شرح سورة المدثر
وصايا للنبي في بدء الدعوة
قال الله -تعالى-: ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّر* قُم فَأَنذِر* وَرَبَّكَ فَكَبِّر* وَثِيابَكَ فَطَهِّر* وَالرُّجزَ فَاهجُر* وَلا تَمنُن تَستَكثِرُ* وَلِرَبِّكَ فَاصبِر* فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقورِ* فَذلِكَ يَومَئِذٍ يَومٌ عَسيرٌ* عَلَى الكافِرينَ غَيرُ يَسيرٍ﴾.
لما أراد الله -سبحانه- بدء نبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ أرسل إليه جبريل -عليه السلام-، فنزل عليه بصورته الحقيقية، ففزع منه النبي، وذهب إلى زوجته خديجة -رضي الله عنها- فقال لها: (دَثِّرُونِي وصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا)، فنزلت الآيات بأمر الله له أن يقوم من دثاره وينذر الناس، ويخوّف أهل مكة من العذاب، ويدعوهم إلى الهداية.
وأن يكون مكبّراً ومنزهاً الله -تعالى- عن كل شرك، مطهراً لثيابه من النجاسات، هاجراً لعبادة الأصنام، ثم تدعو الآيات إلى عدم استكثار الجميل مما قد يُعطى وانتظار أن يُردّ له بالأكثر منه، بالإضافة إلى الصبر على تبليغ الدعوة، حتى إذا جاء البعث، وفزع الجميع منه، كان أصعب ما يكون على الكافرين.
تهديد لزعماء قريش
قال الله -تعالى-: ﴿ذَرني وَمَن خَلَقتُ وَحيدًا* وَجَعَلتُ لَهُ مالًا مَمدودًا* وَبَنينَ شُهودًا* وَمَهَّدتُ لَهُ تَمهيدًا* ثُمَّ يَطمَعُ أَن أَزيدَ* كَلّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنيدًا* سَأُرهِقُهُ صَعودًا* إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ* ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدبَرَ وَاستَكبَرَ* فَقالَ إِن هذا إِلّا سِحرٌ يُؤثَرُ* إِن هذا إِلّا قَولُ البَشَرِ﴾.
نزلت الآيات في الوليد بن مغيرة عندما اتفق مع زعماء قريش على القول بأن النبي ساحر، وقد كان الوليد يسمى بالوحيد؛ لتميّزه بخصاله، وقد جعل الله له مالاً كثيراً، وعدداً من الأولاد الذين يؤنسونه، وجعل له في قومه مكانة خاصة، ثم بعد هذا يطمع بالمزيد من النعم؟! فينفي الله عنه الزيادة؛ لشدة عناده ومخالفته لآيات الله.
فسيعجل له العذاب في الدنيا، ويتغيّر حاله، ويكون له ضعف العذاب بالآخرة، ثم كانت الآيات في موضع الدعاء عليه بالقتل؛ لما كان منه من مكر وحيلة، وطول تفكير وتدبير بما يسوء النبي، حتى استقر على قول أن القرآن سحر من الأقدمين، وأنه كلام البشر.
وصف النار وخزنتها
قال الله -تعالى-: ﴿سَأُصليهِ سَقَرَ* وَما أَدراكَ ما سَقَرُ* لا تُبقي وَلا تَذَرُ* لَوّاحَةٌ لِلبَشَرِ* عَلَيها تِسعَةَ عَشَرَ* وَما جَعَلنا أَصحابَ النّارِ إِلّا مَلائِكَةً وَما جَعَلنا عِدَّتَهُم إِلّا فِتنَةً لِلَّذينَ كَفَروا لِيَستَيقِنَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الَّذينَ آمَنوا إيمانًا وَلا يَرتابَ الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ وَالمُؤمِنونَ وَلِيَقولَ الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ وَالكافِرونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ وَيَهدي مَن يَشاءُ وَما يَعلَمُ جُنودَ رَبِّكَ إِلّا هُوَ وَما هِيَ إِلّا ذِكرى لِلبَشَرِ* كَلّا وَالقَمَرِ* وَاللَّيلِ إِذ أَدبَرَ* وَالصُّبحِ إِذا أَسفَرَ* إِنَّها لَإِحدَى الكُبَرِ* نَذيرًا لِلبَشَرِ* لِمَن شاءَ مِنكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ﴾.
شرح الآية: سقر هو اسمٌ من أسماء جهنم، وستكون مصير كل كافر، لا تبقي منه لحماً ولا دماً، وحولها جمع من الملائكة الغلاظ، وقد جعل الله عددهم فتنة، واختُلف فيه؛ أهم تسعة عشر صنفاً أم عدداً، وهذا كله دليل على صدق نبوة سيدنا محمد.
بالإضافة إلى صدق القرآن الذي وافق كتبهم بعدد هذه الملائكة، حتى لا يبقى شك لديهم أو ظنون، وليضلّ به الكافرين، ولا يعلم حقيقة جنود الله وحالهم إلا هو -سبحانه-، ثم يؤكد الله ويقسم على أن جهنم إحدى المصائب العظيمة التي تخوف الناس وتدعوهم إلى التقدم بالخير، والابتعاد عن التأخر بالشر.
حوار بين أصحاب اليمين والمجرمين
قال الله -تعالى-: ﴿كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت رَهينَةٌ* إِلّا أَصحابَ اليَمينِ* في جَنّاتٍ يَتَساءَلونَ* عَنِ المُجرِمينَ* ما سَلَكَكُم في سَقَرَ* قالوا لَم نَكُ مِنَ المُصَلّينَ* وَلَم نَكُ نُطعِمُ المِسكينَ* وَكُنّا نَخوضُ مَعَ الخائِضينَ* وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدّينِ* حَتّى أَتانَا اليَقينُ* فَما تَنفَعُهُم شَفاعَةُ الشّافِعينَ﴾.
تبين الآيات أن كل نفس مقيّدة بعملها، مغلولة به، إلا أصحاب اليمين الفرحين المتنعمين بجزاءهم، والذين يتساءلون عن حال أهل النار، وعن سبب دخولهم إليها، فيأتيهم الجواب من أصحابها أنهم امتنعوا عن عبادة الله، وعن نفع خلقه المحتاجين، وكَثُرت مجادلتهم بالباطل، مع التكذيب بيوم القيامة، حتى جاءهم الدليل القاطع بالموت، فانقطعت عنهم الشفاعة، إذ لا تقبل في حقهم.
المعرضون عن القرآن
قال الله -تعالى-: ﴿فَما لَهُم عَنِ التَّذكِرَةِ مُعرِضينَ* كَأَنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفِرَةٌ* فَرَّت مِن قَسوَرَةٍ* بَل يُريدُ كُلُّ امرِئٍ مِنهُم أَن يُؤتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً* كَلّا بَل لا يَخافونَ الآخِرَةَ).
دتتعجب الآيات من المعرضين عن أمر الله، فكأنهم حمر وحشية نفرت مذعورة من صائد لها، ولم يكفهم هذا كله، بل طالبوا النبي بأن يكون لكل واحد منهم كتاباً مبسوطاً؛ حتى يؤمنوا به ويصدّقوه، فجاءهم الردع والزجر من الله -سبحانه- لأنهم حقاً لا يخافون العذاب في الآخرة، ولا يعلمون حقيقته الشديدة.
القرآن موعظة بليغة
قال الله -تعالى-: (كَلّا إِنَّهُ تَذكِرَةٌ* فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ* وَما يَذكُرونَ إِلّا أَن يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهلُ التَّقوى وَأَهلُ المَغفِرَةِ﴾.
يؤكّد الله -سبحانه- على أن القرآن الكريم كتاب تذكرة للحق والاتعاظ، فمن أراد التذكر والعبرة، كانت له السعادة في الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا بعد إرادة الله ومشيئته، فهو المستحق بأن يطاع ويتقى، وهو الوحيد القادر على المغفرة، وقبول التوبة من عباده.
الدروس المستفادة من سورة المدثر
بعد تفسير الآيات الكريمة نستخلص من هذه السورة العظيمة بعض العبر والدروس، نذكر منها:
- الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبرٍ وجهاد.
- عدم التمنن بالعطاء وترك انتظار رده من الآخرين.
- شكر الله -تعالى- على النعم، وحفظها من التبديل يكون باتباع أمره.
- نفع الناس من المحتاجين، وإطعام الطعام سبب لاتقاء النار يوم القيامة.
- القرآن كتاب الله الخالد، ومليء بالعظمة والتذكرة.