حَقّ القُرآن يكون بحِفظه، وتلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، إضافة إلى تدبُّره، والعمل بما ورد فيه، واتِّباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأخذ العِظة والعِبرة من قصصه ، والدعوة إليه وإلى العمل به على بصيرة، وغيرها من الأمور، وقد ورد عن عمر -رضي الله عنه- أنّه قال: "إنّ هذا القُرآن كلام فضعوه على مواضعه، ولا تتبعوا فيه أهواءكم"، وعلى المُسلم أن يتّقي الله -تعالى- في نفسه، وأن يبذلَ جُهده في الانتفاع بكلام ربّه في مجالات الانتفاع جميعها بالقَدْر الذي يُبعد عنه صِفة هَجر القُرآن.
واجبنا نحو القرآن
الإيمان بالقرآن والتصديق به
يجب على العبد المسلم الإيمان والتصديق بالقُرآن؛ وذلك لِما فيه من بيانٍ لأصول العقيدة الثابتة، كتوحيد الله -تعالى-، وإثبات نُبوّة الرسول محمّد -عليه الصلاة والسلام-، وإثبات اليوم الآخر؛ فمَن صدَّق به، وبما جاء فيه، فقد أفلح ونجا في الدُّنيا والآخرة، ومَن كذّب به، فقد ارتكب جُرماً عظيماً، وعَرَّض نفسه للهلاك، والقرآن هو آخر الكُتب السماويّة ، وأكملها، وقد أُنزِل بالحقّ بعد انقطاع الرُّسُل فترة من الزمن، وسيبقى القرآن محفوظاً إلى يوم القيامة بحِفظ الله -تعالى-.
تلاوة القرآن حَقّ التلاوة
اهتمّ السَّلَف الصالح -رضي الله عنهم- بالقُرآن الكريم في جوانبه جميعها؛ سواء كان ذلك من حيث التحقيق، أو الإقراء، أو القِراءة، كما أنّه بقيَ محفوظاً في صدورهم؛ تحقيقاً لوعد الله -تعالى- الوارد في قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ومن واجب المُسلمين تجاه القُرآن الحِرص على تلاوته، وتجويده، وتدبُّر معانيه ، وفَهْمها؛ من خلال الاهتمام بعلم التجويد ، ومعرفة أحكامه؛ سواء بالاستماع إلى مَن يُجيد تلاوته، أو بقراءته على شيخٍ مُتقِن، أمّا تلاوته حَقّ التلاوة، فتكون بإشراك اللسان بتصحيح حُروفه بالترتيل، والعقل بتفسير معانيه، والقلب بالعِظة والتأثُّر بكلماته ومعانيه؛ فاللسان يُرتِّل، والعقل يُترجم، والقلب يَتَّعِظ.
وممّا يُبيّن عِظَم تلاوة القُرآن أنّ الله -تعالى- مَدَح من تلاه بقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، وقد بيّن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّ مكانتهم مع الملائكة الكِرام، بقوله: (مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ، وهو حافِظٌ له مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ، وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ فَلَهُ أجْرانِ)، وممّا جاء في فضل تلاوته أنّ الله -تعالى- يكتب لقارئه بكلّ حرف عَشر حَسَنات؛ قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن قرأَ حرفًا من كتابِ اللَّهِ فلَهُ بِهِ حسنةٌ ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها ، لا أقولُ آلم حرفٌ ، ولَكِن ألِفٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ).
تدبُّر القرآن الكريم
يُعَدّ تدبُّر القُرآن الكريم من أفضل الطاعات ، والعبادات؛ لأنّ الإنسان يفهم من خلال تدبُّره المقصود من كلام ربّه -عزّ وجلّ-، وهي إحدى الغايات التي أُنزِل القرآن لأجلها، وقد تمّ توضيح ذلك في قوله -تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)؛ فالحِكمة من إنزاله تدبُّره، واستخراج عِلمه، وتأمُّل أسراره، وهذا لا يكون إلّا بتدبُّره مرّةً بعد مرّة، وهذا يُبيّن أنّ قراءته بتدبُّر أفضل من قراءته بسرعة من غير تدبُّر، وقد قال الطبريّ في هذه الآية إنّ القُرآن الكريم أُنزِل إلى محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ ليتدبَّرَه كلّ مَن آمنَ بالدِّين الذي أُرسِل به؛ ولأجل ذلك يَسَّره الله -تعالى- من حيث ألفاظه، ومَعانيه لِمَن أراد ان يتذكّره ويتدبَّره، وقد أخبر الله -تعالى- عن ذلك بقوله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، وقال ابن كثير عن هذه الآية إنّ تسهيل لَفظه ومعناه كان؛ لأجل مَن أراد أن يفهمَه، فيُذكّرَ به الناس.
العمل بالقرآن الكريم
بيَّنَ العُلماء أنّ العمل بالقُرآن يكون باتِّباع أحكامه، والالتزام بأوامره، وآدابه ، وقد سُئِلت عائشة -رضي الله عنها- عن خُلُق النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، فأجابت بقولها: (كان خلقُه القرآنَ)؛ أي أنّ أخلاقه كانت تطبيقاً عمليّاً لشرائع القُرآن الكريم وأحكامه؛ ولهذا يجب على المُسلم الاقتداء بنبيّه -عليه الصلاة والسلام-، والذي حَقَّق كمال الاقتداء بهَدْي القُرآن؛ لقوله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، والعمل به هو الغاية الأساسيّة من إنزاله، ويكون العمل به من خلال التصديق بكلّ ما جاء فيه، واتِّباع أوامره، واجتناب نواهيه؛ وذلك ابتغاءَ وجه الله -تعالى-، والخوف من عذابه، والطمع في رحمته، فكان الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- يتعلّمونه، ويُصدّقونه، ويُطبّقون أحكامَه عن عقيدة، وقد قال عنهم أبو عبدالرحمن السُلمي إنّهم كانوا إذا تعلَّموا من النبيّ -عليه الصلاة والسلام- عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتى يُطبّقوا ما فيها من العمل، ويتعلّموا ما فيها من العِلم، والعمل بالقرآن هو معيار السعادة والشقاء.
تعظيم القرآن ومَحبّته
يُعَدّ تعظيم القُرآن من أعظم حقوقه، ويكون تعظيمه تعظيماً للقاء الله -تعالى-، ولِما جاء فيه من البَيِّنات والإعجاز، وفي ذلك اعترافٌ بفَضله على الناس؛ فهو سببُ إخراج العرب من الجَهل إلى العِلم، ومن الظلام إلى الحضارة والمعرفة، وقد نقل الإمام النووي الإجماع على وجوب تعظيمه، وتنزيهه، وصيانته، وعدم جحود شيء منه بالزيادة، أو بالنُّقصان، ومن تنزيهه حُرمة توسُّده كالوسادة؛ لأنّ ذلك من سوء الأدب مع كلام الله -تعالى-، كما نقل الإمام أبو الفضل القاضي عياض وجوب عدم الاستخفاف به، أو حتى بشيءٍ منه، أو تكذيبه، أو إثبات ما نفاه، أو نَفْي ما أثبتَه، ومن صُوَر تعظيمه ما يأتي:
- الإنصات حين تلاوته: قال -تعالى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
- الإخبات حين تلاوته: وقد مَدَح الله -تعالى- هذا الصنف من الناس؛ فقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، ومن صُور تعظيمه أيضاً عدم امتهانه، وصونه عمّا قد يُؤدّي إلى ذلك، وقد نهى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- عن الفِرار فيه إلى أرضٍ فيها عدوّ؛ مَخافة أن ينالوه بأذى.
تعلُّم القرآن وتعليمه والدعوة إليه
يُعَدّ العلم بالقُرآن وتعليمه من أفضل العلوم، والجَمع بينهما أكثر كمالاً؛ لأنّ نَفعه يتعدّى إلى غيره؛ فقد أخبر النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّ: (خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ)، وهذه من صفات المؤمنين الصادقين المُتّبِعينَ الأنبياء، ومن حُقوق القرآن التامّة حَقّ تعليمه الأبناءَ، والزوجة ، وأهل البيت، وقد شبّه العُلماء أهل القُرآن بالشجرة التي لا يقتصر خَيرها عليها، بل يتعدّاها إلى غيرها، كحافظ القُرآن الذي يتعلّمُه، ويُعلّمه غيرَه، فقد ورد عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال: (لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَسُلِّطَ علَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وآخَرُ آتاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهو يَقْضِي بها ويُعَلِّمُها)، وقد جاء عن بعض الدُّعاة قولهم: "إنّ العبد إذا وفّقه الله للآية فتأثر بها، وأراد أن يذكر بها غيره فوفقه الله لتذكيره بها فإن الله سيوفقه لغيرها"، ومِمّا يندرج تحت تعلُّم القرآن، وتعليمه: حِفظه، وتحفيظه، ومُدارسته، والعلم بمعانيه، وتعليمها الآخرين، وتعلُّم آداب تلاوته.
ومن الواجبات أيضاً تبليغه للناس كافّة؛ لأنّ دعوته عالَمية، وليست للمُسلمين فقط، وقد وصف الله -تعالى- القُرآن بقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، ومِمّا يدُلّ على ذلك وجود الخطاب الربّاني للإنسان في آياتٍ كثيرة، وهو قوله: (يا أيُها الناس)، أمّا الخطاب الخاصّ بالمؤمنين الذين كَلّفهم الله -تعالى- بحَمل رسالته، وذكّرهم بوظيفتهم؛ وذلك بجعلهم شُهداء على الناس؛ قال -تعالى-: (لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)؛ ولهذا يجب عليهم تبليغه إلى الناس جميعهم.
حِفظ القرآن الكريم أو ما تيسَّرَ منه
يُعَدّ حِفظ القُرآن من الواجبات الكفائيّة على الأُمّة المُحمّدية، ويسقُط عنها وجوب حفظه بوجود مَن يحفظه؛ كي لا ينقطع تواتُره، أو يتعرّض لتحريف، أو تبديل، أمّا حِفظ بَعضه، كسورة الفاتحة مثلاً، فهو أمرٌ واجبٌ على كُلّ شخص؛ لأنّ الصلاة لا تصحّ دونها؛ قال النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ)، ويجب على مَن حَفظ القُرآن تعاهُده بالمُراجعة والحِفظ؛ كي لا ينساه، وحافظ القُرآن تعلو منزلته عند ربّ العباد، وعند العباد أيضاً، وينال العُلوّ والشرف؛ فهو يستحقّ التكريم، والاحترام.