مفهوم النقد الأدبي الحديث
تعريف النقد الأدبي الحديث
كان النّقدُ الأدبيُّ في العصور القديمة أسيرًا للعلوم الأخرى، وفي العصر الحديث شهد النقدُ تطوّرًا ملحوظًا في البنية والأسس والمناهج، و النقد الأدبي الحديث هو مجموعة من العمليّات العقلية والتّأمّل العميق للعمل الأدبي في ضوء أجناسه الأدبيّة وتطوّرها العالمي بهدف تقويم هذا العمل.
هذا التّقويم يكون صادرًا عن مجموعة من البنى الفكرية والقوانين الجامعة التي تحدّد نقطة الاتّصال بين الناس حول آرائهم عن المعارف الجمالية واللغوية، فيقوم النقد الأدبي الحديث أوّلًا بالكشف عن مواطن الجمال والتميّز في النص، وعن النّقاط التي تجعل النصّ مختلفًا ومتميّزًا عن غيره من النصوص الأخرى.
ينتقل بعد ذلك إلى إصدار حكمٍ على هذا النص، وذلك بالاعتماد على البحث والتّعليل والتّحليل، والنقد الأدبي الحديث غالبًا يكون لنتاج أدبي قد صدر، أمّا تحديد سمات معيّنة للنتاج اللّاحق الجديد يكون أشبه بدعوة إلى أدب جديد يمتلك سمات وخصائص معيّنة.
للنقد الأدبي الحديث صلة واسعة مع العلوم الإنسانية الأخرى، وطبيعة النقد وعلم النقد تختلف عن طبيعة البحث في العلوم التّجريبية ذات النتيجة المحدودة، فنتائج العمل النقدي ليست واحدة، وإن كانت أسسها ومناهجها واحدة، ودراسة العمل الأدبي تكون في حاضره، ثمّ لتوجّهه بعد ذلك إلى مستقبله.
النقد الأدبي هو نشاط إنساني يقوم على استخدام اللغة ليس كأداةٍ للتعبير عن موقف جمالي معيّن، إنّما يستخدمها ليكتب عن الأدب متّبعًا الكاتب في ذلك مجموعة من المناهج والأسس النقدية الحديثة؛ وذلك ليحدّد مواطن الإبداع في النص ومواطن الضّعف.
خصائص النقد الأدبي الحديث
للنقد الأدبي الحديث خصائص كثيرة من أبرزها ما يأتي:
- النقد العربي الحديث لا يخضع للعلوم الأخرى ولا يتبع لها، بل هو علم مستقلٌّ بذاته.
- النقد الحديث يتّبع مناهج محدّدة تقوم على دراسة النص، وما يحيط به دراسة تحليلية.
- النقد الحديث هو نقد علمي قائم على مجموعة من القواعد والقوانين التي تضبطه.
- النقد الحديث يجيب عن التساؤلات التي أثيرت سابقًا في العصور القديمة، حول النص ولغته وبنائه وكل ما يتعلّق به.
مناهج النقد الأدبي الحديث
كان الأدب في العصر القديم تابعًا للعلوم الأخرى، فتارة يتبع التاريخ، وتارة يتبع الفلسفة، وتارة يتبع العلوم الإنسانيّة، فتطوّرت هذه النظرة لهذا العلم، وأصبح له مجموعة من المناهج المخصّصة، فأصبح علمًا مستقلًّا بنفسه، وهذه المناهج هي:
المنهج الاجتماعي
إنّ المنهج الاجتماعي كان قد جاء بعد المنهج التاريخي، وقد استقى بعض قواعده منه، والبدايات الأولى لهذا المنهج قد ظهرت في القرن التاسع عشر، في كتابات "مدام دي ستايل" حيث أشارت إلى دراسة الأدب بالنظر إلى المؤسّسات الاجتماعيّة وعلاقته بها.
هو منهجٌ يربط بين الأدب والمجتمع على مختلف طبقاته، فهو يُعدُّ تمثيلًا للمجتمع باعتبار المجتمع هو المنتج الحقيقي لهذا الأدب، وهذه النزعة الاجتماعيّة في النقد قد ظهرت عند النقّاد الذين استوعبوا فكرة "تاريخية الأدب" وارتباطه بتطور المجتمعات.
هذا الرأي هو ما ذهب إليه شوقي ضيف أيضًا في كتابه "البحث الأدبي"؛ حيث يقول إنّ ذلك يدفع الباحث إلى البحث في طبقات المجتمع، وفي العلاقات التي تجمع بين أفراد المجتمع على اختلاف طبقاتهم، ومدى تأثير هذه العلاقات في أدب الأدباء.
ومن أهم روّاد المذهب الاجتماعي العرب؛ أحمد أمين، وسلامة موسى، ولويس عوض، وأحمد أمين، وغيرهم.
المنهج النفسي
إنّ الأدب هو ترجمانٌ للعقل والنفس، فالأديب في كل ما يصدر عنه من أعمال أدبيّة إنّما تصدر عمّا يجول داخل نفسه وعقله، فالأدب مرآة عقل الأديب ونفسيته، فللعامل النفسي دورٌ مهمٌّ في صناعة الأدب، فهو الدّافع وراء صنع جميع أنواع الأدب.
المنهج النفسي هو ذلك المنهج الذي يدرس الأدب ويحلّله، ويفسّره بإخضاعه إلى مجموعة من البحوث النفسيّة في تفسير الظّواهر الأدبيّة والكشف عن أسبابها وعللها ومنابعها الخفية وتفاصيلها الدّقيقة، وما لها من أعماق وأبعاد وآثار أخرى ممتدة.
تعود البدايات الأولى للمنهج النقدي النفسي إلى ما جاء في بعض الصّياغات من نظرية أفلاطون عن أثر الشّعر على العواطف الإنسانيّة، من خلال نظرية التّطهير التي تنصّ على تطهير نفس الإنسان من شعوري الخوف الشّفقة من خلال إثارتهما.
المعنى الأساسي للمنهج النفسي قد ظهر عند "سيجموند فرويد"؛ حيث يرى أنّ العمل الأدبي هو عملٌ غني بكثير من الخفايا؛ إذ يكمن كل ما ترغبه النفس وتفكّر به وتتمنّاه، ولا تكون الرغبة رغبة إذا ما منع حدوثها مانع ديني أو أخلاقي اجتماعي.
يدرس المنهج النقدي النفسي اللغة الأدبيّة ليتوصّل إلى ما يضمره الإنسان من رغبات داخل نفسه، وأبرز روّاد هذا المنهج من العرب هم: أمين الخولي، وعباس محمود العقاد، وعبد القادر المازني، ومصطفى سويف.
المنهج التفكيكي
نشأ هذا المنهج على أنقاض البنيوية، حيث نشأت على يد الكاتب الفرنسي "جاك دريدا"، و تقوم التّفكيكية على قراءة النص وتأمّل كيفية إنتاجها للمعاني، فهي تعتمد على حتمية النص وتفكيكه، وتنبذ جميع التقاليد والأفكار الموروثة؛ أي تقوم على تقويض الفكر القديم والقراءة النقدية المزدوجة، وتسعى إلى تفكيك النص وتحويل الثّابت وتثبت المتحوّل.
يتناول الباحث النص الأدبي، ويفككه ويحلله ويكشف عن معانيه ومواضع القلق فيه وسلبياته، وذلك كلّه عن طريق قراءة مزدوجة، فهو يبيّن الأسس العقليّة التي يقوم عليها النص، ويوجّه الأنظار حول لغة النص الأدبيّة وما تحتويه من مكوّنات بلاغية ومحسنات بديعية، ويشير إلى ما يحتويه النص من علاقات نصّيّة في بنائه.
ومن أشهر روّاد المنهج التفكيكي من العرب؛ هشام صالح، وعبد العزيز بن عودة.
المنهج البنيوي
إنّ المنهج البنيوي في النقد الأدبي لم يظهر فجأةً، بل كانت أولى علاماته قد ظهرت في أفكار العالِم اللغوي السويسري "فيرديناند دي سوسير" فقد كان منطلق البنيوية من فكره البنيوي في اللغة.
ثمّ طوّر المفهوم إلى ما هو عليه الآن "جان بياجيه"، الذي نصّ على أنّ البنيوية مأخوذة من بنية الشيء، والبنية هي ما عليه الأمر، أو هي الشيء الأصيل والجوهري.
تقوم البنيوية على اعتبار البنية تكتفي بذاتها ، ولا حاجة للجوء لإدراكها إلى عناصر وعوامل أخرى خارجية، فيكتفى بما جيء بهذه البنية فقط، ومن ذلك النص الأدبي الذي يتكوّن من عناصر معيّنة، هذا النص هو "البنية" فهذه البنية تتكوّن من عناصر، وهذه العناصر تخضع لمجموعة من القوانين التي تحكمها.
الدّراسة البنيوية للنص الأدبي تقوم على دراسة هذه البنية، ودراسة العناصر المكوّنة لها وفقًا لقواعد معيّنة، وأشهر روّاد البنيوية في النقد العربي: كمال أبو ديب، وصلاح فضل، وعبد الله الغذامي، ونبيلة إبراهيم.
تأثر النقد الأدبي الحديث بالنقد الغربي
وصل النقد الأدبي العربي في حالةٍ من الحيرى ما بين المحافظة على ما توارثوه من الأجداد واحترام جهود العرب الأسبقين، وبين مواكبة حركات التّجدّد التي حصلت في النقد الأدبي، والتي اعتمدت على أسس فلسفية واسعة.
نتجت عن هذا الصّراع ما بين القديم التّقليدي والحديث المتجدّد مدرستان هما: المدرسة النقدية التّقليدية، والمدرسة النقدية الحديثة، وكان لكلٍّ من هاتين المدرستين روّادهما، وقد كان روّاد المدرسة النقدية الحديثة من الأجيال الجديدة المثقّفة المعلّمة التي تأثّرت بالعلوم الغربيّة.
ظهرت أولى هذه المظاهر للتّجديد في مصر، التي اعتبرت مركزًا لذلك آنذاك، إضافة إلى جهود المهاجرين العرب في الأمريكيتين؛ إذ بدأ الأمر بالتّنبيه إلى ضرورة إعادة النظر في معنى الأدب، لم يقتصر وجود هذه الاعتراضات في مصر، بل امتدّت لتشمل المغرب العربي، والمشرق وبلاد الغرب التي وُجد فيها المهاجرون العرب.
تأسّست نتيجة ذلك الرابطة القلمية في المهجر الشّمالي، وقد لعب التّماس المباشر مع الغرب دورًا مهمًّا في تسرّب هذه الأفكار النقدية الحديثة إلى الأدب العربي، فما كان من هذا الاجتماع إلّا أنّه قد أنتج نقدًا جديدًا استمدّ مبادئه من المبادئ الغربيّة في النقد الأدبي، وكان أوّل كتاب في اللغة العربيّة يوطّئ هذا الفن كتاب "حليمي مرزوق".
رواد النقد الأدبي الحديث
من أبرز رواد النقد الأدبي الحديث ما يأتي:
- سيد قطب
(1906م - 1967م) هو كاتب ومفكّر وناقد عربي ذو فكر إسلامي، كتب في بعض الصحف المصرية الرائدة في ذلك الوقت مثل: الرسالة والثقافة وغيرها، ألّف كتابًا في النقد اسمه "النقد الأدبي أصوله ومناهجه".
- قسطاكي الحمصي
(1858م - 1941م) اسمه قسطاكي بن يوسف بن بطرس بن يوسف بن ميخائيل الحمصي، شاعرٌ وكاتب وناقد، تعلّم وهو صغير في كتاتيب الروم الكاثوليك، وتابع الدراسة في مدرسة الرهبان، ألّف في النقد كتابًا اسمه "منهل الورّاد في علم الانتقاد".
أبرز المؤلفات النقدية الحديثة
من أبرز المؤلفات في النقد الحديث ما يأتي:
- النقد الأدبي الحديث
ألّفه محمّد غنيمي هلال، ونشره أول مرة عام 1953م بعد عودته من فرنسا، يتحدّث فيه الكاتب عن النقد العربي بين الماضي والحاضر ، ثمّ ينتقل للحديث عن الأجناس الأدبيّة وفقًا لمفهوم النقد الأدبي الحديث.
- في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات
ألّفه فائق مصطفى وعبد الرضا علي، ونشراه عام 1989م، توخّى فيه المؤلفان الإيجاز وتركا التفصيل؛ لأنّ الكتاب موجه للطلبة الجامعيين لئلّا يكتفي الطالب بالكتاب وحده ويضطر للعودة إلى المصادر الأصلية للاستزادة.
- محاضرات في النقد الأدبي
ألّفته الدكتورة سهير القلماوي، نُشر عام 1955م أوّل مرة، وقد كان المقرر على طلبة الدراسات العليا في مصر في الجامعة التي كانت تدرّس فيها، وهو عبارة عن أبواب متفرقة من النقد الحديث بما يناسب مستوى طالب جامعي في ذلك الوقت.