ما هو الحداد
تعامل المسلم مع مصيبة الموت
لا يمكن لأحدٍ في الحياة الدنيا أن ينجو من الموت ، فالدوام لا يكون إلّا لله وحده، ولا يكون لسواه إلّا الفناء، ولا شكّ أنّ موت أحبة الإنسان وأقاربه وأصدقائه يُدمي قلبه، ويُضعف نفسه، فلا ينفعه حينها التسخّط على قضاء الله بل يزيده ألماً وذنباً، وإنّما يجدر به أن يتعامل مع مصيبة الموت بالرضا أولاً، ويُراد بالرضا في هذا المقام؛ هو الرضا بقضاء الله تعالى، فإنّما موت الإنسان قضاءٌ قضاه الله -عزّ وجلّ- له، حيث كتبه الله عليه منذ أن كان في بطن أمّه، وبما أنّ الإنسان عبدٌ لله فعليه أن يرضى بكلّ ما يكتبه ويقضيه عليه، خصوصاً حين يعلم أنّ قضاء الله -عزّ وجلّ- على الإنسان لا يكون إلّا خيراً له، حتى وإن كرهه، فالله -تعالى- قال في القرآن الكريم : (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) ثمّ إن الرضى بقضاء الله يزيل الهمّ والغمّ، والكدر من قلب الإنسان، ويطمئن نفسه، وبه يحصل على الأجر، ويُغفر له الوزر، ثمّ إذا رضي الإنسان بقضاء الله بموت من يحبّ فعليه بعدها بالصبر، فيصبر كما صبر الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- من قبله.
فقد فَقَدَ أيوب -عليه السلام- أبناءه فصبر، وفقد يعقوب ابنه يوسف -عليهما السلام- فصبر أيضاً، وصبر محمدٌ -صلّى الله عليه وسلّم- على موت زوجته، وعمّه، وأولاده، وأصحابه، والكثير من المصائب الأخرى حتى نصره الله عزّ وجلّ، فالمسلم الحقّ يتعامل مع مصيبة الموت بالصبر، ويعلم أنّ جزاء صبره عند الله -تعالى- كبيرٌ جداً، حيث قال الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي عن ربه جلّ وعلا: (ما لعبدي المؤمنِ عندي جزاءٌ، إذا قبضتُ صفِيَّه من أهلِ الدُّنيا ثمَّ احتسبه، إلَّا الجنَّةَ)، وهكذا فإنّ المسلم يحتسب هذا الأجر العظيم على مصيبته عند الله تعالى، فتهون عليه حينها، كما أنّه يعلم أنّ سنة الله -تعالى- في هذا الكون الابتلاء ، والذي جعله الله مكفّراً لذنوب الإنسان، ودافعاً له لتحمّل مشاقّ الحياة، كمّا أنّ الأنبياء -عليهم السلام- هم أشدّ الناس بلاءً، إلا أنّهم أحسنوا التعامل مع بلاءاتهم، والمسلم أيضاً يؤمن بقدر الله كلّه، خيره وشرّه، ويعلم ألّا مفرّ منه، فيسلّم له ويرضى به، ويؤمن باليوم الآخر الذي يوفّي الله -تعالى- فيه الصابرين أجورهم، ويجمعهم فيه بأحبابهم.
الحداد
يُقال في اللغة: حدّت المرأة؛ أي لبست ثياب الحزن بعد وفاة زوجها، فالحداد في اللغة: ثياب المأتم، أو اتخاذ إجراءاتٍ لإظهار الحزن على الميت، والحداد في الشرع وفي تعريف الفقهاء: هو امتناع المرأة عن الزينة، وعن كلّ ما في معناها مدّةٍ معينةٍ في أحوالٍ معينةٍ، حيث أجمع العلماء على وجوبه في حقها طيلة فترة عدّتها عن وفاة زوجها الذي جمعها فيه نكاحٌ صحيحٌ، حتى وإن كانت وفاته قبل الدخول فيها، وهكذا فإنّ المرأة المتوفّى عنها زوجها تحدّ عليه أربعة أشهرٍ وعشرة أيامٍ إذا كانت حائلاً؛ أي غير حامل، وتلك مدّة عدّتها كاملةٌ، سواءً أدخل بها أم مات عنها بعد العقد وقبل الدخول، واستدلّ العلماء على ذلك بحديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حين قال: (لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ تحدَّ على ميِّتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلَّا على زوجٍ أربعةَ أشهُرٍ وعشراً)، أمّا إن كانت المرأة حاملاً فإنّها تحدّ على زوجها إلى أن تضع حملها، سواءً أوضعته بعد أيامٍ أو بعد أشهرٍ، فإنّ عدّة الحامل تنتهي بوضع حملها.
وقد أجمع العلماء على عدم وجوب الإحداد على الرجل، فهو خاصٌّ بالمرأة فقط، كما يلزم الإحداد على المرأة المطلقة إذا مات عنها زوجها في الطلاق الرجعي، ولا يجوز للمرأة أن تحدّ على أحدٍ غير زوجها أكثر من ثلاثةٍ أيامٍ، فإذا زادت عن ذلك كان فعلها حراماً، ويكون احتدادها باجتناب أمورٍ معينةٍ كما يأتي:
- لباس الزينة؛ ولها أن تلبس أي لونٍ، وأيّ ملابسٍ عاديةٍ غير الملابس المعدّة للزينة بشكلٍ أساسيٍ.
- التطيّب والتعطّر بجميع أشكاله وأنواعه، إلّا عند طهارتها من الحيض ، فلها أن تطيّب مكان الخبث حتى تُزيل عن نفسها الرائحة.
- كلّ أنواع الحلي؛ فلا ترتدي منها شيئاً لا في رقبتها، ولا في كفيها، ولا في أذنيها، ولا في غير ذلك.
- الخروج من البيت؛ فلا يجوز لها الخروج ليلاً إلّا لضرورةٍ، أو حاجةٍ في النهار.
- عموم التجميل، والتحسين، والتكحيل، ونحوها، فكلّه ممّا لا يجوز للمحتدّة أن تفعله.
الحكمة من مشروعية الحداد
شرع الله -تعالى- الحداد، وأوجبه على المرأة حال وفاة زوجها عنها، وفي ذلك حكمٌ عديدةٌ، منها:
- التعبّد لله -عزّ وجلّ- بامتثال أوامره وتشريعاته، التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم.
- تعظيم عقد الزواج ، وإظهار شرفه، ومكانته، وأهميته.
- الوفاء للزوج، وتعظيم حقّه على المرأة، واحترام المعاشرة التي كانت بينه وبين المرأة.
- مراعاة حقّ أهل الزوج ، واحترام مشاعرهم، وتطييب خاطرهم.
- سدّ ذريعة تطلّع الرجال إلى المرأة المتوفى عنها زوجها، والرغبة في نكاحها.
- إكمال مقتضيات العدّة التي شرعها الله -عزّ وجلّ- على المرأة عند وفاة زوجها، فالحداد أحد مقتضيات العدّة.
- التوافق مع طبائع النفس البشرية، فنفس الإنسان تتألم عند المصائب، وتتفاعل معها، فشرع لها الله -عزّ وجلّ- ما تعبّر من خلاله عن مشاعر الحزن والألم مع الرضا بقضاء الله تعالى، وقدره.