شعراء الزهد في العصر الأموي والعباسي
شعراء الزهد في العصر الأموي والعباسي
تأثرت البيئة العربية بتعاليم الإسلام التي تدعو للزهد والعزوف عن الدنيا، وزاد هذا التأثر بظهور موجة اللهو والمجون مع نهايات العصر الأموي ، فجاء شعر الزهد كرد فعل على هذه الموجة التي استغرقت في متاع الدنيا ولذاتها، كما أنّ انصراف الأتقياء عن الخوض في الفتن التي حصلت بين المسلمين وعزوفهم عن أمور الدنيا وجلوسهم لمجالس الوعظ، جميع هذه الأسباب ساهمت في ظهور شعراء الزهد منذ العصر الأموي.
ومن أبرز شعراء الزهد في العصر الأموي والعباسي في الآتي:
أبو الأسود الدؤلي
هو ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان، من كنانة، وهو من التابعين والشعراء والمحدثين والنحاة، ولي قضاء البصرة في ولاية ابن عباس لعهد علي ابن أبي طالب -رضي الله عنهم-، وشهد مع علي -رضي الله عنه- موقعة صفين، ومات في البصرة وقد كبر بالعمر سنة تسعةٍ وتسعين للهجرة، بوباء الطاعون.
له أشعار في المدح والهجاء وكثير من الزهديات ومنها قوله مذكراً أنّ قضاء الحوائج بيد الله تعالى، وأن جميع العباد تحت أمره:
وَإِذا طَلَبتَ مِنَ الحَوائِجِ حاجَةً
- فادعُ الإِلَهَ وَأَحسِنِ الأَعمالا
فَليُعطيَنَّكَ ما أَرادَ بِقُدرَةٍ
- فَهوَ اللَطيفُ لِما أَرادَ فِعالا
إِنَّ العِبادَ وَشَأنَهُم وَأُمورَهُم
- بِيَدِ الإِلَهِ يُقَلِّبُ الأَحوالا
فَدَعِ العِبادَ وَلا تَكُن بِطلابِهم
- لَهِجاً تَضَعضَعُ لِلعبادِ سُؤالا
وزهدياته ليست دعوةً للخمول والتواكل بل هي زهدياتٌ صادقة ولم يشبها ما دخل على الزهديات من تصوف الديانات الشرقية كالمانوية والبوذية والفارسية وفي دعوته للسعي يقول وينسب لعلي بن أبي طالب:
وَما طَلَبُ المَعيشَةِ بِالتَمَنّي
- وَلَكِن أَلقِ دَلوَكَ في الدِلاءِ
تَجِئكَ بِمَلئِها طَوراً وَطَوراً
- تَجِئكَ بِحَمأَةٍ وَقَليلِ ماءِ
وَلا تَقعُد عَلى كَسَلِ التَمَنّي
- تُحيلُ عَلى المَقادِرِ وَالقَضاءِ
فَإِنَّ مقادِرَ الرَحمَنِ تَجري
- بِأَرزاقِ الرِجالِ مِنَ السَماءِ
مُقَدَّرَةً بِقَبضٍ أَو بِبَسطٍ
- وَعَجزُ المَرءِ أَسبابُ البَلاءِ
وَبَعضُ الرِزقِ في دعَةٍ وَخَفضٍ
- وَبَعضُ الرِزقَ يُكسَبُ بِالعَناءِ
وهو يدعو إلى جمع العلم عوضا عن جمع المال؛ لأن العلم باقٍ يفيد صاحبه بينما المال ذاهبٍ حيث يقول:
العِلمُ كَنزٌ وَذُخرٌ لا نَفادَ لَهُ
- نِعمَ القَرينُ إِذا ما صاحَبَ صُحبا
قَد يَجمَعُ المَرءُ مالاً ثُمَّ يُسلَبُهُ
- عَمّا قَليلٍ فَيَلقى الذُلَّ وَالحَرَبا
وَجامِعُ العِلمِ مَغبوطٌ بِهِ أَبَداً
- وَلا يُحاذِر مِنهُ الفَوتَ وَالسَلبا
يا جامِعَ العِلمِ نِعمَ الذخرُ تَجمَعُهُ
- لا تَعدِلَنَّ بِهِ دُرّاً وَلا ذَهَبا
سابق البربري
من شعراء الزهد والوعاظ في عصر بني أمية كان قاضياً على الرقة بالموصل يفد على عمر بن عبد العزيز يعظه، وشعره في التقوى و الورع والدعوة للتقشف والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، يثور بالأغنياء الذين يجمعون المال فيقول:
فحتى متى تلهو بمنزل باطل
- كأنك فيه ثابت الأصل قاطن
وتجمع ما لا تأكل الدهر دائبا
- كأنك في الدنيا لغيرك خازن
ويزهد في المال حيث إنّ من يجمعها لتكون لورثته والسلامة في الدنيا تكون في الزهد عنها فيقول:
النفسُ تَكلَفُ بالدنيا وقد عَلِمَت
- أن السَّلامةَ منها تَركُ ما فيهَا
واللَّهِ ما قَنَعَت نَفسِي بما رُزِقَت
- من المَعيشَة إلا سوفَ يكفيها
أموالُنا لِذَوي المِيراثِ نَجمَعُها
- ودُورُنا لِخَرَابِ الدَّهرِ نَبنيها
قِس بالتجاربِ أحدَاثَ الزَّمَانِ كما
- تَقِيسُ نَعلا بِنَعلٍ حين تَحذُوها
واللَّهِ ما غَبَرت في الأرضِ ناظِرةٌ
- إلا ومرُّ الليالي سَوف يَفنِيها
وشعر سابق جميعه في الزهد وكان كثيراً يدل على ذلك قول الجاحظ أنّ شعر سابق كان كثيراً، ولكن لما كان شعره في الحكم والزهديات فقط ولهذا لم تسر في الآفاق؛ لأنّ نفس السامع إذا لم تخرج من موضوعٍ إلى موضوعٍ مل منها السامع.
أبو العتاهية
من شعراء الزهد في العصر العباسي وزهده قد شابه شيءٌ من الديانات الشرقية، وهو إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان ولد بالقرب من الأنبار سنة 130هـ، انتقل والده به من الكوفة.
كما اطلع على الحلقات الكلامية وصاحب من اتهموا بالزندقة كإياس بن مطيع، وقد قال الشعر صغيراً ومدح الخلفاء وتقرب إليهم، وقد هوى جاريةً للمهدي وتعلّق بها وكانت تزدريه حتى قال عنه المهدي إنك إنسانٌ معته، فلقب بأبي العتاهية وبقي على حال مجونه حتى سنة 180هـ فتنقلب حياته ويتحول إلى حياة التقشف والزهد ولبس الصوف.
وقد راح يكثر من شعر الزهد والدعوة للتقشف وذكر الموت والعمل للآخرة، ولكن زهده وتقشفه يرى بعض النقاد أنه اختلط فيه شيءٌ من زهد المانوية وهي ديانةٌ شرقية ثنوية.
ومن شعره الذي اختلط فيه الزهد مع المانوية مع كلام المتكلمين قوله:
لِكُلِّ شَيءٍ مَعدَنٌ وَجَوهَرُ
- وَأَوسَطٌ وَأَصغَرٌ وَأَكبَرُ
وَكُلُّ شَيءٍ لاحِقٌ بِجَوهَرِه
- أَصغَرُهُ مُتَّصِلٌ بِأَكبَرِه
مَن لَكَ بِالمَحضِ وَكُلٌّ مُمتَزِج
- وَساوِسٍ في الصَدرِ مِنكَ تَعتَلِج
مَن لَكَ بَالمَحضِ وَلَيسَ مَحضُ
- يَخبُثُ بَعضٌ وَيَطيبُ بَعضُ
لِكُلِّ إِنسانٍ طَبيعَتانِ
- خَيرٌ وَشَرٌّ وَهُما ضِدّانِ
ومن زهدياته:
تَبارَكَ رَبٌّ لايَزالُ وَلَم يَزَل
- عَظيمَ العَطايا رازِقاً دائِمَ السَيبِ
لَهِجتُ بِدارِ المَوتِ مُستَحسِناً لَها
- وَحَسبي لِدارِ المَوتِ بِالمَوتِ مِن عَيبِ
لِيَخلُ امرُؤٌ دونَ الثِقاتِ بِنَفسِهِ
- فَما كُلُّ مَوثوقٍ بِهِ ناصِحُ الجَيبِ
لَعَمرُكَ ما عَينٌ مِنَ المَوتِ في عَمىً
- وَما عَقلُ ذي عَقلٍ مِنَ البَعثِ في رَيبِ
وَما زالَتِ الدُنيا تُري الناسَ ظاهِراً
- لَها شاهِدٌ مِنهُ يَدُلُّ عَلى غَيبِ