عوامل ازدهار الشعر في العصر العباسي الأول
عوامل ازدهار الشعر في العصر العباسي الأول
صبغت الثقافات المترجمة الحياة العقلية والاجتماعية للعصر العباسي ، وكانت قد طغت على الكثير من نواحي الحياة والتفكير حينها،والشعر خاصة كان قد بدأ له عهد جديد تحديدا في القرن الثاني، وقد تأثر بشكل واضح في مختلف نواحيه على أيد الشعراء المخضرمين الذين عاصروا الدولتين الأموية والعباسية، كما ظهر الأثر من بعدهم على أيد الشعراء المولدين، إذ تأثروا بالحياة الاجتماعية والفكرية التي سادت في العصر العباسي.
لعبت عدة عوامل في تطور الشعر وازدهاره في العصر العباسي الأول منها ما يأتي:
قوة الملكة اللغوية للشعراء
كانت البادية مصدرًا للشعراء ذوي السليقة العربية السليمة؛ إذ تفتحت قرائحهم على الشعر الجاهلي والإسلامي الذي امتاز بقوته اللغوية وفصاحته وبلاغته، وقد تحولت هذه السليقة إلى شعراء المدن، حتى أصبحوا لا يقلون عن شعراء البادية فصاحة وبيانًا.
وقد تمسك العباسيون بالشعر القديم وأخذوا يسيرون على نهج الشعراء القدماء بوصفهم الأبلغ والأفصح، إلا أن هذا التمسك لم يمنع الإبداع الكامن فيهم بأن يطل في أشعارهم، فكانت قصائدهم مزيجًا من الأصالة الشعرية، والإبداع الذاتي الكامن فيهم.
رقي الحياة العقلية في هذا العصر
كان هذا الرقي بسبب الكتب التي ترجمت عن الثقافات الأخرى، الهندية والفارسية واليونانية، وقد كان للثقافة اليونانية التأثير الأكبر في الشعر والشعراء، إذ فتحت أمامهم أبواب الفلسفة والمنطق، مما دفع كثيرا من الشعراء لاستكشاف المعاني واستخراج تفاصيلها، وزيادة محصولهم من تلك الثقافة.
وقد أتاحت المحاورات والمناظرات بين الشعراء المختلفين إلى سعي الشاعر إلى صقل عقله، والوصول لأقصى درجات العلم والمعرفة، فسعى إلى ما لم يعرفه يسأل عنه العلماء، وليس ذلك وحسب بل عمد إلى التماس ألوان المعرفة في الكتب المترجمة، فقد كان يجد في ذلك لذة عقلية، وتحويل هذه الألوان إلى عمل شعري بديع.
التجديد في الموضوعات القديمة
أبقى الشعراء العباسيون للشعر العربي شخصيته الموروثة، فنظموا في الموضوعات القديمة من المديح وغيرها، ولكن روح العصر لا بد أن تترك أثرا في نتاجهم الشعري، فرأوا أن ينظموا بأسلوب عصري جديد يمنح قصائدهم التميز والتفوق، وأخذوا يدعمونها بموضوعات جديدة تناسب حياتهم العقلية، وأذواقهم المرهفة.
وقد كان هذا التجديد لا يقوم على الفصل بين صورة الموضوعات القديمة وصورتها الجديدة، إنما كان يقوم على التواصل الوثيق بين كلتا الصورتين، ففي شعر المديح مثلاً ساروا على نهج القدماء إلا أنهم بنوا صورهم من البيئة الحضرية، واستخدموا ألفاظًا أكثر مرونة من الألفاظ المستخدمة في الشعر القديم، وقد كانت المدائح القديمة تشتمل على مقدمات طللية تصف الأطلال المهجورة إلا أن بعض الشعراء عمدوا إلى تركها إلى وصف قصور مأنوسة.
الإتيان بموضوعات جديدة
لم يكتف الشعراء العباسيون بالموضوعات القديمة من الشعر القديم، وعمدوا إلى اشتقاق موضوعات جديدة، فأخذ الشعراء بتنمية الموضوعات القديمة لتخرج منه فروعًا جديدة وكثيرة، وقد ساعده على هذا الابتكار حياته العقلية الراقية وبيئته الحضارية.
ومن ذلك ما اندرج تحت الموضوعات الأساسية للشعر القديم، كوصف عمليات الصيد التي كان يقوم بها الخلفاء التي اندرجت تحت شعر المديح ، ومنها موضوعات استحدثها العباسيون، ونظمت في قصائد مستقلة وعرفت بها، مثل الخمريات التي كانت في وصف الخمر وشربها واستحسانها، وقد اشتهر بها أبو نواس وغيرها من الموضوعات.
التجديد في القوافي والأوزان
تأثر العصر العباسي بموجة الغناء التي سادت في العصر الأموي ، مما أدى إلى ملائمة الموسيقى العروضية مع الغناء، فمضى العباسيون ينظمون في الأوزان الخفيفة والمجزوءة، وقد اكتشفوا أوزانًا جديدة مثل المضارع والمقتضب وغيرهما.
وقد أخذ الشعراء العباسيون ينظمون القصائد الغنائية تلبية لحاجات العصر، مما أدى إلى إحداث تغيير على المستوى الإيقاعي للقصيدة المتمثل بالوزن و القافية ، وقد عمد فريق من الشعراء العباسيين إلى الثورة على التقاليد الشعرية الموروثة فاتجهوا إلى تبديلها فأخذوا ينوعون ويجددون في القوافي والأوزان لتتوافق مع الغاية الغنائية التي سادت آنذاك.