ما أسكر كثيره فقليله حرام
مقاصد الشّريعة
مقاصد الشّريعة هي الغايات التي جاء الإسلام لتحقيقها للنّاس؛ بجلب المنافع لهم، ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة، وتضمّ المقاصد خمسة أمور، هي: حفظ الدّين، وحفظ النّفس ، وحفظ العقل، وحفظ النّسل، وحفظ المال، فكلّ ما يُحفَظ هذه المقاصد يُعدّ مصلحةً للإنسان، ومن الضروريّ الحفاظ عليها، وكلّ ما يخلّ بهذه المصالح يُعدّ مفسدةً يجب الابتعاد عنها، وقد ميّز الله -سبحانه وتعالى- الإنسان عن غيره من المخلوقات بالعقل؛ ليُرشده إلى طريق الخير والرشاد، وكما ذُكِر آنفاً فإنّ من الضروريات الشرعيّة المحافظة على سلامة العقل من المُفسِدات؛ فالعقل مناط التكّليف، حيثُ قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: (رُفِعَ القلَمُ عن ثلاثٍ: عنِ النَّائمِ حتَّى يستيقِظَ، وعنِ الصَّغيرِ حتَّى يكبَرَ، وعنِ المجنونِ حتَّى يعقِلَ ويُفِيقَ)، وعلى ذلك فقد حرّم الإسلام كلّ ما يمسّ العقل بسوءٍ من شراب.
والأصل في حُكم الطعام والشراب الإباحة إلّا ما حرّمه الشّرع، واستثناه، ووصفه بالخبائث، حيث قال الله تعالى: (الَّذينَ يَتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعروفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ)، وقد قال بعض العلماء: إنّ كلّ ما أحلّه الله -تعالى- من المأكل فهو طيّب ونافع في البدن والدّين، وكلّ ما حرّمه فهو خبيث وضارّ في البدن والدّين، ولكن أوردت الشّريعة بعض المشروبات والأطعمة التي ورد النص في حُرمتها، مثل: الخمر، وأكل لحم الخنزير ، حيث قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)، وقال أيضاً: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ).
شراب أسكر كثيره فقليله حرام
قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وعلى ذلك يرى جمهور العلماء أنّ أيّ شراب يُسبّب الإسكار فهو مُحرَّم، دون النّظر إلى كميته، فسواءً أكانت قليلةً أم كبيرةً فهي مُحرَّمة، ولكنّ الحنفيّة نظروا إلى تحقّق السّكْر وعدمه دون النّظر إلى الكميّة؛ فالحُرمة عندهم تتحقّق ببلوغ حدّ الإسكار، وليس بمجرّد الشّرب.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الخمر هو كلّ ما خامر العقل وستره من غير عدٍّ ولا إحصاء؛ لأنّه من أنواع المُسكرات، وتعميم التحريم على مُقتضى الحديث في كلّ مسكر هو الأنسب للعصر، فقد وُجِدت أنواع كثيرة من المُسكرات التي تتّفق في معنى الإسكار الذي هو سبب التحريم، ولكنّ الفقه الحنفيّ ذهب إلى أنّ الخمر هو النّيء من ماء العنب المُشتدّ بعد غليه، وقذفه بالزّبد، واستدلّوا بما جاء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال: (الخمرُ من هاتينِ الشجرتينِ: النّخلةُ، والعنبَةُ).
حُكم المُسكرات
اختلف الفقهاء في حدّ السّكْر المُوجِب للعقوبة؛ فعند أبي حنيفة يكون الحدّ إذا وصل شارب الخمر إلى درجة الهذيان، بحيث لا يفرّق بين الرجل والمرأة، ومن الممكن أن يصل فيه الحدّ بأن يفقد وعيه، فإذا كان الرجل في حال وعي نسبيّ؛ بحيث يميّز بعض الأشياء فلا يكون قد وصل إلى حدّ السّكْر، وذلك لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، وأمّا جمهور الفقهاء فيقتصر السّكْر عندهم بعدم وعي شارب الخمر بما يقول.
إباحة المُسكرات للضرورة
أباح الإسلام للمُكلَّف شرب المُسكرات في بعض الحالات، منها: في حال العطش الشديد الذي يؤدّي إلى الهلاك، أو في حال الإكراه، أو في حال المرض، فلا يُقام حدّ شرب الخمر في هذه الحالات؛ لحاجة النّاس إلى ذلك، ولحفظ النّفوس من الهلاك، فهذه المصلحة أولى من مصلحة اجتناب المُحرَّمات، حيثُ يستعمله الأطباء أحيانأ في التخدير، ودليل ذلك قول الله تعالى: (وَقَد فَصَّلَ لَكُم ما حَرَّمَ عَلَيكُم إِلّا مَا اضطُرِرتُم إِلَيهِ)، ويُعدّ الإكراه أيضاً من الحالات التي لا يُحاسَب عليها شارب الخمر؛ فقد جاء عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (رُفِعَ عنْ أمّتِي الخطأُ، والنّسيانُ، وما استكرِهوا عليهِ).
الخمر
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (والخمرُ ما خامرَ العقلَ)؛ أي غطّاه، فالخمر يؤدّي إلى فساد التصرّفات وسوئها، وخروج الأفعال عن المعروف والمألوف، كما يعدّ من أكثر المُسبّبات التي تُلحِق الضرر بالمقاصد الخمس التي جاء الإسلام للحفاظ عليها، وجاء أيضاً: (كلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ، وَكُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ)، وقال ابن تيمية : (إنّ الخمر التي حرّمها الله ورسوله من أيّ أصل كانت، سواءً من الثمار؛ كالعنب ، والرّطب، والتين، أو من الحبوب؛ كالحِنطة، والشّعير ، أو الطلول، كالعسل، أو الحيوان؛ كلبن الخيل، فلمّا أنزل الله -سبحانه وتعالى- على نبيّه تحريم الخمر لم يكن في المدينة من خمر العنب شيء؛ بسبب عدم وجود شجر العنب أصلاً، وإنّما كانت تُجلَب من الشّام، وكان عامّة شرابهم من نبيذ التمر).
عِلّة تحريم الخمر
حُرِّمت الخمر لذاتها، وليس لأنّها مُسكرة ، فلو شُرِب منها شيء يسير عُدّ ذلك مُحرّماً؛ وذلك لأنّ كلّ مُسكر خمر، وكلّ الخمر حرام، والخمر الذي يُسكر كثيره فالقليل منه حرام، وعلى ذلك اختلف الفقهاء في علّة تحريم الخمر إلى قولين، الأوّل: إنّ الخمر مُحرَّمة لذاتها، فبمجرّد تحقّق مسمّى الخمر، يُعدّ الشّراب خمراً، وعلى الشّارب منه إثم، فذلك أكثر انضباطاً وتحقيقاً لمقاصد الشّريعة الإسلاميّة، أمّا القول الثاني، فهو: إنّ العلّة في التحريم هي الإسكار؛ أي ليس بمجرّد شرب الخمر يلحق الإثم ، وإنّما بالوصول إلى حدّ الإسكار.