مقال عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
أحداث ما قبل الهجرة النبوية
الأسباب الدّافعة للهجرة
عاش رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه أيَّاماً صعبةً في مكَّة المكرَّمة منذ اليوم الأوَّل من جهرهم بالدعوة بالإسلام، وتعدَّدت أشكال صدِّ المشركين لهم، فقد تلوَّنت أساليبهم في ذلك، فما تركوا شيئاً يؤذيهم أو يجعلهم يتخلُّون عمَّا يعتقدون به إلَّا فعلوه، لكنَّ محاولاتاهم في ثَنْيِهم عن الإسلام كلُّها لم تؤتِ أُكُلَهَا وباءت بالفشل الذَّريع، ثمَّ إنَّ العيش في مكَّة المكرَّمة بات صعباً، ولم يعد الصَّحابة -رضوان الله عليهم- يطيقون مجابهة كلّ هذا، فهاجر كثيرٌ منهم إلى الحبشة بحثاً عن الوطن الآمن.
ثمَّ توالت الأحداث العصيبة في مكَّة المكرَّمة على رسول الله -صلَّى عليه وسلَّم- ومن بقي من الصَّحابة -رضوان الله عليهم-، ابتداءً من محاصرتهم في شِعب أبي طالب ومقاطعتهم اقتصادياً واجتماعياً لمدَّة ثلاثة أعوامٍ متتاليةٍ؛ أكل فيها المسلمون أوراق الشَّجر من شدّة جوعهم، ثمّ موت أبي طالب عمّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذي هو بمثابة ذراعه اليمنى، والذي كان يحميه ويؤازره، وموت زوجته خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-.
فكان عاماً حزيناً ازدادت فيه جرأة المشركين على نبيِّ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فقرَّر أن يذهب للطَّائف يدعوهم للإسلام، ولم تكن أحوالهم أفضل من أهل مكَّة، بل طردوا نبيَّ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وضربوه وأدموه، وعاد مهموماً إلى بلده، كما تعرَّض من آمن به للتَّعذيب والتَّنكيل كما فُعل بآل ياسر وبلال بن رباح -رضي الله عنهم-.
عندئذٍ علم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه لن يستطيع إقامة دولةٍ للمسلمين وسط هذا الرَّفض الشَّديد، فكان ذلك سبب هجرة الرسول، فجعل ينشر الإسلام خارج مكَّة المكرَّمة، ودخل معه الكثير من الأوس والخزرج في الإسلام، وبايعوه بيعة العقبة الأولى والثَّانية، وعاهدوه على نصرة الإسلام والمسلمين.
اجتماع الكفار على قتل رسول الله
علمت قريش بعد رؤيتهم لجماعات المسلمين مهاجرةً أنَّ رسول الله لاحِقٌ بهم لا محالة ، الشَّيء الذي زاد من قلقهم، إذ إنَّ خروج النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- والمسلمين من بين ظهرانيهم يعني مزيداً من الأمن والاستقلال لهم، وستصبح الأمور خارجةً عن سيطرتهم، فقرَّروا عقد اجتماعٍ عاجلٍ يتشاورون فيه ما سيفعلون بالنبي محمَّد، وكان اجتماعهم في دار النَّدوة؛ وهي بيتُ قصي بن كلاب، فعادةً ما يجتمع المشركون في هذه الدَّار عند حسمهم لأمورٍ بالغة الأهميَّة.
وكان الاجتماع يضمُّ سادات القوم، وجعل كلُّ واحدٍ منهم يدلي برأيه، فمنهم من أشار بحبسه، ومنهم من أشار بقتله، ومنهم من قال بنفيه، فاستقرَّ بهم الرَّأي أخيراً على أن يجتمع من كلِّ قبيلة فتىً شابَّا، ويضربوه ضربةً واحدةً فيضيع دمه بين القبائل، فلا تغضب له قبيلته بنو هاشم.
إصدار قرار الإذن بالهجرة
أنزل الله -تعالى- على نبيِّه أمراً بضرورة ترك الصَّحابة مكَّة واللَّحاق بأنصارهم من أهل المدينة، ثمَّ بدأ أصحاب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بترك مكَّة أفراداً وجماعات متَّجهين إلى وطنهم الجديد المدينة المنوَّرة، تاركين خلفهم بيوتهم وأعمالهم وعشائرهم، حتى أنَّ بعضهم ترك زوجته، ومنهم من ترك أبناءه، ومنهم من تنازل عن أموالٍ وأملاكٍ كثيرةٍ يملكها، ومع ذلك ساروا متجاوزين كلَّ العراقيل من أجل نصرة الدِّين، وبقي في مكَّة المكرَّمة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ونفرٌ قليلٌ معه متنظرين نزول الأمر بالهجرة من السَّماء.
كان أوَّل المهاجرين إلى المدينة أبو سَلَمة وزوجته -رضي الله عنهما-، فقد هاجرا قبل بيعة العقبة، وذلك لمَّا رجعوا من الحبشة ورأوا تعذيب قريشٍ لهم، وعارضهم قومهم وفرَّقوا بين أبي سلمة وزوجته وابنيهما، وخرج صهيب الرُّومي مهاجراً بعد ذلك، إلَّا أنَّ قريش حالت بينه وبين الخروج إلَّا حين تنازله عن كلِّ ما يملك في مكَّة.
لكنَّ الأمر كان يبدو مختلفاً عندما قرَّر عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- اللَّحاق بأصحابه، فقد خرج في وضح النَّهار لم يأبه لما تفعله قريش، فهو الذي تخشاه قريش، وخرج معه عيَّاش بن أبي ربيعة، وظلَّ الصَّحابة هكذا يتتابعون في الهجرة واحداً تلو الآخر، فلم يمضِ شهران على بيعة العقبة الكبرى حتَّى خلت مكَّة من الصَّحابة، ولم يبقَ فيها إلَّا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأبا بكرٍ الصِّدّيق وعليّاً بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وقد جمع رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- جهازه منتظراً الأمر بالهجرة.
وقد ثبت عن السَّيدة عائشة أمُّ المؤمنين -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله قال: (قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ؛ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بيْنَ لَابَتَيْنِ. وَهُما الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَن هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذلكَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وَرَجَعَ إلى المَدِينَةِ بَعْضُ مَن كانَ هَاجَرَ إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ؛ فإنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي»، قالَ أَبُو بَكْرٍ: هلْ تَرْجُو ذلكَ بأَبِي أَنْتَ؟ قالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ).
ليلة الهجرة وفداء النبي
أنزل الله -تعالى- وحيه لرسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- بما خطَّطت له قريش من قتله، فأمره جبريل ألَّا يبيت في فراشه الليلة، فجعل عليَّاً بن أبي طالب -رضي الله عنه- خَلَفَاً له في فراشه ، ومتغطِّياً بنفس بردته، ولمَّا اجتمعوا ببابه متقلِّدين سيوفهم، خرج عليهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وحفن في وجوههم حفنة ترابٍ، فعُمِّي عليهم ولم يروه خارجاً، وهو يتلو قول الله -تعالى-: (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، وقد كانوا يرقبون النَّبي بين الحين والآخر، إلى أن طلع عليهم الصَّباح فعلموا أنَّ النَّائم ليس محمّداً، فخابت ظنونهم وعلموا أنَّه قد خرج من مكَّة.
خرج النبيّ محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- في هذه الليلة متَّجهاً إلى صديقه أبي بكر، وأَنْعِم بها من صحبةٍ! فقد كان متشوقاً لمرافقة النَّبيِّ إلى المدينة، وكان قد أعدَّ راحلتين للخروج منتظراً الأمر الرَّبانيَّ، وقد روت السَّيدة عائشة -رضي الله عنها- مجيء رسول الله إلى بيت والدها، فقد كان يأتيهم في وقتٍ معلومٍ، لكنَّ هذه المرَّة جاءهم على غير المعتاد، فعلموا أنَّ هناك خطباً ما.
فأخبره رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- بأمر الهجرة، فبكى أبو بكر فرحاً لهذا الخبر، فجهَّزت بنات أبي بكر عائشة وأسماء طعاماً لوالدهما ونبيِّهما ووضعاه في جراب، وشقَّت أسماء نطاقها لتضع فيه الطَّعام، فسمِّيت لذلك ذات النِّطاقين، وكان أمر الهجرة سرّاً لم يعلم به إلَّا أبا بكر وأولاده وعليّاً الذي تركه رسول الله خلفه ليُرجع الأمانات لأصحابها.
طريق الهجرة وأحداثها
كان تاريخ هجرة الرسول مليئاً بالأحداث والمواقف العظيمة ، فقد حان وقت مغادرة نبيُّ الله لوطنه الذي نشأ وتعلَّق فيه، وكان خروجه منه مؤلماً، إلَّا أنَّ قيام الدِّين مقدَّمٌ على كلِّ شيءٍ، وجاء وقت الميعاد الذي اتَّفق به مع أبي بكرٍ، فخرجا من خوخة أبي بكر، أي من ظهر بيته، وذلك زيادةً في الحرص على تخفِّيهم من قريش، واستأجر أبو بكر دليلاً للطَّريق هو عبد الله بن أريقط، وبدأت أحداث طريق هجرة الرسول.
لمَّا طلع الصَّباح ولم يجده المشركون في بيته، جعلوا يقتصُّون أثره في أطراف مكَّة، لكنَّ حسن تدبير النَّبيّ والأخذ بالأسباب صعَّب وصولهم إليهما، فقد كان يأتي إليهما في الغار عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بخبر القوم ويجلب لهما الطَّعام، ثمَّ يجعل من بعده راعياً يسمَّى عامر بن فهيرة يمحو آثار الأقدام بغنمه.
لحق المشركون بهما إلى غار ثور، إلَّا أنَّ عناية الله -تعالى- بالنَّبيِّ وصاحبه جعلتهم لا يرونهم وعُمِّيت أبصارهم عن الصَّاحِبَين، بل كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يطمئن صاحبه، قال الله -تعالى-: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وقفة مع أمّ معبد الخزاعية
مكث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأبو بكر في غار ثور ثلاث ليالٍ، ثمَّ انطلقا ومعهما الدَّليل، فسلك بهما طريقاً غير المعتادة كي لا تصدفهم قريشاً، وفي الطَّريق نفد زادهم، فتوقَّف رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عند خيمةٍ بها امرأةٌ مسنَّةٌ تجلس حائرةً، فسألها شيئاً يشترونه منها كتمرٍ أو لحمٍ أو غيره، لكنَّ حالهم كان صعباً ولم يجد عندهم شيئاً.
فرأى رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- عندها شاةً كبيرة في السِّن، لا تلد ولا تجلب لهم نفعاً، فجعل يمسح على ضرعها حتى نزل منها اللَّبن، فملأ منها إناءً شرب منه أهل البيت ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ومن كان معه، وأسلمت أم معبد وزوجها، وبايعوا رسول الله قبل أن يخرج من عندهم.
وقفة مع سراقة بن مالك
أعلنت قريش عن جائزةٍ لمن يأتي لهم بخبر محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ وهي مئة ناقةٍ، فسمع بالخبر سراقة بن مالك وخرج باحثاً عنهما طمعاً بالجائزة، وقد علم مكان مرور النَّبي وأبا بكر، فتبعهما، ولمَّا اقترب أخرج سهماً من كنانته ورأى أبا بكرٍ يلتفت إليه، وإذا بفرسه تغرز أقدامها في التُّراب ولم تستطع المسير، فنزل عنها وأشار إلى رسول الله يريد الأمان.
ثمَّ أخبر نبيَّ الله بخبر قريش والبحث عنه، فطلب منه الرَّسول أن يخفي عنه، ووعده بسواري كسرى، فعاد سراقة وجعل يخفي خبر النَّبي عن كلِّ من يسأل عنه حتى وصل إلى المدينة بأمان، وصَدَقَ وعد النَّبي، ففي عهد عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- عندما فُتحت بلاد الفرس؛ جيء بأموال كسرى وما غنمه المسلمون، فألبس عمر بن الخطاب سراقة بن مالك سواري كسرى؛ تحقيقاً لوعد رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- له.
الوصول إلى المدينة
وصل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- المدينة المنوَّرة مع أبي بكرٍ والدَّليل ونزلوا في مكانٍ يسمَّى قُباء، وكان ذلك في اليوم الثَّاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، وعلى ذلك يكون هذا بدء التَّاريخ الهجري ، وقد كان أهل المدينة على علمٍ بقدوم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وكانوا يخرجون كلَّ يومٍ متشوِّقين لوصول حبيبهم، ولمَّا أحسُّوا أنَّ الأمر قد طال ورجعوا إلى بيوتهم، إذا برجلٍ يهوديٍ رأى رسول الله عند مطلع المدينة فأخبرهم الخبر، فخرجوا فرحين مكبِّرين لاستقباله، فأقام نبيُّ الله مباشرة دولة الإسلام، حيث قام بعمل الآتي:
- بناء مسجد قباء، وكان هذا أوَّل مسجدٍ أُسِّس على التَّقوى، وأقام فيها أربعة ليال.
- إقامة المسجد النَّبوي على هذه الأرض التي تعود لأخواله، ومبيت رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- عند أبي أيوب الأنصاري.
- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على أن يكونوا إخوة.
ما بعد الهجرة النبوية
كانت الهجرة النَّبويَّة حدثاً فاصلاً وتغييراً جذرياً للإسلام والمسلمين، وبدء عهدٍ جديدٍ لهم، فقد آتت الهجرة ثمارها العظيمة ونتج عنها الثِّمار الآتية:
- إقامة دولة الإسلام المتكاملة الأركان، وتكوين مجتمعٍ خاصٍّ بهم له سماته وله كيانه الخاص.
- دخول النَّاس في دين الله أفواجاً، بعد أن أمن المسلمون على أنفسهم من القتل والتَّهديد والاستهزاء.
- ترسيخ قيم التَّكافل الاجتماعي بين المسلمين على اختلاف أنسابهم وأعراقهم، فيتآخي الغنيُّ والفقير ويتقاسمان ما يملكان.
ملخّص المقال
خلّد التاريخ قصة هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومواقفها بالتفصيل، فبعد أن واجه الصعوبات والأذى من قومه ومقاطعته في مكة، بالإضافة إلى موت عمّه وزوجته الذين كانوا خير داعمٍ ومؤازرٍ له؛ كان ذلك سبباً في هجرته، وبالفعل نزل الأمر والإذن من السماء له وللصحابة بالهجرة، وقد كان مع النبيّ رفيقه أبو بكر في طريق الهجرة، وحاول مشركو قريش بكل الطرق ثني النبيّ وصدّه عن مواصلة الطريق، إلا أنّ الله -تعالى- حماه من كيدهم، ووصل المدينة، واستقبله أهلها خير استقبال، وعمِد إلى إقامة دولة الإسلام فيها، ودخلت الأفواج والجماعات في الإسلام.