أبو عبيدة ابن الجراح
أبو عبيدة بن الجراح
هو الصحابي الجليل عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الفهري القرشيّ، ويلتقي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النسب في فهر بن مالك، ومن صفاته الخَلقية أنّه كان طويل القامة، نحيف البنية، حفيف اللحية، معروق الوجه، منحني الكاهل نحو الصدر، أثرم الثنيتين، أما صفاته الخُلقية فقد اشتهر بحسن الخلق ، والتواضع، والحلم، وقد أثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خلقه، حيث قال: (مَا مِنْ أحدٍ منْ أصحابِي إلَّا و لوْ شئتُ لأخذتُ عليهِ في بعضِ خلقِهِ، غيرَ أبي عبيدةَ بنِ الجراحَ).
ورُوي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: (ثلاثةٌ مِن قُرَيشٍ أصبَحُ قريشٍ وجوهًا وأحسَنُها أخلاقًا وأثبَتُها جِنانًا إنْ حدَّثوك لم يَكْذِبوك وإنْ حدَّثْتَهم لم يُكَذِّبوك أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ وأبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ وعثمانُ بنُ عفَّانَ)، وتجدر الإشارة إلى أن أبي عبيدة -رضي الله عنه- كان من السبّاقين إلى الإسلام ، حيث أسلم قبل دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، وشهد مع النبي -عليه الصلاة والسلام- المعارك كلها، وكان بطلاً مغواراً، وفتح الله -تعالى- على يديه الفتوح.
أثر تربية الرسول في أبي عبيدة
كان لتربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثرٌ عظيمٌ في شخصية أبي عبيدة -رضي الله عنه- وأخلاقه، ومن المواقف التي تدلّ على ذلك، موقفه مع عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في غزوة ذات السلاسل، ففي العام الثامن للهجرة أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى أرض عذرة وبليّ فيما يُعرف بغزوة ذات السلاسل، فوجد أن عدد الأعداء يفوق عدد جيشه بكثير، فأرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلب المدد، فاختار -عليه الصلاة والسلام- جماعةً من المهاجرين فيهم أبا بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب، وأمّر عليهم أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم جميعاً، وأرسلهم مدداً لعمرو بن العاص.
ولما وصلوا إليه قال لهم: "أنا أميركم"، فردّ عليه المهاجرون القول بأن أميرهم أبو عبيدة عامر بن الجراح ، وإنه أمير من معه من المقاتلين، فقال: "إنما أنتم مددي"، وعندها تدخّل أبو عبيدة -رضي الله عنه- ليظهر حسن خلقه، وأثر تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه، وقال: "تعلم يا عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي: إن قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك إن عصيتني أطعتك".
فضائل أبي عبيدة بن الجراح
يعدّ أبو عبيدة -رضي الله عنه- من كبار الصحابة، لا سيّما أنه من السبّاقين للإسلام، ومن الذين هاجروا الهجرتين، ومن العشرة المبشّرين في الجنة ، وقد شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معركة بدر، وثبت معه يوم أُحد، وهو الذي انتزع حلقتي المغفر من وجنة النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى سقطت ثنيتاه، وقد ثبت فضله في العديد من الأحاديث الصحيحة، وفيما يأتي بيان بعض فضائله:
- ثناء الله -تعالى- عليه في القرآن الكريم: فقد ذكر أهل العلم أن الله -تعالى- أثنى على أبي عبيدة -رضي الله عنه- في كتابه الحكيم من غير أن يذكر اسمه، وذلك بعد أن التقى بوالده الجراح في معركة أحد ، وكان أبوه كافراً فتصدّى له وقتله، فنزل فيه قول الله تعالى: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ).
- أحب الناس إلى رسول الله: فقد رُوي أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سُئلت في أحد الأيام عن أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "أبو بكر، ثم عمر، ثم أبو عبيدة"، وانتهت إلى ذلك.
- أمين هذه الأمة: على الرغم من اشتراك الصحابة -رضي الله عنهم- جميعاً بصفة الأمانة إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصّ أبا عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- بهذه الفضيلة، لتشعره بقدرٍ زائٍد فيها على غيره، مصداقاً لما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أمِينًا، وإنَّ أمِينَنا أيَّتُها الأُمَّةُ أبو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ)، ولمّا قدم نصارى نجران إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهمّوا بالرجوع إلى بلادهم طلبوا منه أن يبعث معهم رجلاً أميناً، فقال عليه الصلاة السلام: (لَأَبْعَثَنَّ معكُمْ رَجُلًا أمِينًا حَقَّ أمِينٍ)، حتى تمنى كل واحدٍ من الصحابة -رضي الله عنهم- أن يكون هو المبعوث، ثم قال: (قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ) فَلَمَّا قامَ، قالَ النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا أمِينُ هذِه الأُمَّةِ).
وفاة أبو عبيدة بن الجراح
لمّا نزل وباء الطاعون في منطقة عمواس كان أبو عبيدة -رضي الله عنه- أمير الجند في تلك المنطقة، فخشي عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأرسل إليه محاولاً تخليصه منه، وكتب في رسالته: "إذا وصلك خطابي في المساء فقد عزمت عليك ألا تصبح إلا متوجّهاً إلي، وإذا وصلك في الصباح ألا تمسي إلا متوجّهاً إلي، فإن لي حاجة إليك"، و كان أبوعبيدة -رضي الله عنه- ذكيّاً لمّاحاً، ففهم ما يقصده أمير المؤمنين، وأنه يريد إنقاذه من الطاعون، فكتب إليه معتذراً بأدبٍ بالغٍ عن الحضور، وجاء في رسالته: "لقد وصلني خطابك يا أمير المؤمنين وعرفت قصدك، وإنما أنا في جندٍ من المسلمين يصيبني ما أصابهم، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين".
ولما وصلت الرسالة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بكى، فسأله من حوله إن كان أبوعبيدة قد مات، فأجابهم بأنه إن لم يكن قد مات، فإنه سائرٌ إلى الموت لا محالة، فلا خلاص له من الطاعون، وقد كان بصحبة أبي عبيدة ستة وثلاثون ألفاً، لم ينجو منهم إلا ستة آلاف، وتوفّي -رحمه الله- في العام الثامن عشر للهجرة بما يُعرف بطاعون عمواس، وكان عمره حينئذٍ ثمان وخمسين عاماً، فصلّى عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه، ودُفن في بيسان.