مراحل تدوين السيرة النبوية
مراحل تدوين السيرة النبوية
امتاز تدوين السيرة النبوية بسنده المتّصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بواسطة الصحابة الذين شاركوا رسول الله تفاصيل أيّامه ومواقفه، ثمّ بعد وفاة رسول الله عاش الكثير من الصحابة، فسمع التابعون منهم هذه التفاصيل، ومن الصحابة مَن امتدّت حياته إلى عام المئة بعد الهجرة أو بعده، فقد تُوفّي أبو الطفيل عامر بن واثلة بعد المئة بعام، ومحمود بن الربيع قبل المئة بعام، وقد بدأ رسمياً تدوين السُّنة النبويّة في عهد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- الذي تُوفّي عام المئة وواحد بعد الهجرة، ولم ينقطع هذا التدوين والتتابع في تلقّي السُّنة.
بدايات الاهتمام بالسيرة النبوية
اهتمّ الصحابة برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- اهتماماً كبيراً، ابتداءً من كونه الرسول الذي بعثه الله تعالى ليتمّم مكارم الأخلاق ، وبالإضافة إلى كونه الرسول القائد في الغزوات والمعارك، والرسول الأب والزّوج، فقاموا بنقل كل ما ورد عنه من الأقوال والأفعال في جميع شؤون حياته، فنقلوا أفعاله في مأكله، وملبسه، ومنامه، وعباداته، ونظافته، وكلّ أُمور حياته، والدافع في ذلك هو محبّتهم ومشاركتهم له، ورغبةً منهم في الاقتداء به، وقد اشتُهر عددٌ من الصحابة باهتمامهم برواية الأحداث عن رسول الله، فمثلاً عبد الله عباس كان يروي الأحداث المتعلّقة بغزوات الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، كما اشتهر عبد الله بن عمرو بن العاص بحرصه على كتابة كل ما يسمعه من رسول الله، وغيرهم الكثير من الصحابة، وقد نقلوا أحداث السيرة إلى تلاميذهم، وكانوا يسعون إلى نشرها بين النّاس.
ودخلت المؤلّفات المختصّة بالسيرة النبوية ضمن المؤلّفات المختصة بالتاريخ، ثمّ بعد ذلك استقلّت من خلال ما يُسمّى بالمطوّلات والمختصرات، ثمّ إنّ هذه المؤلفات منها ما يتضمّن الصحيح، ومنها ما دخل فيه غير الصحيح، فاحتاج إلى تنقيح وتمييز الصحيح عن غيره، ومن الذين أفردوا السيرة النبوية في مؤلّفات خاصة حينها؛ موسى بن عقبة بن أبي عياش الذي ألّف كتاب المغازي، وقد قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: "عليكم بمغازي ابن عقبة فإنّه ثقة"، وأيضاً كتاب المغازي الذي ألّفه معمّر بن راشد الأزدي، وهذا الكتاب فُقِدت نُسخته ووُجدت مقتبسات منه في كتب التاريخ، وكتاب الخلفاء والمبتدأ الذي ألّفهما محمد بن إسحاق، ثم بعد ذلك كثر المؤلّفين في هذا المجال.
وازداد عدد المؤلّفين بدخول القرن الثاني، وكان ذلك في عهد عمر بن عبد العزيز؛ الذي قام بتشجيع هؤلاء العلماء بنشر السُّنة والسّيرة من خلال مجالس العلم، فأصبحت المؤلّفات أكثر صحّة عن سابقتها، وبدأ النّاس يميّزون بين السُّنة والسّيرة، وظهر علماء كثيرون اختصّوا في هذا المجال؛ منهم عاصم بن عمر بن قتادة، وشرحبيل بن سعد، ومحمد بن مسلم الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر الأنصاري.
انفصال كتابات السيرة عن غيرها من العلوم
بدأ عروة بن الزبير بن العوام بكتابة السيرة النبوية وجمع الأخبار عن الغزوات والمعارك التي خاضها رسول الله، وكان هو أوّل مَن بدأ بذلك في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، ثم تبعه عددٌ كبيرٌ من التابعين الذين أبدوا اهتماماً كبيراً بالسيرة النبوية ونقل أخبار رسول الله؛ ومنهم أبان بن عثمان، ووهب بن منبّه، وعاصم بن عمر، ثم تناثرت هذه المصنفات جميعها، ولم يبقَ منها إلّا ما وُجد في المصنفات الأخرى؛ أمثال مصنفات ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، والطبري، ثم جاء تلامذة ابن شهاب الزهري، فقاموا بتأليف المصنّفات المختصّة بالسيرة، أمثال موسى بن عقبة، ولم توجد نسخة من كتابه، ومعمر بن راشد وأبو معشر المدني كذلك، فلم يبقَ من مؤلّفاتهما شيئاً إلا ما وُجد في المصنّفات الأخرى أيضاً.
وتشمل السيرة النبوية ما اتّصل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورُوي عنه من حيث نسبه، ومولده، ونشأته، وبعثته، وصفاته، وحياته منذ ولادته إلى أن توفّاه ربّه، ثم امتدّ هذا المصطلح ليشمل غزواته -عليه السلام-، فمثلاً كتاب ابن اسحاق جمع بين الاتّّجاهين، فيُقال له السيرة، ويُقال له المغازي، ومن المؤلّفين مَن جمع بين الاتّجاهين حين سمّى كتابه؛ مثل ابن عبد البر، ومن الكتب ما تضمّنت السيرة بأصلها دون أن تذكر الغزوات والحروب، وقد أُطلق على هذه المؤلفات اسم دلائل النبوة، والشمائل، والخصائص، ولم تقتصر المؤلّفات على ذلك فحسب، بل ألّفوا أيضاً ما يتعلق بجانبٍ واحدٍ من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ مثل صفاته، أو أسمائه، أو دلائل نبوّته، وغيرها.
ظهور تنوع التأليف في السيرة النبوية
تطوّر جانب التأليف في السيرة النبوية حتى وصل إلى التأليف في جانبٍ واحٍد من الجوانب التي تنبثق عن السيرة، كالتأليف في دلائل النبوّة وعلاماتها، مثل أبي بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة ومعرفة أحوال الشريعة "، الذي لم يقتصر فقط على دلائل النبوة، وإنّما جمع أيضاً بعثة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- وغزواته ومراحل حياته كلّها، ثمّ في القرني الخامس والسادس انضمّ إلى جانب البيهقي الكثير من العلماء، أمثال البغوي وابن الجوزي، وفي الأندلس ظهرت المؤلّفات المختصّة والمؤلّفات التي جمعت جوانب عديدة، ويُلاحظ على هؤلاء العلماء أنّهم كانوا من عظماء زمانهم وممّن عُرفوا بجمع الآثار والسنن، كما يُلاحظ التنوّع في التأليف في هذه الفترة، ثمّ في القرن الثامن الهجري ظهر مجموعة من العلماء أمثال ابن القيم، وابن كثير، والذهبي، وقد امتاز هؤلاء بامتلاكهم لأدوات البحث التي تعدّت بهم من البحث والجمع إلى التنقيح والتمييز ما بين الصحيح وغير الصحيح، كما بذل هؤلاء الكثير من الجهود في هذا المجال الذي أظهر براعتهم وتميّزهم عمّن سبقهم مع حفظهم لجهود العلماء السابقين.
واستمرّ التأليف في السيرة النبوية منذ عهد هؤلاء وصولاً إلى الزمن الحاضر بأسلوبٍ يتناسب مع أبناء العصر، وممّا أُلِّف في هذا العصر؛ كتاب "نور اليقين في سيرة سيّد المرسلين" لمحمد الخضري، وانبثق التأليف في السيرة النبوية من الحديث النبوي الشريف، وبالاعتماد على قواعد وأُسس التأليف في السيرة النبوية، كما أنّ الذين اهتموا بالسنة النبوية هم الذين اهتمّوا بالتأليف في السيرة النبوية، وبذلك تكونت ثروة كبيرة وضخمة من المؤلّفات في هذا المجال بسندها ومتنها المتّصل إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-.
أهم كتب السيرة النبوية
هناك العديد من الكتب المؤلّفة في السيرة النبوية، ومنها:
- سيرة ابن هشام؛ لأبي محمد عبد الملك بن أيوب الحميري، ألّف كتابه في السيرة النبوية وضمّنه ما رواه شيخه البكائي عن أبي إسحاق، وما رواه هو عن شيوخه، وما لم يذكره ابن إسحاق في كتابه، فكان كتابه من أشمل الكتب وأدّقها وأصحّها، وصار مرجعاً للكثير من الناس حتّى أنّهم نسبوا الكتاب إليه.
- طبقات ابن سعد؛ لمحمد بن سعد بن منيع الزهري، كان كاتباً للواقدي في المغازي والسيرة، وقد عرّج ابن سعد على ذِكر الصحابة والتابعين بعد ذكره لسيرة رسول الله، فذكر طبقاتهم وقبائلهم وأماكنهم، ويعتبر كتابه من الكتب الموثوقة في سيرة الرسول والصحابة والتابعين.
- تاريخ الطبري؛ لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، إمامٌ وفقيهٌ ومحدّثٌ، وصاحب مذهب في الفقه لم ينتشر كثيراً، واشتمل كتابه في السيرة على تواريخ الأمم التي سبق عهدها عهد رسول الله، وأضاف أيضاً جزءاً من كتابه ذكر فيه التاريخ الإسلامي إلى عهدٍ قريبٍ من وفاة رسول الله ، وذكر في كتابه الكثير من الروايات الضعيفة والباطلة بإسنادها إلى رواتها، لكنّ رواياته التي كان يرويها بنفسه تُعدّ ثقة.
- كتب عظيمة أخرى للسيرة النبويّة: صحيح السيرة النبوية؛ لإبراهيم العلي، وزاد المعاد في هدي خير العباد؛ لابن القيم، والسيرة النبوية؛ لابن كثير، والرحيق المختوم ؛ للمباركفوري، والسيرة النبوية؛ للصلابي، والأساس في السنة؛ لسعيد حوّى، وفقه السيرة؛ للبوطي، وفقه السيرة؛ للغزالي، والمنهج الحركي للسنة النبوية؛ لمنير الغضبان، والسيرة النبوية دروس وعبر؛ لمصطفى السباعي.
- والشفاء؛ للقاضي عياض، والسيرة الحلبية؛ لعلي الحلبي، والمغازي؛ للواقدي؛ والروض الأنف؛ لعبد الرحمن المغربي، والفصول؛ لمحمد بن الحسن، والخصائص الكبرى؛ لجلال الدين السيوطي، وإمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع؛ لتقي الدين المقريزي، والرسالة المحمدية؛ لسليمان الندوي، وخاتم النبيين؛ لأبي زهرة المصري، وعبقرية محمد؛ لعباس العقاد، والرسول القائد؛ لمحمود خطّاب.