مفهوم الاستقامة في الإسلام
مفهوم الاستقامة في الإسلام
يمكن التحرير المنهجي لمفهوم الاستقامة في الإسلام من خلال المحاور الآتية:
أولاً: مفهوم الاستقامة في اللغة
لها مفهوم جامع عند الجرجاني، ومؤداه السلوك الإنساني الذي يلتزم بالطاعة ويجتنب المعصية، عبر تفعيل الشرع والعقل؛ لتحقيق الغاية من الوجود الإنساني وهو العبادة،كما وتعرف بأنها: "والمضي فِيهِ على سنَن مُسْتَقِيم من رد الْفَرْع إِلَى الأَصْل وَهِي مَأْخُوذَة من المحجة وَهِي الطَّرِيق الْمُسْتَقيم".
ثانياً: مفهوم الاستقامة في القرآن الكريم
من أهم النصوص التي ورد فيها مفهوم الاستقامة قوله -تعالى-: (إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)، والمراد هنا بالاستقامة الثبات على التوحيد والإيمان، وعدم الإتيان بما ينقض ذلك من سلوكيات وممارسات سلبية.
ومن ذلك أيضاً قوله -تعالى-: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا)،والمراد هنا بالاستقامة السير على طريقة ونهج الإسلام، وعدم الجنوح عن مقتضياته.
ثالثاً: مفهوم الاستقامة في السنة النبوية
من ذلك ما رواه سفيان بن عبدالله الثقفي، حيث قال: (قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ غَيْرَكَ، قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ)،ومما لا شك فيه أن المقصود في الاستقامة هنا هو الاتباع الفعلي والعملي لمقتضيات الإيمان بالله -تعالى-.
ومن النصوص النبوية المطولة التي ورد فيها لفظ الاستقامة، ما رواه عبد الله بن عباس: (وكانَ مَن حَوْلَ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قَدِ اسْتَقامَ له، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَلِكُ غَسّانَ بالشَّأْمِ، كُنَّا نَخافُ أنْ يَأْتِيَنا، فَما شَعَرْتُ إلَّا بالأنْصارِيِّ وهو يقولُ: إنَّه قدْ حَدَثَ أمْرٌ، قُلتُ له: وما هُوَ، أجاءَ الغَسّانِيُّ؟ قالَ: أعْظَمُ مِن ذاكَ، طَلَّقَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نِساءَهُ، فَجِئْتُ فإذا البُكاءُ مِن حُجَرِهِنَّ كُلِّها).
(وإذا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قدْ صَعِدَ في مَشْرُبَةٍ له، وعلَى بابِ المَشْرُبَةِ وصِيفٌ، فأتَيْتُهُ فَقُلتُ: اسْتَأْذِنْ لِي، فأذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ، فإذا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- علَى حَصِيرٍ قدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ، وتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ مِن أدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ).
(وإذا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ وقَرَظٌ فَذَكَرْتُ الذي قُلتُ لِحَفْصَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ، والذي رَدَّتْ عَلَيَّ أُمُّ سَلَمَةَ، فَضَحِكَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَبِثَ تِسْعًا وعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ)، والشاهد في الحديث أن من حول النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استقاموا له، ما يعني أنهم استقاموا على طريقته ومنهجه الرباني.
رابعاً: مفهوم الاستقامة في الاصطلاح الإسلامي المعاصر
عرفها البعض بأنها: الإيمان الصادق والمخلص لله -تعالى-، والذي يقتضي الاتباع والحذو الكلي لمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم-،في حين عرفها آخر بأنها: الالتزام بالطاعات كلها، والبعد عن المعاصي جميعها، والثبات على الدين الإسلامي.
خامساً: خلاصة مفهوم الاستقامة في المنظور الإسلامي
بعد النظر في مفهوم الاستقامة في اللغة والنصوص الشرعية والتعريفات الاصطلاحية؛ يمكن الخروج بالتعريف الآتي لمفهوم الاستقامة: اتباع النفس الإنسانية للتوجيهات الإسلامية التي جاء بها الشرع، والعمل وفق مقتضياتها، على الصعيد الفكري والوجداني والعملي والجماعي؛ بغية تحقيق القوامة والصلاح للسلوك الإنساني في الحياة الدنيا، ما يؤول إلى تحقيق السلامة الجزائية في الآخرة.
ولعل المبصر في التعريف الآنف، والذي يجسد خلاصة التعريفات السابقة؛ فإنما يلحظ بجلاء أن مفهوم الاستقامة من المفاهيم الممتدة؛ ذلك أنه يحتم على الإنسان المسلم السير وفق نهج منضبط وهو النهج الإسلامي، والذي ينعكس بدوره على الفلاح والرقي ونيل الجزاء المحمود في الآخرة.
من هنا فإن المعادلة المنطقية التي يعمل بمقتضاها مفهوم الاستقامة إنما تتجسد في امتثال المحمود من الأفعال، والبعد عن المذموم منها في الدنيا، لتأتي النتيجة والانقياد الحتمي في الآخرة إلى الجزاء المحمود والمتمثل في الجنة، والبعد عن الجزاء المذموم والمتمثل في النار.
وأخيراً يجدر القول بأن مفهوم الاستقامة إنما يمتد ليستوعب البنية النفسية والاجتماعية على السواء فالقوامة والصلاح؛ إنما تستدعي قيام الفرد بالإصلاح الذاتي؛ وإذا ما تحقق الإصلاح للفرد فإنه يتعين عليه المبادر لتحقيق الإصلاح الاجتماعي على مستوياته الصغرى والكبرى، فالمهم أن مفهوم الاستقامة يقتضي من الفرد الخروج من التفكير الذاتي، والتمحور حول الذات، ليتم إصلاح الأمة ما أمكن ذلك.