مظاهر رحمة الله بعباده
مظاهر رحمة الله بعباده
إنًّ رحمة الله ليست كرحمة المخلوقين، فالله -سبحانه وتعالى- خلَق الرحمة وأودع في الخلق جزءاً من رحمته، وأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءاً كما ذُكر في الحديث النبوي الشريف، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ)>
ورحمة الله التي أنزلها موزّعةٌ على الإنس والجن والبهائم والمخلوقات جميعها. ومن مظاهر رحمة الله -تعالى- في الخلق وفي الناس ما يأتي:
مظاهر رحمة الله في الخلق
يمكن للإنسان أن يستشعر مظاهر رحمة الله عند تأمّله في الكون والخلق من حوله، فيرى من مظاهر رحمته -تعالى- ما لا يعدّ ولا يُحصى، ومن هذه المظاهر:
- خلْق الإنسان ، وجعْله مكرّماً على غيره من المخلوقات
وحفّه بنعمه ورحمته بتيسير رزقه وهو جنين حتى يكبر ويخرج إلى الحياة الدنيا، ووضع الرحمة في قلب والدته حتى ترعاه وتحنّ عليه، وتسهيل أسباب الرزق لوالده لتحصيل حاجاته من الطعام والشراب، ومن رحمته بالإنسان أنْ خلقه في أحسن تقويمٍ وأفضل صورة.
- خلق الليل والنهار
حيث يستعين الإنسان بالنهار على العمل والسعي في الأرض بما ينفعه، ويستعين بسكون الليل على النوم وأخذ الراحة لاستعادة نشاطه، قال تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
- تسخير الأرض بما فيها لخدمة الإنسان
ولتسهيل عيشه فيها، ومن مظاهر رحمته أنه ينزل من السماء ماء، فالماء أساس الحياة لكل شيء في هذه الأرض، ولولاه ما عاشت النباتات وما عاش الإنسان ولا الحيوان، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).
مظاهر رحمة الله في الناس
إن من مظاهر رحمة الله في الناس في الدنيا والآخرة ما يأتي:
- إرسال الرسل وإنزال الكتب
وذلكَ لهداية الناس إلى الحق، وليتبيّنوا الطريق المستقيم، وليحصلوا على ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى في كتابه العزيز عن القرآن الكريم: (هـذا بَصائِرُ مِن رَبِّكُم وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومٍ يُؤمِنونَ).
للمزيد من التفاصيل عن إرسال الرسل الاطّلاع على مقالة: (( ما هي وظيفة الرسل )).
- وضع الشريعة
وذلك لاحتكام الناس إليها في الحياة الدنيا، حيث وضع الله -سبحانه وتعالى- المبادئ والأحكام والفرائض والأخلاق لاتّباعها والسير على أساسها، فتطبيق ما أمر الله به والابتعاد عما نهى عنه سبيلٌ إلى تحصيل منافع الخلق في الدنيا ودفع المضار عنهم، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
للمزيد من التفاصيل عن الشريعة الإسلامية وخصائصها الاطّلاع على مقالة: (( خصائص الشريعة الإسلامية )).
- الرخصة في الأحكام الشرعية
فقد رتّب الشرع أحكاماً لمختلف الأعمال والتكاليف ليقوم بها الإنسان في حالته الطبيعة، أما في حالات الاضطرار والمشقّة والحرج التي لا يتمكّن الإنسان فيها من القيام بالأعمال اللازمة عليه؛ فقد خفّف الله -سبحانه- عنه هذه الأحكام وسهّلها بما يُمكّنه من أدائها، وهو ما يسمى بالرخصة.
ومن الأمثلة على الرخص: قصر الصلاة الرباعية في السفر، والفطر في رمضان للمريض والمسافر، وأكل الميتة عند الاضطرار لدفع الهلاك عن النفس، قال تعالى: (فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رَحيمٌ).
- الإثابة على الصبر وعلى الأعمال الصالحة
فما من مؤمنٍ يصبر على مصيبة إلا وله ثوابٌ على صبره ويُحتسب أجره عند الله، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
وكذلك المؤمن الذي أدّى الفرائض والتزم بالأوامر واجتنب النواهي فثوابه عند الله، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)
للمزيد من التفاصيل عن الصبر في الإسلام الاطّلاع على مقالة: (( مفهوم الصبر في الإسلام )).
- فتح باب التوبة للعباد
ومغفرة ذنوبهم وتقصيرهم إذا تابوا إليه سبحانه، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ونجاة المؤمنين من العذاب الأليم، قال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وشروط التوبة الصادقة ثلاثة وهي:
- الندم على المعصية.
- والإقلاع عنها.
- والعزم الصادق على عدم العودة إليها.
وإن كان هناك حقوق للناس والعباد فيلزم إعادة هذه الحقوق لأصاحبها، وجزاء من تاب مغفرة الله وجنّته ورضوانه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
- العقل
حيث خلق الله للإنسان العقل وجعله قادراً على التعلم، كما وعلّم الإنسان ما لم يعلم بفضله ورحمته، ورزقه القدرة على الفهم والإدراك والبيان والإفصاح عما يعلمه ويفهمه، قال تعالى: (الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).
فالبيان الذي ميّز الله به الإنسان على غيره من المخلوقات من أجلّ وأعظم النعم التي تدل على رحمته -سبحانه وتعالى- بخلقه.
مظاهر رحمة الله يوم القيامة
إن من مظاهر رحمة الله -تعالى- في اليوم الآخر ما يأتي:
- إدخال المؤمنين الجنة يوم القيامة برحمة الله وفضله
لا بأعمالهم، قال عليه الصلاة والسلام: (لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ)، حيث تقصُر الأعمال مهما كثُرت عن أن يكون جزاؤها المقابل لها الخلود في جنة عرضها السماوات والأرض.
- قبول الله شفاعة من يشاء من النبيّين والعلماء والملائكة و الصالحين
ومن الشفاعة التي يقبلها -تعالى- شفاعة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الكبرى في الخلق لتعجيل الحساب، وشفاعته في أهل الذنوب من أمّته لإخراجهم من النار، وكذلك لمَن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لدخول الجنة.
- إخراج من كان في قلبه ذرةً من الإيمان من النار
إذ يأمر الله ملائكته: (فيقولُ اذهبوا فلا تدَعوا في النَّارِ أحدًا في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ إيمانٌ إلَّا أخرجتُموهُ قال فلا يبقى إلَّا من لا خيرَ فيهِ)، وهذا مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا).
- رحمة الله فيمن يبقى في النار من المسلمين
فبعد أن يشفع النبيّون والصالحون؛ ينادي الله في الخلق فيقول: (بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فيُخْرِجُ أقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فيُلْقَوْنَ في نَهَرٍ بأَفْوَاهِ الجَنَّةِ).
موجبات رحمة الله
بيّن العلماء الأمور التي يعد فعلها سبباً في تحصيل رحمة الله -تعالى- للمؤمن بعد تيقّن أن الله هو أرحم الراحمين، ويذكر ذلك فيما يأتي:
- رحمة الإنسان بالناس كافة
مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم وأديانهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
- قراءة القرآن الكريم
وحسن تدبره، يقول تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين).
للمزيد من التفاصيل عن قراءة القرآن بتدبّرٍ وخشوع الاطّلاع على مقالة: (( كيفية الخشوع في قراءة القرآن ))، ومقالة: (( ما هو فضل القران الكريم )).
- تقوى الله
بفعل أوامره واجتناب نواهيه، يقول الله تعالى: (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
- صلاة أربع ركعات قبل صلاة العصر من موجبات الرحمة.
- طاعة الله ورسوله
يقول تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
للمزيد من التفاصيل عن حق الله ورسوله الاطّلاع على مقالة: (( حق الله وحق الرسول )).
- الإحسان بمراقبة الإنسان لنفسه
خلال ليله ونهاره وسرّه وعلنه، بحيث يعبد الله كأنه يراه، فيُحسن عبادته ويتقن عمله ويحسن للناس، لشعوره بوجود الله معه في كل خطوة من حياته، يقول تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)..
- المكوث في المسجد.
- زيارة المريض.
الرحمة في القرآن والسنة
نالت صفة الرحمة مكانة متقدّمة في الإسلام، ويشهد لذلك كثير من الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن ذلك:
- استفتاح السور القرآنية بالبسملة
التي تحتوي على صفتي الرحمة وهما الرحمن والرحيم، فالرحمة هي الأصل والأساس في كل المعاملات بين الخلق في التشريع الإسلامي، ولذلك افتتحت كل السور بالبسملة للتأكيد على أهمية صفة الرحمة في الإسلام، فالتعامل بالرحمة هو سر الراحة والشعور بالأمان والتفاؤل والرجاء.
- استفتاح القرآن الكريم بسورة الفاتحة
التي تكرّرت فيها صفة الرحمة ابتداءً من البسملة وفي السورة نفسها كذك للتأكيد على أهمية هذه الصفة في التشريع الإسلامي، وقد وصف الله -تعالى- نفسه في سورة الفاتحة فقال: (الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ)، فسورة الفاتحة هي أساس الصلاة ولا تصح بدونها، ففي كل صلاة يتذكّر المسلم صفة الرحمة، ورحمة الله -تعالى- به وبالمخلوقات.
للمزيد من التفاصيل عن سورة الفاتحة الاطّلاع على مقالة: (( بحث عن فضل سورة الفاتحة )).
- حث القرآن الكريم المسلم على أن يكون خُلقه كله رحمة
وذلك في التعامل مع الناس جميعاً، ابتداءً بالتعامل مع الأم والأب؛ قال تعالى: (وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا)، وختاماً مع كل البشر حتى مع من لا يعرف من الضعفاء والمساكين وغيرهم كذلك، قال تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَر * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ).
- حث الرسول على صفة الرحمة
ويظهر ذلكَ في أحاديث عديدة ليدل على أن الرحمة في الإسلام مقدَّمة على الغضب، والرفق واللين مقدَّمٌ على الشدة والقسوة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ).
- بيان أن الرحمة سببٌ لمغفرة الله للعبد
سواء كانت الرحمة بالإنسان أو الحيوان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (بَيْنا رجل يمشي، فاشتدَّ عليه العطش، فنزَل بئرا، فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العَطَشِ، فقالَ: لقَدْ بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أمْسَكَهُ بفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ له، فَغَفَرَ له، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وإنَّ لنا في البَهائِمِ أجْرًا؟ قالَ: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ).