أبو البقاء الرندي
أبو البقاء الرندي
كان الشعر في العصر الأندلسي أهمّ نوع من أنواع الأدب، ولذلك فقد شاع بين الناس في الأندلس بشكل كبير، وقد شجعت طبيعة الأندلس الجميلة الشعراء على نَظْم الشعر، وخصوصاً في الحنين إلى المشرق، فقد نظموا الكثير من القصائد في الغزل، والهجاء ، والمدح، والرثاء، كما أنّ الشعراء في الأندلس قد ابتكروا شكلاً جديداً للقصيدة؛ واعتبر هذا الشكل مغايراً لشكل القصيدة التقليدية، وقد عُرف باسم الموشحات الشعرية، ومن أبرز شعراء الأندلس الذين أبدعوا في رثاء المدن، هو أبو البقاء الرندي صاحب المرثية الشهيرة، والذي لقبه المؤرخون بشاعر رثاء الأندلس.
نسب أبي البقاء الرندي وحياته
أبو البقاء الرندي هو صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن على بن شريف النِّفري الرُّندي، وقد وُلد في عام 651 للهجرة، في مدينة رُنْدَة الواقعة في جنوب الأندلس وقد نُسب إليها، وقد اختُلف في كنيته التي كان يكنّى بها، فقد ذُكر أنّه كان يُكنّى بأبي البقاء، إلا أنّ الأرجح أنّه كان يُكنّى بأبي الطيب، وقد كان الرنديّ من أهل العلم، كما كان شاعراً، وفقيهاً ، وحافظاً، كما أنّه تولى أمور القضاء في بلده، واشتهر ببراعته اللغوية؛ حيث كان ينظم في النثر والشعر، فبرع في الوصف، إلا أنّ أكثر ما اشتهر به أبو البقاء هو المراثي الحزينة ذات الطابع الملحمي.
مؤلفات أبي البقاء الرندي
كانت لأبي البقاء الرندي مشاركات قليلة في القضاء، والفرائض، والتأليف، فقد ألّف كتاب "جزءاً على حديث جبريل"، وكان له كتاب في الشعر سماه "الوافي في علم القوافي"، وله كتاب كبير سماه "روضة الأندلس ونزهة النفس"، بالإضافة إلى تصنيفٍ في العروض، وآخر في الفرائض.
وقد امتاز شِعر أبي البقاء بجزالة ألفاظه، ووضوحها، ورقّة معانيها، فقد كانت له قصائد بديعة في أغراض شعرية متنوعة، فوصف النفس البشرية وما يصدر عنها من سوءٍ وخير، ووصف الطبيعة من جبالٍ وبحارٍ وأنهار، وكانت له قصائد متعددة ومتنوعة، ومنها:
- قصائد في مدح أبطال المسلمين وذلّ الكفار، كقوله:
وكتيبة بالدَّارعين كثيفة
- جرَّت ذيول الجحفل الجرار
روضُ المنايا بينها القُضُب التي
- زُفَّت بها الرَّايات كالأَزهار
فيها الكُماة بنو الكُماة كأَنهم
- أُسد الشَّرى بين القنا الخَطّار
مُتهلِّلين لدى اللِّقاء كأَنهم
- خُلِقت وجوههم من الأَقمار
من كلِّ ليثٍ فوق برقٍ
- خاطف بيمينه قدر من الأَقدار
من كلِّ ماضٍ قد تقلَّد مثله
- فيصُيبَّ آجالاً على الأَعمار
- قوله في الصحبة المزيّفة التي تتلاشى عند الحاجة:
ليس الأُخوةٍ باللسان أُخُوَّة
- فإذا تُراد أخوَّتي لا تنفعُ
لا أنت في الدنيا تُفرج كربة
- عنِّي ولا يوم القيامة تشفعُ
- قوله في وصف البحار والأنهار:
البحر أعظم ممّا أنت تَحسِبه
- مَن لم يرَ البحر يوماً ما رأى عجبا
طام له حَبَبٌ طاف على زورقٍ
- مثل السماءِ إذا ما ملئت شُهُبا
- قوله في وصف الريحان:
وأخْضر فستقي اللونِ غضٌّ
- يروقُ بحسنِ منظره العُيونا
أغارُ على الترنجِ وقد حكاه
- وَزادَ على اسمهِ ألفاً ونونا
مرثية أبي البقاء الرندي
إنَّ الرثاء غرض شعري قديم، وقد انتقل إلى بلاد الأندلس، فعمل شعراؤها على تطوير مفهومه والتوسع به، حتى ظهر بالشكل الذي نعرفه، فلم يتوقف عند رثاء الأحباب، والأقارب، والملوك، بل توسع ليشمل رثاء المدن والدول، فعند سقوط المدن الإسلامية في يد النصارى، وتعرض المسلمين للطردٍ والتشريد، أدرك شعراء الأندلس هول المصيبة وأخذوا ينظمون القصائد التي تستنهض عزائم الملوك لأخذ الثأر، وبعد أن فشل الملوك في الحفاظ على مدنهم، بدأ الشعراء برثاء مدنهم وممالكهم ودولتهم التي غُلبوا فيها، حتى صار رثاء المدن والمماليك فناً شعرياً قائماً بذاته في الأدب الأندلسيّ.
نظم أبو البقاء الرندي قصيدة رثاء الأندلس، التي تعتبر من أشهر المراثي على الإطلاق، وهي ليست مجرد مرثية لمدينة معينة كقصائد غيره من الشعراء، بل كانت لوحة عظيمة تتغنى بالأندلس كلها، فكتب قصيدته ليستنصر أهل العدوة من المرينيين، عندما بدأ ابن الأحمر في التنازل عن عدد من القلاع والمدن لصالح ألفونش من أجل إرضائه، وقد عُرفت القصيدة أيضاً بنونية أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس، والتي يبدؤها بقوله:
لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصان
- فَـلا يُـغَرَّ بِـطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَل
- مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمانُ
وَهذهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحدٍ
- ولا يَدومُ عَلى حالٍ لهـا شــانُ
تُمزق الدهر حتماً كل سابغةٍ
- إذا نبت مشرفيـّاتٌ وخُرصـانُ
وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ
- كان ابن ذي يزَن والغمدَ غمدانُ
أين الملوك ذوي التيجانِ من يمنٍ
- وأين منهم أكليــلٌ وتيجانُ؟
وأين ما شادهُ شدادُ في إرمٍ
- وأين ما ساسهُ في الفُـرسِ ساسانُ؟
وأين ما حازه قارُونُ من ذهبٍ
- وأين عادٌ وشـدادٌ وقحطـانُ؟
والناظر في القصيدة يجد ما تحمله من دلالاتٍ عميقةٍ وألفاظٍ سهلةٍ، دون تكلّف أو اصطناع، فقد كان يقصد من ذلك أن تصل قصيدته إلى كل إنسان يرفض الذل والهوان، وقلبه معلق بوطنه، يرفض نسيانه أو استبداله حتى لو أُجبر على مغادرته، فيقول:
وماشياً مرحاً يلهيه موطنهُ
- أبعد حمصٍ تَغرّ المرءَ أوطانُ
وفاة أبي البقاء الرندي
توفي الشاعر أبو البقاء الرندي في عام 684 هـ، وأوصى أن يُكتب على قبره هذان البيتان:
خليليَّ بالودِّ الذي بيننا اجعلا
- إذا متُّ قبري عرضةً للترحُّمِ
عَسى مسلمٌ يدنو فيدعو برحمةٍ
- فإنِّي محتاجٌ لدعوةِ مُسلمِ