شعر أبي تمام في الرثاء
شعر أبي تمام في الرثاء
لم يترك أبو تمام غرضًا شعريًّا إلا وكتب فيه الكثير من القصائد التي تتميز بصدق العاطفة وسلاسة اللغة، ومن ذلك قصائده التي قالها في الرثاء ، وسنخصص هذا المقال لعرض أشهر قصائد الرثاء:
قصيدة: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
قال أبو تمام:
كَذا فَليَجِلَّ الخَطبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ
- فَلَيسَ لِعَينٍ لَم يَفِض ماؤُها عُذرُ
تُوُفِّيَتِ الآمالُ بَعدَ مُحَمَّدٍ
- وَأَصبَحَ في شُغلٍ عَنِ السَفَرِ السَفرُ
وَما كانَ إِلّا مالَ مَن قَلَّ مالُهُ
- وَذُخراً لِمَن أَمسى وَلَيسَ لَهُ ذُخرُ
وَما كانَ يَدري مُجتَدي جودِ كَفِّهِ
- إِذا ما اِستَهَلَّت أَنَّهُ خُلِقَ العُسرُ
أَلا في سَبيلِ اللَهِ مَن عُطِّلَت لَهُ
- فِجاجُ سَبيلِ اللَهِ وَاِنثَغَرَ الثَغرُ
فَتىً كُلَّما فاضَت عُيونُ قَبيلَةٍ
- دَماً ضَحِكَت عَنهُ الأَحاديثُ وَالذِكرُ
فَتىً ماتَ بَينَ الضَربِ وَالطَعنِ ميتَةً
- تَقومُ مَقامَ النَصرِ إِذ فاتَهُ النَصرُ
وَما ماتَ حَتّى ماتَ مَضرِبُ سَيفِهِ
- مِنَ الضَربِ وَاِعتَلَّت عَلَيهِ القَنا السُمرُ
وَقَد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ
- إِلَيهِ الحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ
وَنَفسٌ تَعافُ العارَ حَتّى كَأَنَّهُ
- هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ
فَأَثبَتَ في مُستَنقَعِ المَوتِ رِجلَهُ
- وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ
غَدا غَدوَةً وَالحَمدُ نَسجُ رِدائِهِ
- فَلَم يَنصَرِف إِلّا وَأَكفانُهُ الأَجرُ
تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما أَتى
- لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
كَأَنَّ بَني نَبهانَ يَومَ وَفاتِهِ
- نُجومُ سَماءٍ خَرَّ مِن بَينِها البَدرُ
يُعَزَّونَ عَن ثاوٍ تُعَزّى بِهِ العُلى
- وَيَبكي عَلَيهِ الجودُ وَالبَأسُ وَالشِعرُ
وَأَنّى لَهُم صَبرٌ عَلَيهِ وَقَد مَضى
- إِلى المَوتِ حَتّى اِستُشهِدا هُوَ وَالصَبرُ
فَتىً كانَ عَذبَ الروحِ لا مِن غَضاضَةٍ
- وَلَكِنَّ كِبراً أَن يُقالَ بِهِ كِبرُ
فَتىً سَلَبَتهُ الخَيلُ وَهوَ حِمىً لَها
- وَبَزَّتهُ نارُ الحَربِ وَهوَ لَها جَمرُ
وَقَد كانَتِ البيضُ المَآثيرُ في الوَغى
- بَواتِرَ فَهيَ الآنَ مِن بَعدِهِ بُترُ
أَمِن بَعدِ طَيِّ الحادِثاتِ مُحَمَّداً
- يَكونُ لِأَثوابِ النَدى أَبَداً نَشرُ
إِذا شَجَراتُ العُرفِ جُذَّت أُصولُها
- فَفي أَيِّ فَرعٍ يوجَدُ الوَرَقُ النَضرُ
لَئِن أُبغِضَ الدَهرُ الخَؤونُ لِفَقدِهِ
- لَعَهدي بِهِ مِمَّن يُحَبُّ لَهُ الدَهرُ
لَئِن غَدَرَت في الرَوعِ أَيّامُهُ بِهِ
- لَما زالَتِ الأَيّامُ شيمَتُها الغَدرُ
لَئِن أُلبِسَت فيهِ المُصيبَةَ طَيِّئٌ
- لَما عُرِّيَت مِنها تَميمٌ وَلا بَكرُ
كَذَلِكَ ما نَنفَكُّ نَفقِدُ هالِكاً
- يُشارِكُنا في فَقدِهِ البَدوُ وَالحَضرُ
سَقى الغَيثُ غَيثاً وارَتِ الأَرضُ شَخصَهُ
- وَإِن لَم يَكُن فيهِ سَحابٌ وَلا قَطرُ
وَكَيفَ اِحتِمالي لِلسَحابِ صَنيعَةً
- بِإِسقائِها قَبراً وَفي لَحدِهِ البَحرُ
مَضى طاهِرَ الأَثوابِ لَم تَبقَ رَوضَةٌ
- غَداةَ ثَوى إِلّا اِشتَهَت أَنَّها قَبرُ
ثَوى في الثَرى مَن كانَ يَحيا بِهِ الثَرى
- وَيَغمُرُ صَرفَ الدَهرِ نائِلُهُ الغَمرُ
عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ وَقفاً فَإِنَّني
- رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ.
قصيدة: ها إن هذا موقف الجازع
في هذا الشعر قال أبو تمام:
ها إِنَّ هَذا مَوقِفُ الجازِعِ
- أَقوى وَسُؤرُ الزَمَنِ الفاجِعِ
دارٌ سَقاها بَعدَ سُكّانِها
- صَرفُ النَوى مِن سَمِّهِ الناقِعِ
وَلا تَلوما ذا الهَوى إِنَّها
- لَيسَت بِبِدعٍ حَنَّةُ النازِعِ
لَو قَبلَ ما كانَ مَزوراً بِها
- إِذاً لَسُرَّ الرَبعُ بِالرابِعِ
فَاِعتَبِرا وَاِستَعبِرا ساعَةً
- فَالدَمعُ قِرنٌ لِلجَوى الرادِعِ
أَخلَت رُباها كُلُّ سَيفانَةٍ
- تَخلَعُ قَلبَ المَلِكِ الخالِعِ
يُصبِحُ في الحُبِّ لَها ضارِعاً
- مَن لَيسَ عِندَ السَيفِ بِالضارِعِ
رودٌ إِذا جَرَّدتَ في حُسنِها
- فِكرَكَ دَلَّتكَ عَلى الصانِعِ
نوحٌ صَفا مُذ عَهدِ نوحٍ لَهُ
- شِربُ العُلى في الحَسَبِ الفارِعِ
مُطَّرِدُ الآباءِ في نِسبَةٍ
- كَالصُبحِ في إِشراقِهِ الساطِعِ
مَناسِبٌ تُحسَبُ مِن ضَوئِها
- مَنازِلاً لِلقَمَرِ الطالِعِ
كَالدَلوِ وَالحوتِ وَأَشراطِهِ
- وَالبَطنِ وَالنَجمِ إِلى البالِعِ
نوحُ بنُ عَمرِو بنِ حُوَيِّ بنِ عَم
- رِو بنِ حُوَيِّ بنِ الفَتى ماتِعِ
السَكسَكِيُّ المَجدِ كِندِيُّهُ
- وَأُدَدِيُّ السُؤدُدِ الناصِعِ
لِلجَدبِ في أَموالِهِ مَرتَعٌ
- وَمَقنَعٌ في الخِصبِ لِلقانِعِ
قَد أَشرَقَت في قَومِهِ مِنهُمُ
- ناصِيَةٌ تَنأى عَنِ السافِعِ
كَم فارِسٍ فيهِم إِذا اِستُصرِخوا
- مِثلِ سِنانِ الصَعدَةِ اللامِعِ
يُكرِهُ صَدرَ الرُمحِ أَو يَنثَني
- وَقَد تَرَوّى مِن دَمٍ مائِعِ
بِطَعنَةٍ خَرقاءَ تَأتي عَلى
- حَزامَةِ المُستَلئمِ الدارِعِ
يُنفِذُ في الآجالِ أَحكامَهُ
- أَمرَ مُطاعِ الأَمرِ في طائِعِ
يُخلى لَها المَأزِقُ يَومَ الوَغى
- عَن فُرجَةٍ في الصَفِّ كَالشارِعِ
إِنَّ حُوَيّاً حاجَتي فَاِقضِها
- وَرُدَّ جَأشَ المُشفِقِ الجازِعِ
فَتىً يَمانٍ كَاليَماني الَّذي
- يَعرُمُ حَرّاهُ عَلى الوازِعِ
في حِليِهِ النابي وَفي جَفنِهِ
- وَفي مَضاءِ الصارِمِ القاطِعِ
يُجاوِزُ الخَفضَ وَأَفياءَهُ
- إِلى السُرى وَالسَفَرِ الشاسِعِ
أَدَلُّ بِالقَفرِ وَأَهدى لَهُ
- مِنَ الدُعَيميصِ وَمِن رافِعِ
يَعلَمُ أَنَّ الداءَ مُستَحلِسٌ
- تَحتَ جَمامِ الفَرَسِ الرائِعِ
وَالطائِرُ الطائِرُ في شانِهِ
- يُلوي بِخَطِّ الطائِرِ الواقِعِ
أَخفَقَ فَاِستَقدَمَ في هِمَّةٍ
- وَغادَرَ الرَتعَةَ لِلراتِعِ
تَرمي العُلى مِنهُ بِمُستَيقِظٍ
- لا فاتِرِ الطَرفِ وَلا خاشِعِ
وَإِنَّما الفَتكُ لِذي لَأمَةٍ
- شَبعانَ أَو ذي كَرَمٍ جائِعِ
أُنشُر لَهُ أُحدوثَةً غَضَّةً
- تُصغي إِلَيها أُذُنُ السامِعِ
إِن يُرفَعِ السَجفُ لَهُ اليَومَ يَر
- فَعهُ غَداً في المَشهَدِ البارِعِ
فَرُبَّ مَشفوعٍ لَهُ لَم يَرَم
- حَتّى غَدا يَشفَعُ لِلشافِعِ
إِن أَنتَ لَم تَنهَض بِهِ صاعِداً
- في مُستَرادِ الزاهِرِ اليانِعِ
حَتّى يُرى مُعتَدِلاً أَمرُهُ
- بَعدَ اِلتِياثِ الأَمَلِ الظالِعِ
أَكدى الَّذي يَعتَدُّهُ عُدَّةً
- وَضاعَ مَن يَرجوهُ لِلضائِعِ.
قصيدة: عياش زف إليك جهد جاهد
قال أبو تمام :
عَيّاشُ زُفَّ إِلَيكَ جَهدٌ جاهِدُ
- وَاِحتَلَّ ساحَتَكَ البَلاءُ الراكِدُ
ما اللُؤمُ لُؤماً إِن عَداكَ لُبانُهُ
- وَعَدَوتَهُ وَلَهيعَةٌ لَكَ والِدُ
أَلِفَ الهِجاءَ فما يبالي عِرضُهُ
- أَهَجاهُ أَلفٌ أَم هَجاهُ واحِدُ
سَمُجَت بِكَ الدُنيا فَما لَكَ حامِدٌ
- وَسَمَجتَ بِالدُنيا فَما لَكَ حاسِدُ
لَأُنَكِّلَنَّكَ أَن تَكونَ لِشاعِرٍ
- مِن بَعدِها غَرَضاً وَأَصلُكَ فاسِدُ
وَلَأُشهِرَنَّ عَلَيكَ شُنعَ أَوابِدٍ
- يُحسَبنَ أَسيافاً وَهُنَّ قَصائِدُ
فيها لِأَعناقِ اللِئامِ جَوامِعٌ
- تَبقى وَأَعناقِ الكِرامِ قَلائِدُ
يَلزَمنَ عَرضَ قَفاكَ وَسمَ خَزايَةٍ
- لَم يُخزِها بِأَبي عُيَينَةَ خالِدُ
وَاللَهُ يَعلَمُ أَنَّ شِعراً شابَهُ
- فيكَ الهِجاءُ أَوِ المَديحُ لَكاسِدُ
فَاِلبَس ثِيابَ فَضائِحٍ أَسدَيتَها
- أَشراً وَأَلحَمَها أَخوكَ البارِدُ.