شعر الحكمة في العصر العباسي الثاني
شعر الحكمة في العصر العباسي الثاني
يُعدّ شعر الحكمة إحدى العلامات الفارقة المميزة للشعر العربي في العصر العباسي، وقد نما هذا اللون من الشعر وأخذ شكله الخاص خلال مدة الخلافة العباسية، وفيما يأتي نماذج من هذا الشعر من عدد من الشعراء الأعلام:
قصيدة لا افتخار إلا لمن لا يضام للمتنبي
يقول المتنبي :
لا اِفتِخارٌ إِلّا لِمَن لا يُضامُ
- مُدرِكٍ أَو مُحارِبٍ لا يَنامُ
لَيسَ عَزماً ما مَرَّضَ المَرءُ فيهِ
- لَيسَ هَمّاً ما عاقَ عَنهُ الظَلامُ
وَاِحتِمالُ الأَذى وَرُؤيَةُ جانيـ
- ـهِ غِذاءٌ تَضوى بِهِ الأَجسامُ
ذَلَّ مَن يَغبِطُ الذَليلَ بِعَيشٍ
- رُبَّ عَيشٍ أَخَفُّ مِنهُ الحِمامُ
كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ
- حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ
مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ
- ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
ضاقَ ذَرعاً بِأَن أَضيقَ بِهِ ذَر
- عاً زَماني وَاِستَكرَمَتني الكِرامُ
واقِفاً تَحتَ أَخمَصَي قَدرِ نَفسي
- واقِفاً تَحتَ أَخمَصَيَّ الأَنامُ
أَقَراراً أَلَذَّ فَوقَ شَرارٍ
- وَمَراماً أَبغي وَظُلمي يُرامُ
دونَ أَن يَشرَقُ الحِجازُ وَنَجدٌ
- وَالعِراقانِ بِالقَنا وَالشَآمُ
قصيدة إذا غامرت في شرف مروم
يقول المتنبي:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ
- فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ
- كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ
سَتَبكي شَجوَها فَرَسي وَمُهري
- صَفائِحُ دَمعُها ماءُ الجُسومِ
قَرَبنَ النارَ ثُمَّ نَشَأنَ فيها
- كَما نَشَأَ العَذارى في النَعيمِ
وَفارَقنَ الصَياقِلَ مُخلَصاتٍ
- وَأَيديها كَثيراتُ الكُلومِ
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ
- وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني
- وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً
- وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ
وَلَكِن تَأخُذُ الآذانُ مِنهُ
- عَلى قَدرِ القَرائِحِ وَالعُلومِ
قصيدة كذا يهجم القدر الغالب للشريف الرضي
يقول الشريف الرضي :
كَذا يَهجُمُ القَدَرُ الغالِبُ
- وَلا يَمنَعُ البابُ وَالحاجِبُ
تَغَلغَلَ يَصدَعُ شَملَ العُلى
- كَما ذَعذَعَ الإِبِلَ الخارِبُ
وَقَد كانَ سَدَّ ثَنايا العَدوِّ
- فَمِن أَينَ أَوضَعَ ذا الراكِبُ
وَهابَت جَوانِبَهُ النائِباتُ
- زَماناً وَقَد يُقدِمُ الهائِبُ
طَواكَ إِلى غَيرِكَ المُعتَفى
- وَجاوَزَ أَبوابَكَ الراغِبُ
وَهَل نَحنُ إِلّا مَرامي السِهامِ
- يَحفِزُها نابِلٌ دائِبُ
نُسَرُّ إِذا جازَنا طائِشٌ
- وَنَجزَعُ إِن مَسَّنا صائِبُ
فَفي يَومِنا قَدَرٌ لابِدٌ
- وَعِندَ غَدٍ قَدَرٌ واثِبُ
طَرائِدُ تَطلُبُها النائِباتُ
- وَلا بُدَّ أَن يُدرِكَ الطالِبُ
أَرى المَرءَ يَفعَلُ فِعلَ الحَديـ
- ـدِ وَهوَ غَداً حَمَأٌ لازِبُ
قصيدة لنا كل يوم رنة خلف ذاهب للشريف الرضي
يقول الشريف الرضي:
لَنا كُلَّ يَومٍ رَنَّةٌ خَلفَ ذاهِبٍ
- وَمُستَهلَكٍ بَينَ النَوى وَالنَوادِبِ
وَقَلعَةُ إِخوانٍ كَأَنّا وَراهُمُ
- نُرامِقُ أَعجازَ النُجومِ الغَوارِبِ
نُوادِعُ أَحداثَ اللَيالي عَلى شَفاً
- مِنَ الحَربِ لَو سالَمنَ مَن لَم يُحارِبِ
وَنَأمُلُ مِن وَعدِ المُنى غَيرَ صادِقٍ
- وَنَأمَنُ مِن وَعدِ الرَدى غَيرَ كاذِبِ
وَما الناسُ إِلّا دارِعٌ مِثلُ حاسِرٍ
- يُصابُ وَإِلّا داجِنٌ مِثلُ سارِبِ
إِلى كَم نُمَنّى بِالغُرورِ وَنَنثَني
- بِأَعناقِنا لِلمُطمِعاتِ الكَواذِبِ
وَهَل يَنفَعُ المَغرورَ قُرَّبَ لِلنَوى
- تَلَوُّمُ مَغرورٍ بِأَرجاءِ جاذِبِ
لُزِزنا مِنَ الدَهرِ الخَؤونِ بِمِصدَمٍ
- يُحَطِّمُ أَشلاءَ القَرينِ المَجاذِبِ
هُوَ القَدَرُ المَجلوبُ مِن حَيثُ لا يُرى
- وَأَعيا عَلينا رَدُّ تِلكَ الجَوالِبِ
نُراعُ إِذا ما شيكَ أَخمَصُ بَعضِنا
- وَأَقدامُنا ما بَينَ شَوكِ العَقارِبِ
قصيدة أراك عصي الدمع شيمتك الصبر لأبي فراس الحمداني
يقول أبو فراس الحمداني :
أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ
- أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ
- وَلَكِنَّ مِثلي لايُذاعُ لَهُ سِرُّ
إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى
- وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ
تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي
- إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ
مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ
- إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ
حَفِظتُ وَضَيَّعتِ المَوَدَّةَ بَينَنا
- وَأَحسَنَ مِن بَعضِ الوَفاءِ لَكِ العُذرُ
وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلّا صَحائِفٌ
- لِأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بَشرُ
بِنَفسي مِنَ الغادينَ في الحَيِّ غادَةً
- هَوايَ لَها ذَنبٌ وَبَهجَتُها عُذرُ
تَروغُ إِلى الواشينَ فِيَّ وَإِنَّ لي
- لَأُذناً بِها عَن كُلِّ واشِيَةٍ وَقرُ
بَدَوتُ وَأَهلي حاضِرونَ لِأَنَّني
- أَرى أَنَّ داراً لَستِ مِن أَهلِها قَفرُ
قصيدة تخطى الليالي معشرًا لا تعلمهم للبحتري
يقول البحتري :
تَخَطّى اللَيالي مَعشَراً لا تُعِلُّهُم
- بِشَكوٍ وَيَعتَلُّ الأَميرُ وَكاتِبُه
وَلِلبُرءِ عُقبى سَوفَ يُحمَدُ غِبُّها
- وَخَيرُ الأُمورِ ما تَسُرُّ عَواقِبُه
فَقُل لِأَبي نوحٍ وَإِن ذَهَبَت بِهِ
- مَذاهِبُهُ عَنّا وَأَعيَت مَطالِبُه
وَكابَدَ مِن شَكوِ الأَميرِ وَوَعكِهِ
- تَباريحَ هَمٍّ يَشغَلُ القَلبَ ناصِبُه
بِوُدِّكَ لَو مُلِّكتَ تَحويلَ شَكوِهِ
- إِلَيكَ مَعَ الشَكوِ المُعَنّيكَ واصِبُه
فَنَغدو نُقاسي عِلَّتَينِ وَيَغتَدي
- صَحيحاً كَنَصلِ السَيفِ صَحَّت مَضارِبُه
وَيَكفي الفَتى مِن نُصحِهِ وَوَفائِهِ
- تَمَنّيهِ أَن يَردى وَيَسلَمَ صاحِبُه
فَلا تَحسِبَن تَركي العِيادَةَ جَفوَةً
- وَلا سوءَ عَهدٍ جاذَبَتني جَواذِبُه
وَمَن لي بِإِذنٍ حينَ أَغدو إِلَيكُما
- وَدونَكُما البَرجُ المُطِلُّ وَحاجِبُه