مظاهر التجديد في شعر أبو نواس
مظاهر التجديد في شعر أبي نواس
مظاهر التجديد في اللغة
تأثّرت اللغة الشعرية لأبي نواس بعاملين أساسيين، الأوّل: البيئة المدنية، حيث طغت على أشعاره اللغة البسيطة، والمفهومة، والخالية من التعقيد كما هي اللغة السائدة آنذاك، والعامل الثاني: السلطة العرفية والفكرية، حيث ظهر ذلك في قصائد المدح ، والتي تتماشى مع أعراف الأجداد القدماء، كما يُمكن تصنيف الألفاظ في شعر أبي نواس بناءً على مضمون الشعر إلى؛ قصائد الغزل، والقصائد الحضارية التي تعكس مظاهر الفلسفة، والعلوم، والديانات.
دلّت مجموعة من المظاهر على التطور والتغيير اللغوي الذي طرأ على شعر أبي نواس، ومنها ما يأتي:
- استخدام اللغة كوسيلة للتعبير عن ذاته ومعتقداته الداخلية بمعزل عن العالم الخارجي وأفكاره.
- الحفاظ على اللغة حيّةً؛ إذ يُمكن فهمها باختلاف الأوقات والأماكن.
- اعتماد لغة ليّنة وسهلة، إذ تميّزت بسلاستها وبساطتها فلا يستصعبها القارئ، وكأنّها حديث يومي يسهل فهمه.
ميّزت هذه السمات وغيرها شعر أبي نواس وأسلوبه عن باقي الشعراء، فكانت أشعاره وقصائده دائمة التجدّد والحيوية، ويجدر بالذكر أنّ أسلوبه الخاصّ أثبت في كتابة خمرياته قِدمها وأسبقيتها على غيرها من الخمريات، حيث اعتمد أبو نواس كبقية الشعراء في عصره اللغة الشعبية القريبة للناس في قصائد الغزل ، إذ اشتملت على استخدام عدّة ألفاظ منها الأمثال الشعبية التي كانت مُستخدمةً في اللغة العامّية، مثل: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، إضافةً إلى استخدامه الألفاظ البسيطة الأصيلة في اللغة، والألفاظ المُعرَّبة كبعض الألفاظ النصرانية والمجوسية، بالإضافة إلى الألفاظ الفارسية الدخيلة، ومثال ذلك لفظ "متخرسن" أي الذي يرتدي الملابس الخراسانية الفارسية.
مظاهر التجديد في بنية القصيدة
رفض أبو نوّاس اتّباع النمط الشعري القديم في أغلب قصائده، والذي كان يبدأ بالوقوف على الديار، ويتبعه النسيب، ووصف الرحلة، ومن ثمّ تنتهي القصيدة بالغرض الشعري منها، ودعا إلى اتّباع نمط شعري جديد تميّز بالوحدة الفنية، حيث تقوم بنية القصيدة في نمط أبي نوّاس على مجموعة من العناصر أهمّها وحدة الموضوع، وتواقع المعاني، وتوازن التشبيه ، كما استطاع أبو نواس دوناً عن غيره من شعراء الجاهلية تركيز القصيدة على موضوع واحد وإشباعه دون الخروج عنه إلى نهاية القصيدة.
كان للشعراء العباسيين ومنهم أبو نواس شخصيتان مختلفتان فنياً يظهر كلّ منها تِبعاً للموقف؛ إذ تظهر الشخصية الصادقة العفوية التي تجعل الشاعر يتصرّف على سجيّته، وذلك أمام أصدقائه والأشخاص المقرّبين منه، والشخصية المتزنة عند لقاء الملوك والحُكّام في المجالس الرسمية، ويجدر بالذكر أنّ الشاعر أبو نواس تميّز بشعره عن شعراء الجاهلية ، ولكنّه لم يُخالفهم أو يبتعد عن أسلوبهم، وإنّما أراد أن يظهر للناس بأسلوب مُتفرّد عن غيره، أيّ بأسلوب أعمق وأكثر واقعية.
مظاهر التجديد في الأغراض والموضوعات الشعرية
تتعدّد الأغراض الشعرية لأبي نواس وهي في اتجاهين كالآتي:
- الاتجاه الأوّل: يضمّ شعر أبي نواس المديح، والرثاء، والطرد، إذ حافظ فيه الشاعر على أنماط الشعر القديم وتقاليده؛ كالمطلع الطللي، وركوب النياق، واستخدام غريب المفردات، وغيرها، مُبتعداً بذلك عن التجديد، ويُمكن تعليل استخدام أبي نوّاس لأسلوب الأعراب الذي طغى على قصائد المدح والطرد إلى مُحاولته إرضاء اللغويين، وإظهار مهاراته اللغوية، إضافةً إلى حرصه على مراعاة مقام الممدوح، حيث كان يمتدح الخلفاء والوجهاء، مثل: هارون الرشيد .
- الاتجاه الثاني: يتمثّل في قصائد أبي نوّاس حول الهجاء ، والغزل، والخمر، إذ ابتعد فيها تماماً عن أنماط الشعر القديم وأساليبه، وأخذ منحى أكثر حداثةً وتجديداً.
تتمثّل مظاهر التجديد في شعر أبي نواس في كلّ غرض من الأغراض الشعرية كما يأتي:
- الخمرة: تفرّد أبو نواس عن غيره من الشعراء في قصائد الخمريات، فقد كانت غرضاً مُستقلاً بذاته، إذ استطاع في قصائده ذِكر كافّة الجوانب التي تخصّ الخمر، مع مراعاة القوة في الألفاظ والمعاني، والاستخدام البديع للغة والصور الفنية، ويظهر التجديد في شعر أبي نوس حول الخمر باتجاهين مختلفين، حيث اتّبع في الاتجاه الأول الأسلوب القديم الذي يُحاكي أجداده، أمّا الاتجاه الثاني فاتّبع فيه أسلوبه الخاصّ وثار على النمط القديم، فاستعاض عن التأليف والتغنّي بالأطلال، بأسلوب أكثر واقعية، والذي يعكس بصدق ما كانت عليه بعض مظاهر الحياة في العصر العباسي ، فاستخدم لغةً سلسةً بسيطةً تعكس رفاهية عصره.
- الغزل: احتوت الكثير من قصائد أبي نواس على الغزل خاصّةً في الجارية التي أحبّها وملكت قلبه.
- الهجاء: أولى أبو نواس القليل من اهتمامه في هذا الغرض، ومع ذلك فقد شمل هجاؤه عدّة جوانب؛ الهجاء السياسي بقِسميه هجاء العرب وخاصة النزاريين، وهجاء الأمراء والوزراء، وهجاء العلماء من اللغوين وأصحاب الكلام، إضافةً إلى هجاء الندماء والشعراء، ويُشار إلى أنّ أبا نوّاس اتّبع ذات النمطين الأساسيين في هجائه؛ التمسُّك بالقيم والتقاليد التي ورثها عن أجداده كالجرير والفرزدق، والتركيز على وصف القيم الجديدة التي سادت في الدولة العباسية، مُقتدياً بذلك بأستاذه بشار.
- الزهديات: برع أبو نواس في الزهديات، فعلى الرغم من قلّتها مقارنةً بغيرها من القصائد الشعرية، إلّا أنّها من الأصدق في التعبير عن الندم والزهد، حيث أنّ أبا نواس كتبها في آخر حياته تعبيراً عن توبته من الذنوب والمعاصي.
- الطرديات: لاقت الطرديات انتشاراً واسعاً في العصر العباسي، وعبّرت عن مجالات مختلفة منها النفسية، والاجتماعية، والفنية، حيث عكست بدلالاتها الرمزية الواقع آنذاك، وقد أكثر أبو نواس من النظم في هذا الغرض، إذ تفردّت قصائده بعمقها والاستعارات الفنية الخيالية المأخوذة من الواقع.
مظاهر التجديد في الأوزان والقوافي
سار أبو نواس على الأوزان العربية للشعراء القدامى دون تجديد، حيث أظهرت دراسة أجراها الباحثون حول الأوزان والقوافي في شعر أبي نواس إلى اتّباعه بحور الشعر المختلفة بنسب مُتباينة؛ إذ يشمل البحر البسيط مثلاً 20% من شعره، والبحر الطويل 17%، والبحر الكامل 15% وغيرها من البحور؛ كالوافر، والرمل، والمنسرح.
يُرجّح أنّ أبا نواس اتّبع أنماط العروض القديمة جهورية الإيقاع كما الشعراء القدامى ، إضافةً إلى كتابته قصائد أُخرى تشمل بعضاً من التجديد بهدف جعل الأنماط أكثر خفّةً ونعومة، وسهلة النطق والفهم، إذ إنّ تجديده لم يشمل استخدام عَروض مُحدّث، وإنمّا حرص على التباين في استخدام الأوزان العروضية؛ ومن الظواهر العروضية الأخرى التي وُجدت في قصائده ما يأتي:
- توظيف المسمطات: وهي نوع من القصائد التي تتألّف من عدّة أدوار، تضمّ كلّ منها 4 شطور، حيث تتحدّ أول ثلاثة شطور معاً في القافية، أمّا الشطر الرابع فيُخالفها في القافية ويتّفق مع الشطور الأخيرة لباقي الأدوار.
- المزدوجات: عادةََ ما تُنظم على بحر الرجز، وتختلف القافية فيها من بيت إلى بيت، وتتّفق بين كلّ شطرين متقابلين.
- التحلّل من القافية: فقد حاول أبو نواس كباقي شعراء عصره الاستغناء عن القافية كنوع من التجديد.
مظاهر التجديد في الصور الأدبية
تُعدّ الصورة الأدبية بما تشمله من تشبيه، ومجاز، واستعارة، وغيرها من العناصر، وسيلةً لنقل أفكار الشاعر ومشاعره للمُتلقّي، وممّا يُميّز الصورة الأدبية عن غيرها من أنماط الكلام ما يُصاحبها من إيقاع يُطرب المُستمع، وقد ذكرت دراسة لساسين عساف النماذج المُختلفة للصورة الأدبية في شعر أبي نواس، وهي كالآتي:
- الصورة الكلاسيكية: تُعبّر عن كلّ ما هو محسوس وحقيقي يُحاكي الواقع وينسجم مع أبعاد الزمان والمكان.
- الصورة الرؤيوية: وهي تلك التي تذهب بالمُتلقّي إلِى ما وراء المادّيات، وتُحفّز مخيلته، وتخاطب إحساسه.
- الصورة الإيحائية: تدلّ على التعبيرات المجازية، والمعاني المُجرّدة.
- الصورة الرمزية.
- الصورة السريالية.
- الصورة الرومانطيقية.
وفي دراسة أخرى لأيمن العشماوي، وجد أنّ الصور في خمريات أبو نواس تتصف بصفات مختلفة، وهي كالآتي:
- الحركة: تعبير الصورة عن أحاسيس الشاعر وانفعالاته، وعكس رؤيته في الأشياء الخارجية، وليس مجرد ملاحظة وتحليل فقط.
- الخيال البرقي: امتزاج الواقع بالخيال، أيّ تتحّد الحركة المادية المحسوسة مع انفعالات الشاعر وعواطفه.
- الدرامية: تشخيص الشاعر للحدث من خلال الحوار الذي يدور بين الشخصيات، وما يتخلّل ذلك من انفعالات داخلية ومفاجآت.
- المؤثرات اللمسية، والشمية، والصوتية، والبصرية: توظيف حواس الإنسان لإيضاح المعنى وزيادة التعبير.
- الطرافة في الصورة.
تطغى على الصورة في شعر أبو نواس مجموعة من المظاهر العامّة على اختلاف النماذج بين الدارسين والمُحلّلين، إذ يُمكن اختزال السمات العامّة للتصوير في شعر أبي نواس بما يأتي:
- عكس الصورة جزءاً من لغة الشاعر، إذ تتضمّن حياته، وأفكاره الداخلية، ورؤيته للأشياء من حوله.
- مُحاكاة الصورة للتغيّرات والتطورات التي تطرأ على حياة الشاعر، ولغته، والظروف السائدة.
- إضفاء الصورة عناصر الحرية، والطرافة، والانفتاح، والتعبير عن الشاعر بصورة حيّة تُلامس المتلقّي.
- إضافة الصورة للعديد من المؤثّرات الجديدة التي رفعت من مستوى التأثير والتعبير؛ كاللمس، والشم، والصوت.
- مساهمة الصورة في تشكيل كيان للقصيدة من خلال بناء رؤية لها، واستمرار بنائها وتغيّرها حتّى تتوحد في النهاية.
مظاهر التجديد في المطالع
يظهر تجديد أبو نواس في مطالعه الشعرية فيما يأتي:
- المقدمة الطللية: استعمل أبو نواس إمكاناته اللغوية للخروج بنهج جديد وأكثر حداثةً للأطلال التي تعود إلى العصور السابقة، فبدلاً من استعمالها في ذكر الرحلة والراحل، استخدمها أبو نواس في بداية قصائده الخمرية، فاستعمل ذات المفاهيم ولكن بأسلوب يُحاكي واقعه الجديد، ويمزج بين الجدّ والهزل.
- المقدمة الغزلية: أظهر أبو نواس معاني الشوق، والطهر، والعفّة في مُقدّماته الغزلية رغم ندرتها، بالإضافة إلى توظيفه الرموز والصور الأدبية لإضفاء معانٍ أعمق وأكثر تأثيراً على المُتلقّي.
- مقدمة الظعن: اتّبع فيها أبو نواس أسلوبه الخاص المُغاير للأنماط القديمة، حيث اعتمد فيها وصف رحلته الخاصّة وما تضمّنتها من مغامرات، وأحداث شخصية، مُعبّراً عنها بأسلوب فنّي يتوافق مع شخصيته وأفكاره، وينعكس ذلك بشكل واضح في مقدماته.
- مقدمة الشيب والشباب: ضمّت قصائد أبو نواس القليل من مُقدّمات الشيب والشباب مقارنةً بغيرها، حيث إنّه وفي حديثه عن الشباب والشيخوخة تعمّد ربطهما بالواقع، وحاول عكسها على المظاهر من حوله.
- المقدمة الخمرية: طغت المُقدّمات الخمرية على شعر أبي نواس، وهذا يتناسب مع ما كان يدعو إليه من حرية التعبير، والانفتاح، وتناول بعض مظاهر الحضارة العباسية الجديدة من رغد، وترف، حيث وجد فيها سبيله في الثأر على القديم، وترك العناصر والموروثات الشعرية القديمة.
مظاهر التجديد في تبني اتجاهات شعرية جديدة
يوجد العديد من التيارات والظواهر التي اعتمدت اتجاهات شعرية جديدة، ومنها ما يأتي:
ظاهرة المجون
ساعد تطوّر الحياة في العصر العباسي في ظهور أنماط حياتية جديدة، حيث ساهم ارتفاع المستوى المادي والمعيشي للكثير من أفراد المجتمع العباسي في انتقالهم من حياة البداوة إلى حياة المدينة والتحضّر والانفتاح، فبدأ الأشخاص يُعبّرون عن رغباتهم باحثين عن المتعة وإشباع الملذّات ضمن إطار المجون، وهذا التناقض بين الزهد وبين المجن والمحظور والمباح كان من أبرز مظاهر التجديد في الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، إذ حاول شعراء العصر ومنهم أبو نواس التعبير عنه وعن سماته في شعرهم، ممّا دفعهم للتحرر من قيود الأنماط القديمة، وابتداع أنماط جديدة تُحاكي ما طرأ من تطورات.
عبّر أبو نواس عن المجون في شعره كظاهرة مُباحة، وعلامة ميّزت عصره عن غيره من العصور القديمة، ويعود ذلك إلى العديد من الأسباب التي ساعدت في انتشار هذه الظاهرة، ومنها ما يأتي:
- توسّع الدولة العباسية: حيث زاد نفوذهم في مختلف أقطار العالم، وازداد اختلاطهم بالأعراق، والثقافات المُختلفة، من خلال التجارة والزواج، ممّا انعكس على العباسيين وطريقة معيشتهم.
- انتشار مظاهر البذخ: حيث شهدت هذه الفترة احتكار الأموال في أيدي الطبقة الأرستقراطية؛ وهي طبقة الملوك، والأمراء، والوزراء، وكبار رجال الدولة، الذين شهدوا ثراءً فاحشاً.
- الاستعباد: إذ استبدّ بعض الملوك، وحرموا عامّة الشعب من حقوقهم الأساسية، وعاملوهم بعنف شديد.
ذكر أبو نواس المجون والزندقة في قصائده، ودلّ على ذلك مجموعة من الملامح، كان من أبرزها ما يأتي:
- التطّرق إلى المجون بشكل تدريجي، فبدأ يتناوله بجزء من القصيدة، ثمّ بقصيدة كاملة، حتّى أصبح غرضاً شعرياً مُستقلاً.
- بدأ وصف المجون كسلوك في مجالس اللهو والطرب، ومن ثمّ تحوّل إلى وصف الجواري.
- أشار المجون إلى جانبين أساسيين من حياة أبو نواس، أوّلها طريقة تفكيره، وثانيها قدرته على التصوير الفني وكتابة هذا النوع من الشعر .
ظاهرة الشعوبية
أدّت حرية التعبير والرأي الاجتماعي الذي ساد الدولة العباسية إلى سعي بعض الحركات المُتطرّفة إلى توسيع نفوذهم ونشر أفكارهم المُتعصّبة، ولعلّ من أشهر هذه الجماعات الشعبويين، وهي جماعة مُتعصّبة تسعى إلى إنكار أيّ فضل للعرب، وقد ساعد في توسّع هذه الحركة وجود مُؤيدين لهذه الجماعة، ومن يدعمون تطوّرها من بعض أصحاب النفوذ الذين كانوا من أصول أعجمية، بالإضافة إلى استغلال بعضهم لقدراتهم الشعرية في دعم هذه الجماعة ونشر معتقداتهم، كما حاول البعض الآخر إثارة النعرات ونشر بعض أبيات الشعر التي تحطّ من العرب القدامى.
ملامح وصور التجديد في شعر أبي نواس
وِفقاً للدكتور محمد هلال يلجأ الشاعر إلى التجديد عند شعوره بعدم كفاية الأنماط والمبادئ القديمة في التعبير عن المُستجدّات الحديثة، فيبدأ بالثورة على القيم القديمة، ومثل ذلك البدء بالبكاء على الديار والأحبّة، وبعدها الانتقال إلى وصف الرحلة والسفر، ليختم قصيدته بالغرض الذي كتب لأجله.
أدّى التطور في كافّة الجوانب خلال العصر العباسي، وتحوّل المعيشة من البداوة إلى المدينة إلى تغيّر في الفكر والأدب وامتزاج الثقافات، إذ أصبح النمط القديم للشعر قاصراً عن مواكبة الحاضر، حيث إنّ الكثير من الشعراء لم يعرفوا حياة البادية، ولم يُجرّبوا حياة السفر والترحال، إضافةً إلى احتياج الشاعر إلى اتّباع أسلوب أكثر سلاسة، فجمع بين اللغة البدوية الزاخرة بالمعاني القوية؛ ليُحافظ على بنية شعره، ولغة العامّة بكلماتها البسيطة؛ ليُسهّل فهمها وتداولها.
تتلخّص الأيديولوجيا الشعرية لأبي نواس حول التجديد في العديد من الصور، ومن أبرزها ما يأتي:
- صورة رفض الطلل: آمن أبو نواس بمفهوم الصدق الفني، وحاول أن يستخدم شعره في التعبير عن الواقع الذي يعيشه، وذِكر كاّفة جوانبه، فقد دعا إلى ترك الأنماط القديمة لاعتقاده أنّ الشعر ينبع من طبيعة الحياة فإذا تغيرت الحياة وجب التغيير في الشعر، ودعا في شعره إلى الابتعاد عن الوهم والكذب الشعري.
- صورة استبدال الطلل بالخمرية النواسية: جعل أبو نواس من الخمر غرضاً شعرياً مُنفرداً، فقد رواه قصصاً وجعله حواراً، وأضاف عليه أسلوباً فنياً، وقد كانت مهرباً له من الأطلال والنمط الشعري القديم، إذ أحبّها ودعا إليها في أشعاره، وساعده في ذلك الترف المادي والإقبال على الخمر في ذلك الوقت.
- صورة العودة النواسية: يُشار إلى أنّ شعر أبو نواس احتوى على التناقضات؛ حيث فيه الخمر والمجون من جهة، وأبياتاً في الزهد والتوبة من جهة أخرى.
دراسة التطور في الشعر العربي
يتناول موضوع دراسة التطور والتغيير في الشعر العربي على مرّ الأزمنة والعصور مجموعةً من الأبعاد والجوانب، تبدأ ببناء القصيدة ويشمل ذلك هيكل القصيدة، والأجزاء التي تقوم عليها، ثمّ تناول التغييرات في أغراض الشعر وموضوعاته المختلفة، وأخيراً بدراسة التباين في الوزن والقافية ، والذي يشمل اختلاف المعاني، والصور الشعرية، والصياغة، والموسيقا.
من هو الشاعر أبو نواس؟
يُعدّ أبو نواس من أشهر الشعراء في عصره، وهو الحسن بن هاني الحكمي، وُلد في الفترة ما بين 139-145هـ لأب عربي وأمّ فارسية، حيث أتقن اللغة الفارسية على يدها، وفي الثانية من عمره ويُقال السادسة انتقل أبو نواس مع أمّه إلى بصرة العراق بعد وفاة والده، وعندها التحق الشاعر بالكُتّاب وبدأ يغترف من مناهل العلم في حلقات المسجد، وتعلّم الفقه، والتفسير، والحديث، فضلاً عن اللغة، والشعر، والأدب، ويُشار إلى أنّ أبا نواس كان حسن المظهر، وأبيض اللون، ولديه بحّة في صوته، ويلثغ بحرف الراء.
تختلف آراء الشعراء حول شعر أبو نواس، ومن هذه الآراء ما يأتي:
- قال عنه أبو عبيدة: ذهبت اليمن بجيد الشعر في قديمه، حديثه بامرئ القيس في الأوائل، وأبي نواس في المحدّثين.
- قال عنه عبيد الله بن محمد بن عائشة: من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتامّ الأدب.
- قيل عنه: شعراء اليمن ثلاثة؛ امرؤ القيس، و حسان بن ثابت ، وأبو نواس.
- قال مادحاً نفسه: لو أنّ شعري يملأ الفم ما تقدّمني أحد.
تتصف سلوكيات أبي نواس بالتناقض، وقد اتّهمه البعض بصفات لم تكن من شخصيته، ونُسبت إليه العديد من الأقوال التي تحتاج إلى التحقيق، أمّا عن الحقائق المتعلّقة به، فهي كما يأتي:
- لم يثر أبو نواس على الأطلال بهدف ابتداع نمط فني خاصّ به، إذ يظهر في الكثير من قصائده استهلاله بالأطلال ، والبكاء على الديار.
- لم يقتصر شعر أبي نواس على الخمريات والغزل، وإنّما كانت جزءاً من قصائده وأشعاره التي شملت كافّة الأغراض الشعرية.
- لم يكن هجاء أبو نواس نابعاً من فلسفة الشعوبية أو الأفكار السياسية، أو قاصداً العرب المُتقدّمين.
- توجهت آراء أبو نواس في ترك الأطلال لتغيير السلوك البدوي، وليس انتقاصاً من النمط الشعري.