شعراء الهجاء في العصر العباسي الثاني
شعراء الهجاء في العصر العباسي الثاني
صار الهجاء في العصر العباسي الثاني هجاءً مختلفًا عمّا كان عليه الحال في العصور السابقة، فقد صار هجاء عقيدة يعتمد على الفكر ويتأثّر بالتيارات الحضاريّة الأخرى فيطوّعها لتكون ضمن أبيات شعرية، كما صار أغلب الهجاء يتألّف من بيتين أو أكثر بقليل؛ رغبةً في انتشارها وذيوعها، بالإضافة إلى ميل الشعراء إلى المعاني الشعبية عند الهجاء ليصل الشعر إلى أكبر طبقة ممكنة من الناس، وكان الهجاء غالبا ما يُوجّه لأشخاص بعينهم لغضب الشاعر منهم، أو رغبة من الشاعر في السخرية منهم أو التسلية أحياناً ونحو ذلك، ومن أبرز شعراء الهجاء في العصر العباسي الثاني:
البحتري
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي، وقيل إنّه أحد أشعر ثلاثة في عصره مع المتنبي وأبي تمام، وقد ولد في منبج قرب حلب، وكان يُقال عن شعره: "سلاسل الذهب"، سئل مرة عنه المعري فقال: "أي الثلاثة أشعر؟ فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري"، كتبت عنه كتب ورسائل كثيرة منذ القِدَم، مات سنة 284هـ.
- من أشعاره في الهجاء قوله يهجو حياة البادية:
إِذا اِفتَرَقوا عَن وَقعَةٍ جَمَعَتهُمُ
- لِأُخرى دِماءٌ ما يُطَلُّ نَجيعُها
تَذُمُّ الفَتاةُ الرودُ شيمَةَ بَعلِها
- إِذا باتَ دونَ الثَأرِ وَهوَ ضَجيعُها
حَمِيَّةُ شَغبٍ جاهِلِيٍّ وَعِزَّةٍ
- كُلَيبِيَّةٍ أَعيا الرِجالَ خُضوعُها
وَفُرسانُ هَيجاءِ تَجيشُ صُدورُها
- بِأَحقادِها حَتّى تَضيقَ دُروعُها
تُقَتِّلُ مِن وِترٍ أَعَزَّ نُفوسِها
- عَلَيها بِأَيدٍ ماتَكادُ تُطيعُها
إِذا اِحتَرَبَت يَوماً فَفاضَت دِماؤُها
- تَذَكَّرَتِ القُربى فَفاضَت دُموعُها
شَواجِرُ أَرماحٍ تُقَطِّعُ بَينَهُم
- شَواجِرَ أَرحامٍ مَلومٍ قُطوعُها
- وقوله يهجو الخثعمي الشاعر:
الآن عَلِمتُ أَنَّ البَعثَ حَقٌّ
- وَأَنَّ اللَهَ يَفعَلُ ما يَشاءُ
رَأَيتُ الخَثعَمِيَّ يُقِلُّ أَنفاً
- يَضيقُ بِعَرضِهِ البَلَدُ الفَضاءُ
سَما صَعُداً فَقَصَّرَ كُلُّ سامٍ
- لِهَيبَتِهِ وَغَصَّ بِهِ الهَواءُ
هُوَ الجَبَلُ الَّذي لَولا ذُراهُ
- إِذاً وَقَعَت عَلى الأَرضِ السَماءُ
- وقوله يهجو أبا خالد بن علي الطائي:
دُفِعنا وَبُردُ الشَمسِ أَصفَرُ فاقِعٌ
- إِلى جِذمِ بابٍ ما يُبَجَّلُ حاجِبُه
وَما كانَ مُرٌّ بِالجَوادِ فَيُبتَغى
- قِراهُ وَلا بِالغَمرِ تُرجى مَواهِبُه
تَكَرَّهَ لِلتَسليمِ حَتّى حَسِبتُهُ
- يَلوكُ اِسمَهُ مِن حَنظَلٍ هُوَ هائِبُه
وَرامَ اِعتِذاراً ثُمَّ غَصَّ بِريقِهِ
- وَظَنَّ كَنِيُّ الكَلبِ أَنّى أُكالِبُه
فَأَدرَجتُهُ صَفحاً وَكُنتُ إِذا أَتى
- لَئيمُ أُناسٍ سَوءَةً لا أُعاتِبُه
إِذا الجَبَلُ الطائِيُّ ذَلَّت سَراتُهُ
- وَلانَت لِطُرّاقِ العَدُوِّ جَوانِبُه
تَناهَبُهُ أَودٌ وَهَمدانُ بَعدَما
- أَراهُ وَأَهلُ المَشرِقَينِ مَناهِبُه
وَما ذاكَ إِلّا أَنَّ فُرسانَهُ اِلتَقَوا
- عَلى مُنصَلٍ تُكدى عَلَيهِم مَضارِبُه
يَحُفّونَ مَحفوفَ القِصاصِ تَغولُهُ
- مَآكِلُهُ عَن أَكلِهِم وَمُشارِبُه
إِذا اِنقَطَعَ البَمُّ اِستُخِفَّ وَإِن يُقَل
- أُغيرَ عَلى السَرحِ اِطمَأَنَّت جَوانِبُه
أَخو نَشَواتٍ تَنجَلي نَومَهُ الضُحى
- يَدَ الدَهرِ عَنهُ وَهوَ سودٌ تَرائِبُه
لَهُ شُغُلٌ في جانِبَيهِ كِلَيهِما
- إِذا اعتادَهُ أَحبابُهُ وَحَبائِبُه
مَطِيَّةُ أَعيارٍ كَأَنَّ لِغَيرِهِ
- إِذا حَمَلَ الفَحلَ الثَقيلَ مَناكِبُه
أَبا خالِدٍ لا يَجزِكَ اللَهُ صالِحاً
- فَما كُنتَ إِلّا التَيسَ أَخفَقَ حالِبُه
ابن الرومي
هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج -أو جورجيس- الرومي، شاعر عباسي كبير من طبقة المتنبي و بشار بن برد ، كان مشهورًا بشعر الهجاء الذي كان سببًا بموته مسمومًا على يد وزير المعتضد لأنّه كان قد هجا ذلك الوزير، و ابن الرومي ولد ونشأ ومات في بغداد، وقيل فيه إنّه لم يمدح أحدًا إلّا عاد وهجاه مرة أخرى ولذلك لم يكن أحد من أهل الجاه يرغب بأن يمدحه، وربما هذا أهمّ سبب في عدم ذيوع شعره مثل باقي شعراء عصره.
- من أشعاره في الهجاء قصيدة يهجو فيها رجلًا اسمه عمرو:
يا سيداً لم تزلْ فُروعٌ
- من رأيه تحتها أصولُ
أمثلُ عمروٍ يَسُومُ مثلي
- خسفاً وأيامُه تطولُ
أمثلُ عمروٍ يُهين مثلي
- عمداً ولا تُنتَضَى النُّصولُ
ألا يرى منك لي امتعاضاً
- كالسيف فيه الردى يجولُ
يا عمرو سالتْ بك السيولُ
- لأمّك الويل والهبولُ
وجهك يا عمرو فيه طولُ
- وفي وجوه الكلاب طولُ
فأين منك الحياءُ قل لي
- يا كلبُ والكلب لا يقولُ
والكلبُ من شأنه التعدّي
- والكلبُ من شأنه الغلولُ
مقابح الكلب فيك طرّاً
- يزولُ عنها ولا تزولُ
- وقوله يهجو البحتري الشاعر :
ما أنسَ لا أنْسَ هنداً آخرَ الحِقَبِ
- على اختلاف صُروفِ الدهر والعُقُبِ
يومَ انتحتْنا بسهميها مُسَالمةً
- تأتي جُدَيْدَاتُها من أوجه اللعبِ
تُدْوي الرجالَ وتشفيهم بمُبتسمِ
- كابن الغمامِ وريقٍ كابنة العنبِ
عَيْنَاءُ في وَطَفٍ قَنْوَاءُ في ذَلفٍ
- لفَّاءُ في هيفٍ عجزاءُ في قَببِ
جاءت تَدَافَعُ في وشي لها حَسَنٍ
- تدافُعَ الماء في وشيٍ من الحببِ
ليستْ من البحتُرياتِ القصارِ بُنىً
- والشَّاربات مع الرُّعيان بالعُلبِ
ولم تلد كوليدِ اللؤم فالِقَةً
- عن رَأْس شَرِّ وليدٍ شرَّ ما رُكَبِ
قد قلتُ إذ نحلوهُ الشعرَ حَاشَ له
- إنَّ البُرُوكَ به أولى من الخبَبِ
البُحْتُريُّ ذَنُوبُ الوجهِ نعرفُهُ
- وما رأينا ذَنُوبَ الوجه ذا أدبِ
أَنَّى يقولُ من الأقوال أَثْقَبَهَا
- من راح يحملُ وجهاً سابغَ الذَنَبِ
أوْلى بِمَنْ عظمتْ في الناس لحيتُهُ
- من نِحلة الشعر أن يُدْعَى أبا العجبِ
ابن المعتز
هو عبد الله بن محمد المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي، شاعر عباسي وخليفة حكَمَ يومًا وليلة، وهو من شعراء العصر العباسي الذين قد أبدعوا شعرًا وتأليفًا، كان شاعرًا ولم يكن يهتم بالحكم، ولكن لمّا صار المقتدر خليفة خلعه قادة الجيش لأنّهم استصغروه، ونصّبوا بدلًا عنها ابن المعتز و سمّوه "المرتضى بالله"، غير أنّ حكمه لم يدم سوى يوم وليلة، فوثب عليه غلمان المقتدر وخلعوه وأعادوا المقتدر الذي سلّم ابن المعتز لخادمه مؤنس فقتله خنقًا.
- من هجائه قوله في الأصدقاء المتقلبين الأوجه:
وَصاحِبِ سوءٍ وَجهُهُ لِيَ أَوجُهٌ
- وَفي فَمِهِ طَبلٌ لِسِرِّيَ يَضرِبُ
إِذا ما قَلى الإِخوانَ كانَ مَرارَةً
- يُعَرِّضُ في حَلقي مِراراً وَيَنشَبُ
وَلا بُدَّ لي مِنهُ فَحيناً يَعَضُّني
- وَيَنساغُ لي حيناً وَوَجهي مُقَطَّبُ
كَماءِ طَريقِ الحَجِّ في كُلِّ مَنهَلٍ
- يُذَمُّ عَلى ما كانَ مِنهُ وَيُشرَبُ
- وقوله يهجو إمامًا سريعًا في الصلاة:
لَنا إِمامٌ ثَقيلٌ
- خَفيفُ روحِ الصَلاةِ
يَظَلُّ يَركُضُ فيها
- نَقراً بِغَيرِ قَراةِ
كَراكِبٍ وَتَراهُ
- مُستَعجِلاً بِبُزاةِ