شرح عن عذاب القبر
حياة البرزخ
يمرّ الإنسان بعد موته في قبره بحياةٍ تُعرف بحياة البرزخ، فالبرزخ هي الفترة التي يقضيها الإنسان ما بين موته وبعثه للحساب يوم القيامة، وقد أثبت النصوص الشرعيّة أنّ الإنسان في هذه المرحلة وأثناء وجوده في قبره إمّا يتنعّم بنعيم القبر إن كان مؤمنًا صالحًا، وإمّا يناله عذاب القبر إن لم يؤمن بالله تعالى ويلتزم أمره، وفيما يأتي مزيد بيانٍ عن عذاب القبر؛ أدلة ثبوته، وأنواعه، وأسبابه، وسُبل النجاة منه.
الأدلة على ثبوت عذاب القبر
أدلة ثبوت عذاب القبر من القرآن الكريم
وردت آياتٌ عدَّةٌ في القرآن الكريم تشير إلى عذاب القبر وتثبت وجوده، ومنها:
- قول الله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؛ فقد فسّر عددٌ من المفسّرين "العذاب الأدنى" بأنّه عذاب القبر.
- قول الله تعالى: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)؛ فمن المفسّرين من أَوَّلَ "في الآخرة" بأنّ المراد بها أوّل منازل الآخرة، وهو القبر، وعدم الثبات فيه بالإجابة عن أسئلة الملكين سببٌ لعذاب القبر.
- قول الله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)؛ فمن المفسّرين من فسّر قوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) بأنّ المراد بها عذاب القبر، بدلالة أنّه -سبحانه وتعالى- أردف بقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي أنّه عذابٌ سابقٌ لقيام الساعة.
أدلة ثبوت عذاب القبر من السنة النبوية
وردت أحاديث نبويَّةٌ عدَّةٌ عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- تُثبت وجود عذاب القبر، ومنها:
- ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال: "إنَّ العَبْدَ، إذا وُضِعَ في قَبْرِهِ، وتَوَلَّى عنْه أصْحابُهُ، إنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِهِمْ قالَ: يَأْتِيهِ مَلَكانِ فيُقْعِدانِهِ فَيَقُولانِ له: ما كُنْتَ تَقُولُ في هذا الرَّجُلِ؟ قالَ: فأمَّا المُؤْمِنُ، فيَقولُ: أشْهَدُ أنَّه عبدُ اللهِ ورَسولُهُ قالَ: فيُقالُ له: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قدْ أبْدَلَكَ اللَّهُ به مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ قالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: فَيَراهُما جَمِيعًا. قالَ قَتادَةُ: وذُكِرَ لنا أنَّه يُفْسَحُ له في قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِراعًا، ويُمْلأُ عليه خَضِرًا، إلى يَومِ يُبْعَثُونَ".
- ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- وأخرجه الترمذي في سننه بإسنادٍ صحيحٍ، عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال: "إذا قُبِرَ الميتُ (أو قال أحدكم)، أتاهُ ملكانِ أسودانِ أزرقانِ يقال لأحدهما: المُنْكرُ والآخر النّكِيرُ، فيقولانِ: ما كنتُ تقولُ في هذا الرجل؟ فيقولُ ما كانُ يقولُ: هو عبدُ اللهِ ورسولهُ أشهد أن لا إله إلا اللهُ وأن محمدًا عبدهُ ورسولهُ، فيقولان: قد كناّ نعلمُ أنكَ تقولُ هذا، ثم يُفْسَح له في قبرهِ سبعونَ ذراعا في سبعينَ، ثم يُنورُ له فيهِ، ثم يقالُ لهُ: نم، فيقولُ أرجِعْ إلى أهلي فأخبرهُم؟ فيقولانِ: نَمْ كنومةِ العروسِ الذي لا يوقظهُ إلا أحبُّ أهلهُ إليهِ، حتى يبعثَهُ اللهُ من مضجعهُ ذلكَ، وإن كان منافقا قال: سمعتُ الناسَ يقولون فقلتُ مثلهُ لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلمُ أنكَ تقولُ ذلكَ، فيقالُ للأرضِ: التَئِمي عليهِ، فتَلْتَئم عليهِ، فتختلفُ أضلاعهُ، فلا يزالُ فيها مُعَذّبا حتى يبعثهُ اللهُ من مضجعهِ ذلك".
- ما رُوي من دعاء النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّه كان يدعو مستعيذًا من أمورٍ منها عذاب القبر، وذلك في قوله: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ العَجزِ والكسَلِ، والجبنِ والهرَمِ وأعوذُ بِكَ من فتنةِ المَحيا والمماتِ، وأعوذُ بِكَ مِن عذابِ القبرِ".
أسباب عذاب القبر
إنّ لعذاب القبر أسبابًا موجبةً له، منها ما هو عامٌّ كالكفر بالله تعالى والإصرار على معصيته وترك ما أمر به، ومنها أعمالٌ خاصَّةٌ نصّ عليها الحديث الشريف في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَرَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى قَبْرَيْنِ، فَقالَ: إنَّهُما لَيُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أمَّا هذا: فَكانَ لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ، وأَمَّا هذا: فَكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ باثْنَيْنِ، فَغَرَسَ علَى هذا واحِدًا، وعلَى هذا واحِدًا، ثُمَّ قالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عنْهما ما لَمْ يَيْبَسَا"؛ فالنميمة وعدم ستر الجسد والثياب من أن يمسّها البول وعدم الاستنزاه منه.
خصائص عذاب القبر
إنّ لعذاب القبر خصائص وصفاتٍ ذكرها العلماء، من أبرزها:
- أنّ عذاب القبر يقع على الجسد والروح معًا، وفي ذلك يقول ابن تيمية: "بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة".
- لا تسمعه إلا البهائم التي لا تعقل، وقد دل على ذلك ما روته أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حين سأل النبيّ عن عذاب القبر؛ فأجابه عليه الصلاة والسلام: "إنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا فَما رَأَيْتُهُ بَعْدُ في صَلَاةٍ إلَّا تَعَوَّذَ مِن عَذَابِ القَبْرِ"، فدلّ ذلك على أنّ الحيوانات تسمع صوت عذاب من يُعذّبون في قبورهم.
سبل النجاة من عذاب القبر
ثمّة سبلٌ كثيرةٌ تنجي المسلم بإذن الله تعالى وتقيه من عذاب القبر، ومن هذه السبل:
- الاستقامة على طاعة الله تعالى وسنّة نبيّه عليه الصلاة والسلام.
- الإكثار من الأعمال الصالحة كالصلاة والصدقات والذكر وغيرها.
- الشهادة في سبيل الله تعالى.
- تفكّر المسلم في نهاية يومه بما بدر منه من أعمالٍ؛ فإن كان مقصِّرًا سعى إلى تدارك التقصير، وإن كان مذنبًا سارع إلى التوبة الصادقة النصوحة.