متى كانت غزوة الخندق
أسباب غزوة الخندق
استمرَّت دعوة النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في التوسُّع، والنماء، بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المُنَوَّرة، وبالرغم من خسارة المسلمين في غزوة أُحُد، إلَّا أنَّ المشركين ظلُّوا خائفين من نشاط المسلمين، وحركتهم، دُعاةً في سبيل الله. ولقد شَكَّل انتصار المشركين في أُحُد دافِعاً لهم؛ ليعودوا بضربة قاضية تُنْهي بها صوت المسلمين إلى الأبد. فبدأ اليهود هذه المرَّة يتحرَّكون، ويجمعون أعداء المسلمين؛ ليُشَكِّلوا معهم تحالفات، ويُعِدوا العُدَّة لغزوة جديدة ضِدَّ المسلمين. ومن الجدير بالذكر أنَّ أبرزَ مَنْ خرج من اليهود هما كبيراهما: سلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، إذْ تَوَجَّهوا إلى مكَّة مُحَرِّضين أبا سفيان؛ لِيُعِدَّ عُدَّته للقتال، ووعدوه بنصرته، ومَنْ معه، إذا أقبلوا إلى المدينة مُقاتِلِين، فَوَعَدَهم أبو سفيان بالتحرُّك القريب، ولمْ يَكتَف بمنْ حوله من المشركين، بل انطلق إلى القبائل المجاورة يَسْتَنْصرهم، فأقبلت معه قبيلة غطفان، وبعض القبائل الأخرى، كبني أسد، وبني زرارة؛ حتى بَلَغُوا عشرة آلاف مقاتل من المشركين، والكفار.
سَمِعَ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأخبار تحرُّك اليهود، والمشركين، فاستشار أصحابه في أمر الحرب، حيثُ وصل عددهم إلى ما يراوح ثلاثة آلاف مقاتل، فأشار إليه الصحابيّ سلمان الفارسي -رَضِيَ الله عنه- بحفر خندق يَتَحَصَّنون به إذا وصل الأعداء، فأُعْجِب النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه بالفكرة الجديدة، وبدؤوا بحفر خندق حولهم يُحَصِّنهم من ثلاث جهات، وجعلوا خلفهم جبلاً يَحْمي ظهورهم. أمَّا النساء، والأطفال، والذراري (جَمْع ذُرِّية)، فقد أبقاهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- داخل حِصْن في المدينة، واستخلف عليهم ابن أمِّ مكتوم؛ ليحرسهم، ويحميهم في غيبة رجالهم.
وقت حدوث غزوة الخندق
تَمَحوَرَتْ أحداث غزوة الخندق بتحركاتٍ لأبي سفيان، ومن معه من المقاتلين، وبجهود المسلمين في حفر الخندق، وتحصين أنفسهم من عدوهم، وذلك في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة النبويّة. ولقد كانت ظروف لقاء المسلمين بعدوِّهم صعبة جداً، إذْ اجتمع عليهم التعب، والجهد، والجوع والصبر على انتظار العدوّ. ومن الجدير بالذكر أنَّ جابراً -رَضِيَ الله عنه- وَصَفَ جانباً من حالهم، وهم مباشرون العمل، يحفرون الخندق، فقال مِمَّا قال في حديثٍ طويل: إنّ صخرة عظيمة صَعُبَ على المسلمين كسرها، وهم يحفرون، فأخبروا عنها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فقام إليها؛ ليضربها بفأسه، وقد رَبَطَ على بطنه الحجر من شدَّة الجوع، ولم يَكُن قد أكل منذ ثلاثة أيام، فقام جابر إلى زوجته فسألها عن أيِّ طعام تُقَدِّمُه، فَوَجَدَ عندها صاعاً من شعير، وعناق (وهي صغير المعيز)، فذبحها، وحضَّرَها لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فنادى الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- إليها المهاجرين، والأنصار، فناول الجميع من خبز الشعير، وشيءٍ من اللحم؛ حتى أكل المسلمون كلهم، وشبعوا؛ ببركة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
وَصَلَ الأحزاب (المشركون والكفار)، ومنْ أتى مُقاتِلاً المسلمين إلى حيث مدخل المدينة، ففوجئوا بوجود الخندق، وهو شيء لم يكونوا يَعْهَدونه في الحرب، فحاولوا النزول إلى داخله، وقَطْعه؛ ليَصِلوا إلى المسلمين، لكنَّ المسلمين كانوا لهم بالمرصاد، يرمونهم بالنِّبال، فلم يستطع أحد الوصول إليهم، عندها خَيَّم الأحزاب أمام الخندق، ووَضَعُوا متاعهم، ومَكَثُوا ينظرون في حلٍّ جديد. إلى أنْ كان الحلّ فيما رأوا أن يُرْسِلوا خبراً إلى بني قُرَيْظة: وهم يهود المدينة الذين لم يخرجوا إلى القتال، بل بَقَوا في المدينة، فأرسلوا إليهم يحثُّونهم على الانضمام إليهم في قتال المسلمين؛ بُغْيَة إنهاء شوكتهم، والقضاء عليهم. وقد حصل فعلاً ما سألوا؛ إذْ جاء الترحيب من يهود بني قُرَيْظة بالتعاون مع الأحزاب ضدَّ المسلمين، فاشْتَدَّ الأمر على المسلمين أكثر، خصوصاً أنَّ نساءهم وأطفالهم في المدينة حيث يَقْطُن يهود بني قريظة.
استمرّ هذا الحال الصعب على المسلمين، وهم محاصرون في مكانهم، بعيدين عن نسائهم وأطفالهم، مُدَّة زادت عن الشهر، إلى أنْ أرسل الله -تعالى- في تلك الفترة الصعبة من لَدنه رجلاً من اليهود أعلن إسلامه، وهو الصحابي نَُعَيْم بن مسعود -رضي الله عنه-، حيثُ أَتَى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- سِرّاً يُخْبِره بإسلامه، فطلب إليه النبيّ -عليه السلام- أن يعود إلى خِيام المشركين، وينشر بينهم الشائعات، ويَضَع من معنوياتهم مع طول مدة الحصار، وفِعْلاً ذهب نُعيم إلى بني قريظة ، وخَوَّفهم من انسحاب الأحزاب، وأشار إليهم أن يأخذوا رهائن منهم؛ حتى يضمنوا بقاءهم عند وعدهم بالنصرة، ومقاتلة المسلمين، ومن جهة أخرى ذهب إلى اليهود وكفار قريش ، فأشاع بينهم خبر ندم بني قريظة على نصرتهم، وأخبرهم أنَّهم اتفقوا مع النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على أخذ رهائن، وأسرى مقابل أن يغفر عن زلتهم. هكذا حَرَّضّ هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء، فصار كل حليف يُشَكِّك في حليفه؛ بِسَبَبِ حيلة نُعَيم بن مسعود.
انتصار المسلمين في غزوة الخندق
لَعِبَ نُعيم بن مسعود -رضي الله عنه- دوراً بارزاً في قَذْف الشكّ، والريبة، بين الحلفاء، ولا شكّ أنَّ الله -تعالى- قد هَيَّأَ الأسباب لنصرة نبيّه، والمسلمين، فأرسل عليهم ريحاً، وجنوداً، كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)، أمَّا الريح، فاقتلعت خِيامهم، وقَلَبَتْ قُدُورهم، وأثارت الرعب في أنفسهم. وأمَّا الجنود، فَهُم الملائكة أرسلهم الله -تعالى- نُصْرة للمؤمنين ودَحْرًا للكفار، والأحزاب، قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (نُصِرْتُ بالصَّبا)، والصَّبا هي الريح تَضْرِب وجوههم، وقدورهم. وهكذا اجتمع كلٌّ من الخوف، والريْب، وطول المدة على الأحزاب، فعادوا ديارهم دون أن يُحَقِّقوا شيئاً من الأهداف التي خرجوا من أجلها.
أمَّا المسلمون فعادوا بعد تفرُّق الأحزاب إلى بني قريظة مباشرة، وكان ذلك أمرٌ من الله -تعالى- أن يُسَرِّع الحكم فيهم، فحاصرهم المسلمون في ديارهم خمسة وعشرين يوماً؛ حتى طَلَبوا من النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يَحْكُم فيهم سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، فَجِيء بسعدٍ -رضي الله عنه-، وقد كان مصاباً من يوم الأحزاب؛ حتى يَحْكم فيهم، وفِعْلا حَكَمَ فيهم حُكْماً مناسباً لشَنِيع فعلهم؛ إذْ قضى أن يُقَتَّل كل الرجال، وتُسْبى النساء، وتُقْسَم أموالهم، وديارهم بين المسلمين، وهكذا كان، وقد أعْلَم النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- سعداً أنَّ هذا حكم الله -تعالى- فيهم، فقتل الرجال يومئذ، وسُبِيَتْ نساؤهم، وانتهى يهود بني قريظة من المدينة يومئذ.